الفقه بين التجديد والتقييد


الفقه اجتهادٌ بشريّ لمعرفة مراد الله تعالى ونبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم من النصوص، قام به متخصّصون عبر التاريخ الإسلاميّ، وفق قواعد تضبط محاولاتهم للفهم.

وقد جاءت تلك المحاولات التراكميّة عبر العصور لتجعل الفقه ثروة حقيقية لهذه الأمة، تعاقَبَ على تنقيحها علماءُ كبارٌ وأئمةٌ عظماءُ كانوا بحورا في الطب والفيزياء والكيمياء كما كانوا أئمةً في أصول الفقه والتفسير، وبرعوا في الفَلَكِ والرياضياتِ والفلسفةِ والكلام كما كانوا أئمةً في الفقه والحديث، كان منهم المخترعون والحرفيّون وأصحابُ الصنائع كما كانوا يشتغلون بطبّ النفوس وأسرارِها والحياةِ الاجتماعيّة وعلومها وأحوال القبائل وعاداتها فبلغوا الغاية في العلوم الشرعيّة بتكاملها مع العلوم الأخرى.

في علم الفقه مباحثُ من علم النفس وعلوم الاجتماع والفلسفة والتربية والاقتصاد وطرائق التدريس ووسائل الصناعات، وهي مبثوثة في مطولاته من الشروح والحواشي التي أعرض الناس عنها، واكتفوا بنظريات واردة من أعدائنا في تلك العلوم.

إنّ الفقه الإسلاميّ ذاته ما هو إلاّ مدرسةٌ متكاملة الجوانب، فمن أغفل بابا منه لم تتشكّل عنده النظرة الشرعيّة لأي أمرٍ من الأمور، وفاته معرفة نظرة الإسلام الشاملة، ومن الخلل الحديث عن فرض الإسلام للذكر مثل حظّ الأنثيين دون معرفة أنّ الله فرض عليه المهر والنفقات على زوجته وعياله، وفرض عليه العمل والكسب!

إنّ ترك بابٍ من الفقه أو إغفالَه في الدرس العلميّ وفي الاستدلال النظريّ في الواقع ما هو إلا هروبٌ من استحقاق الجواب عمّا يثيرُه أعداءُ هذا الدين من إشكالاتٍ تجاه هذا الباب! وما يتكلّم به (الحداثيون التنويريون) كما يسمّون أنفسهم عن مباحث هذا الفقه، وإنّ من يضعف الإيمان في قلبه سيجدُ حرجًا في قلبه من بعض أحكام مذكورة في القرآن العظيم، وقد يبحث عن حذف لآيات الجهاد وقتال الكافرين، وقد يقلّل قراءة آيات الأمر بالشدّة على الكافرين والغلظة عليهم، وسيبحث عن مخارج لآيات رفع الرجال على النساء درجة وجعل القوامة لهم دونهنّ، وقد يجتهد في تحريف معنى قوله تعالى: (واضربوهنّ) ليجعلها عدم النظر إلى المرأة والإعراض عنها فحسب!

قد يجتهد من ضعف الإيمان في قلبه فوجد حرجا من آيات الكتاب وأحكامه في حذف آيات العبيد والإماء وجواز وطئهنّ مهما بلغ عددهنّ وإلقاء هذه الآيات والأحكام التي بناها الفقهاء عليها في زوايا النسيان؛ علّها تنسى فلا تحرجه أمام قوّة غزو العالم الغربيّ الفكريّة لأمّتنا، وأمام سيل الشائعات المريضة التي يثيرها التافهون حول أعظم نظام عرفته البشرية لضبط الغرائز والشهوات وتنظيم المعاملات والعلاقات.

 

إن القارئ للفقه ومباحثه يلحظ توزّع أفكار النظرية الإسلاميّة الواحدة (الاقتصادية مثلا) في مباحث الفقه المتنوّعة، فيجد أجزاء النظرية الاقتصاديّة في كتاب الطهارة في مسألة شراء الماء للوضوء، وفي مباحث الصلاة في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب، ويجد مباحث الزكاة كلَّها تدورُ حول هذه النظرية، وجزءًا غير قليل من مسائل الحجّ متعلّق بالجانب الاقتصاديّ كذلك، كما يجد أجزاء كثيرةً من هذه النظريّة في أبواب المعاملات الماليّة من البيع والإجارة والكفالة والوكالة والرهن والمزارعة والمساقاة، كما يجدها في أحكام الأسرة في المهر والنفقة والطلاق وغيرها، ويجدها في أبواب الجهاد والقضاء والشهادات وغيرها، وبعد استقراء هذه الأبواب سيتعرّف القارئ إلى النظرية الاقتصادية في فقه أبي حنيفة مثلا، وسيجد فيها اختلافا في الأصول والمنطلقات والنظرة العامة عن فقه الإمام الشافعيّ، وسيلحظ الفرق في النظرية بينهما وبين ما عند مالك وأحمد رحمهم الله تعالى جميعا ورضي عنهم.

كما يلحظ في النظرية الاجتماعية نظرة كلّ إمام إلى أسس تلك النظرية من الحرية الشخصية، وتقدير الأسرة، والاهتمام بقاعدة المسؤولية الفردية، والتعرّف إلى أهميّة المسؤوليّة الجماعيّة، وقواعد العلاقة بين الأفراد في المجتمع وبين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات، وغير ذلك من قواعد النظرية ومفرداتها، حين يطالع أبواب الفقه التي تناثرت فيها تلك النظريات، ولا يدركها إلا من طالع كلّ الأبواب مطالعة متأنيّة، وقرأ مختصراتٍ وشروحًا وحواشيَ كتبَها العلماءُ وأجابوا فيها عن إشكالاتٍ أثيرت عليهم من أهل مذهبهم ومن أرباب المذاهب الأخرى، ممّا أدّى إلى تكامل تلك النظريّات، وإن لم تدوّن استقلالاً في أسفار خاصّة بها.

ولا ريب أنّ الله تعالى جعل بعض الشرع ثابتا قطعيا وبعضه متغيرًا ظنيًّا، وهذه الظنيّات على نوعين؛ فمنها ما بني على النصوص وفهمها، ومنها ما بني على الأعراف والمستوى العلمي والتقنيّ الذي بلغته البشرية في زمن من الأزمان ممّا يمكن أن يؤثر في الأحكام.

فمعرفة المسافات والأحجام والمقادير والمعايير اختلفت في الدقة والنوع عن الأزمنة الماضية، وتمعيرت هذه المقادير بمعايير واضحة دقيقة، وكذلك اكتشفت أمراض وعلاجات، وتعرّف الأطباء إلى تشريح الجسم تعرّفًا دقيقًا، وصارت المعاملات المالية متنوّعة إلى درجة تطوّرت معها.

 

 

نعم إنّ المياه الطاهرة هي التي تنزل من الصنبور (الحنفيّة) في بريطانيا، لكنّها ليست هي التي تنزل من الصنبور في مخيمات اللجوء، ولا في أماكن الزلازل ولا في فترات التهجير والتفجير وبين البيوت التي دمرتها البراميل! وحين يُنظّر (المحدّثون للفقه) بمثل هذه الطريقة سنجد عجبًا في أفكارهم التي لا تلامس الواقع الذي يدّعون الهروب إليه!

لكننا بحاجة إلى مباحث المياه التأصيليّة المذكورة في كتب الفقه لنعرف حكم الماء المكرر وحكم الماء المحلّى وحكم الماء المصنّع وحكم الماء الذي يأتي في الحنفيّات مع الكلور والمعقّمات، نحن بحاجة إلى معرفة أحكام المياه التأصيليّة الواردة في كتب الفقه لأنّ جزءا غير قليل من أمّتنا ما يزال يعاني الأمرّين في طبيعة حياته فيعيش جحيمًا في أفريقيا وميانمار ومخيمات اللجوء.

إنّ فقه الإماء والعبيد جزءٌ أصيلٌ من تراثنا الإسلاميّ المتكامل، وجزءٌ من أحكامه ثابتةٌ في كتاب الله تعالى، ولو أراد الله لهذا الفقه أن يكون مما بني على الواقع فحسب، أو ممّا أدركه الفاهمون للدين الفاقهون به بأعرافهم، أو أن يترك لتغيّر الأزمان وأحوال المكلّفين لما ذكرهُ في كتابه، إنّ الاطّلاع على هذا الفقه ومعرفته جزءٌ من تدبّر كتاب الله تعالى، وجزء من فهم الكتاب العظيم الذي لا يجوز لأحد أن يهمله تحت أيّ ذريعة كانت، ولا أظنه يبتعد كثيرًا عمّن يؤمن ببعض الكتاب ويترك بعضه، فهذا الجزء أصيلٌ كغيره، ولا نفضّل بعض الكتاب على بعض في الأخذ والعمل.

 

وممّا يؤمن به المسلمون ويكادون يعتقدون صحّته وتحقّقه صدق وعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) ويجمعون على أنّ التجديد لم يكن يومًا ترقينًا لقيد مبحثٍ، ولا إلغاء لأبواب، ولا نسخًا لأحكامٍ، ولا إبطالًا لجزءٍ من أجزاء هذا الفقه العظيم، بل كان بناءً على ما سبق وتتميمًا لما ذكره من سبقهم.

إنّ حركة الفقه التطويرية التجديدية من أقوى الحركات العلمية في التاريخ الإسلامي المعاصر وما قبله، ودليل ذلك وجود مصنّفات كثيرةً في كلّ عصر، فلم يخل عصرٌ من مصنّفاتٍ كاملة تراعي التغيّرات التي توجد في عصر مصنّفي تلك الكتب، والحال كذلك في عصرنا، إلاّ أنّ من كتب لم يأت لإلغاء ما سبقه، ولم نسمع أحدًا يقول: إنّي لا أريد الاعتماد على من سبقني، بل أريد التجديد المقتضي لإلغاء السابق! بل كان كلّ واحدٍ من المجدّدين يبني على جهود السابقين، ويؤكّد على دورهم ويقرّ بفضلهم.

واليوم ندعو إلى تجديد الفقه، تجديدًا يتّسق مع تقدير السابقين، ويعيد إليه دوره في الحياة، ويتحقّق به مراد الله تعالى من المكلّفين، تجديدًا يساير به واقع الحياة ويفسد به شبه المغرضين، ويدفع الريبة عمن وجد في نفسه موجدة إذ عُرض شرع الله في الفضاء، وتملّكه الحرج حين ذُكرت بعض الأحكام.

فمن الضروري اليوم أن يعيد المتخصصون (المجتهدون) نظرتهم في كتب الفقه إلى بعض المسائل وأن يضيفوا إليها بعض المباحث بحسب حاجة المكلّفين، ومن ذلك:

أولا: المسائل التي تغيّرت التصوّرات عنها بسبب تجدد بعض العلوم المتعلقة فيها، أو وجود معايير جديدة لها من الوزن والكيل أو المسافة والوقت، ونحو ذلك من الأمور، كمسافة السفر ووقت المسح على الخفين ومعرفة مواقيت الصلاة ودخول الشهر بالحساب الفلكيّ وغير ذلك.

ثانيًا: المسائل التي ركّبت من مسائل كثيرة متعدّدة، فيجب تخريجها على المذكور في كتب الفقه، كمسألة (الكردت كارد) التي بنت البنوك الإسلاميّة العلاقة بين أطرافها الثلاثة: (البنك والمستفيد والتاجر) على علاقات شرعيّة ذكرها الفقهاء في كتبهم من الوكالة والكفالة والحوالة والضمان وأحكام كلّ واحدةٍ من هذه المعاملات.

ثالثًا: المسائل المستحدثة على غير مثال سابق: كمسألة الإبرة للصائم، فهذه يجب الاستفادة من تعريف الفقهاء للجوف، وتعريفهم للمفطر، وحديثهم عن صورة المفطر ومعناه، ومفهوم الدخول عندهم، وغير ذلك من المسائل لمعرفة حكمها.

رابعًا: المسائل الإدارية التي وجدت في عصرنا الحاضر، وأحكام ذلك وفق قواعد السياسة الشرعية، وأحكام الشريعة الأصليّة، ومن ذلك تغيّر تصوّرات المعاصرين حول الدور، فلم تبق دار إسلام ولا دار حرب، لكن بقي محاربون لدين الله تعالى، وبقيت أمم تسعى لإضعاف أمّتنا، وتسيطر عليها، وتسلّط الظالمين على رقاب أبنائها، وإن كان يعيش فيها بعض المسلمين، ويزعمون أنّهم يجدون ثمّة أمانًا لا يجدونه في بلاد الإسلام! فلا بدّ من إيجاد أحكام تناسب هذا الواقع.

خامسًا: النظر في الأحكام التي بنيت على الأعراف في العصور الماضية دون أن يكون لها مستندٌ نصّيّ أو مستندٌ من عمومات الشريعة وأسسها العامة، والنظر في تجدد الأعراف، وتغيير الأحكام بما يتناسب مع الشريعة، ولا يجوز في مثل هذه الأحكام أن يكون المنطلق هو تجديد الأحكام وفق مرادات المجتمع الدولي من الأمة، أو النظر إلى عاداتهم الفاسدة وأعرافهم المخالفة للفطرة ليسايرها المجتهدون المسلمون المعاصرون.

سادسًا: البحث عن الحكمة من الأحكام ومقاصدها وفق المخترعات الحديثة والعلوم المعاصرة، والمكتشفات الأخيرة، واستقراء فلسفة التشريع، وجمع المتماثل منه، لمعرفة قواعده وأصوله، وهذا ممّا يثبّت الإيمان في عصر تكاثر الشبه على عقول المسلمين، وتشككهم في أحكام الشريعة.

 

وختامًا نستطيع أن نقول إنّ الأمّة ننتظر مصنّفا معاصرًا في الفقه يتضمن هذه المسائل ويبنيها على ما سبقه إليه السابقون مع ذكر المسائل القديمة أو الإشارة إليها، ولسان حال كاتبه يقول: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان).

 



*الكاتب د. أيمن الجمّال أستاذ القضايا الفقهية المعاصرة في جامعة السلطان محمّد الفاتح الوقفية في إسطنبول

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين