القدر والآجال 3-3

 

كما قدَّر الله تعالى الأرزاق، قدَّر الآجال والأعمار، فالعمر محدود ومعلوم، سبق بتحديده القدر، فكل امرئ معلوم أنه سيعيش كذا وكذا سـنة، عشريـن أو سبعـين أو مائة أو أكثر، وسُجِّل ذلك في كتاب عند الله. وإذا جاء أجله لا يؤخَّر ولو لحظة واحدة. وهذا ما نطق به القرآن الكريم، كما قال تعالى:[وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المنافقون:11}. وقال تعالى:[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {الأعراف:34}.

والمراد بالساعة هنا: اللحظة من الزمن، وليست الساعة الفلكية التي هي ستون دقيقة.

ولما قُتل في غزوة أحد من المسلمين من قُتل، وأخذ المنافقون من ذلك قضية يلوكونها بألسنتهم، ويلومون المسلمين على خروجهم لقتال المشركين، وأنَّ إخوانهم الذين قتلوا لو كانوا عندهم، ولم يخرجوا للقتال؛ ما ماتوا، وما قُتلوا، فردَّ عليهم القرآن أبلغ الرد، مُندِّدا بهم وبموقفهم، فقال:[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] {آل عمران:154}.

وقال عز وجل:[وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ] {فاطر:11}.

والمُعَمَّر: من يعيش عمرًا طويلا في العادة. ومن ينقص من عمُره: من يعيش عمرًا قصيرًا، قدَّره بعضهم بما قبل الستين. والضمير في (عمره) عائد على الجنس لا على العين؛ لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره.

قال ابن جرير: ((وهذا كقولهم: عندي ثوب ونصفه. أي: ونصف ثوب آخر. وقولهم: لا يثيب الله مكلفا ولا يعاقبه إلا بحق، والمعاقب غير المثاب، ولكن المراد: الجنس" ( 1 ).

وجاء عن ابن عباس في تفسير الآية: ليس أحدٌ قضيت له بطول العمر والحياة، إلا وهو بالغ ما قدَّرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له. فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدَّرت لا يزاد عليه، وليس أحد قدَّرت له أنه قصير العمر والحياة، ببالغ العمر (أي الطويل)، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله:[وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ] {فاطر:11} يقول: كل ذلك في كتاب عنده ( 2 ).

وبعضهم فَسَّر:[وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ] {فاطر:11} بمعنى ذهاب العمر قليلًا قليلًا: سنة بعد سنة، وشهرًا بعد شهر، وجمعة بعد جمة، ويوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتابه( 3 ).

ومنهم من فسَّر نقص العمر بقلَّة البركة فيه، والزيادة في العمر ببقاء البركة فيه، كما قال ابن عطاء الله: رُبَّ عمر اتسعت آماده وقلت أمداده . ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده ( 4 ). وجاء في ذلك الحديث الشريف: "من سرَّه أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ في أثره (أي في أجله) فليصل رحمه" ( 5 ).

ونعود هنا إلى بيان معنى تقدير الآجال، قصيرة أو طويلة، لنبيِّن أنها مقدَّرة مع أسبابها، وليست منفصلة عنها، كما يتوهَّم عوام الناس.

فمن قُدِّر له طول الأجل: قُدِّر له أنه سيتهيَّأ له من الأسباب، من توافر الغذاء الصحي، وطيب الهواء النقي، وممارسة العمل البدني أو الرياضي المناسب، والابتعاد عما يضر بالبدن تناوله، من المسكـرات أو المخـدِّرات أو الأشـياء الضـارة كالتدخـين، أو طول السهر، أو ارتكاب المحرمات.. فهو بهذه الأسباب يطول عمره، وهذه الأسباب مقدرة كمسبباتها.

ومن قُدِّر له قصر العمر، قُدِّر له: إنه سيُبتـلى بسـوء التغذيـة، أو سـوء التهويـة، أو الإصابة بعدوى، أو تناول ما يضره ويـؤذيـه، أو يصـيـبـه حـادث فـي طريـق، أو يموت في كارثة عامة كالزلزال، أو يقتله قاتل عمدًا أو خطأ، فيموت وينتهي أجله بواحد من هذه الأسباب أو غيرها. ولكنه مات في وقته المقدَّر له، وفي (أجله المسمى) عند الله.

فلا انفصال في الأقدار بين المسبَّبات وأسبابها بحال، وخطأ الناس هنا دائمًا يتمثل في تصورهم تقدير المسبَّبات كالموت والقتل والحوادث والأمراض بمعزل عن الأسباب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد فصَّل في ذلك حين سئل عن الأدوية: هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: "هي من قدر الله"( 6 ). فما أحكمه وأبلغه وأوجزه من جواب!

 

الحلقة السابقة هنا

*   *   *

 

 

 ( 1 ) تفسير ابن جرير (20/448).

 ( 2 ) رواه البيهقي في القضاء والقدر (261).

 ( 3 ) انظر: تفسير ابن كثير (6/538- 539)، طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع، تحقيق : سامي سلامة.

 ( 4 ) الحكمة (259) من الحكم العطائية.

 ( 5 ) متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر والصلة (2557)،عن أنس بن مالك.

 ( 6 ) سبق تخريجه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين