القدر والأرزاق 2-3

ومن مضامين القدر التي حدث فيها الخلط وسوءُ الفهم: ما يتعلق بـ(الأرزاق).

والمراد بالرزق: حظُّ الإنسان من طيِّبات الحياة، ومن أضدادها، من سعة المأكل والمشرب، والملبس والمسكن، والمال والزوجة والولد، وسائر ما يحرص الناس عليه من متاع الحياة، وما يقابلها، فكلها داخل في مفهوم (الرزق).

وهذا الرزق مقدَّرٌ مقسومٌ للإنسان من الله تعالى، فمنهم من قدّر له السَّعَة في رزقه، ومن قدر عليه الضيق، ومنهم الوسط. ورازق الجميع هو الله تعالى، كما قال:[إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] {الذاريات:58}.

وهو الذي تكفَّل بتهيئة الرزق للجميع، كما قال سبحانه:[وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ] {هود:60}.[وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {العنكبوت:60}.

وكثير من الناس يفهمون من قولنا: إنَّ الرزق مُقدَّر مقسـومٌ مـن الله تعـالى: أنـه لا فائدة في السَّعي لطلب الرزق، وأنَّ من قدَّر الله له الغنى سيغتني، وإن قعد في بيته، ومن قدَّر عليه الفقر سيفتقر، وإن كان من أذكى الناس وأنشطهم، وأكثرهم سعيًا وكدحًا.

فالحق أنَّ الله تعالى قدَّر الرزق مقرونًا بسببه، فإنَّ الأسباب مقدَّرة، كما أن مسبَّباتها مقدَّرة. فالله تعالى قدَّر أن فلانًا يُعمل عقله وذكاءه، ويُجهد جسمه وأعضاءه في الكدِّ والاجتهاد في طلب المعايشة، فيوسّع عليه في الرزق، وآخر يخلد إلى الكسل، ويرضى بالدون، وبالعيش الهُون، فيضيّق عليه في الرزق.

ولهذا قال تعالى:[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] {الملك:15} ، ومعنى الآية: أنَّ من اجتهد، وسعى، ومشى في مناكب الأرض، والتمس الرزق في خباياها؛ أكل من رزق الله. ومن تقاعس، ولم يمش في مناكب الأرض؛ لم يستحق أن يأكل من رزق الله تعالى.

وضمان الله تعالى لرزق الأحياء، وأن عليه رزق كل دابة في الأرض: يعني أنه هيَّأ لها أسباب الرزق في هذه الأرض برها وبحرهـا. فـالله تـعـالـى حـين خلـق الأرض، بارك فيها وقدر فيها أقواتها.

وقبل أن يخلق الله تعالى البشر، ويمكَّنهم في الأرض، جعل لهم فيها معايش كما قال تعالى:[وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ] {الأعراف:10}  ثم قال:[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ] {الأعراف:11} ، فدلَّ القرآن على أن تهيئة المعايش والأرزاق للناس قد تمَّت قبل أن يخلقهم.

ولكن سنَّة الله تعالى: ألا يُنال الرِّزقُ إلا بسعي وعمل، وهذا ما أمر به الشرع أيضًا. فسُنَن الله في خلقه، وأوامره في شرعه، تُوجب على الإنسان أن يعمل لكسب رزقه. فمن قعد عن الكسب فقد خالف السُّنن الكونيَّة، والأحكام الشرعيَّة معًا.

وعندما رأى عمر رضي الله عنه جماعة يقعدون في المسجد بعد صلاة الجمعة وقد انتشر الناس، سألهم: من أنتم؟ قالوا: متوكِّلون! قال: بل أنتم متواكلون! لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهمَّ ارزقنى، وقد علم أنَّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة! وإنما يرزق الله تعالى الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قول الله تعالى:[فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الجمعة:10} .

هذا هو منطق الصحابة في فهم الرزق. السَّعيُ والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، وليس القعود والتواكل بدعوى التوكل، والاعتماد على أنَّ الرزق مقسوم، وما كان لك سوف يأتيك. فهذه دعاوى غير مسلمة على علتها. ولذا نرفض قول الشاعر:

جرى قلم القضاء بما يكون=فسيان التحرُّك والسكون!

جنون منك أن تسعى لرزق=ويُرزق في غشاوته الجنين!( )

 

فإنَّ ما قاله هذا الشاعر هو الجنون، فإنَّ الشارع قد أمرنا أن نسعى لكسب أرزاقنا، زارعين وصانعين ومحترفين، وصائدين وتاجرين، وعاملين في شتَّى مجالات الحياة، متعبِّدين لله تعالى بذلك، حتى سمَّى الله طلبَ الرزق: الابتغاء من فضل الله، وهي تسمية توحي بالرضا والقبول، وتحدَّث القرآن عن عُمَّار المساجد، فقال:[رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ] {النور:37} ، فليسوا دراويش متبطلين، إنما هم (رجال أعمال) كما نقول في عصرنا.

واعتبار الشاعر السعي للرزق جنونًا؛ لأن الجنين يرزق في غشاوته: مردود عليه؛ لأن الجنين لا يملك أن يسعى، فكان من سنَّة الله أن يرزق في غشاوته. فأين الإنسان المكلَّف من الجنين في بطن أمه؟!

أسباب تفاوت الناس في الأرزاق: 

صحيح أن من الناس الأذكياء، من يكدح ويجتهد ويصل الليل بالنهار، ولا يناله من الرزق إلا القليل، ومنهم من يبذل من الجهد القليل، ويأتيه الرزق الكثير، ومنهم من يأتيه الرزق بغير جهد ولا كلل، وهذا يكون لعدَّة أسباب:

1- أن يكون هناك خلل في الأوضاع وعوج في الأنظمة، فيأتي توزيع الثروة غير عادل، وهذا لا يجوز أن يستمر، ويجب أن يصلح ويعدل.

2- أو تكون الأوضاع الطبيعيَّة غير متكافئة، فمن يعمل في بيئة خصبة مساعدة، غير من يعمل في بيئة قاحلة تعوقه، ولا يتوقع أن تكون فرصة من يعمل في أمريكا مثل من يعمل في صحراء أفريقيا.

3- أو تكون هناك أقـدار لا يعـرف الإنسـانُ سـرَّهـا، يسمِّيـها بعـض الـناس الحـظ أو البخت أو الطالِع.. أو نحو ذلك، ويسمِّيها المؤمنون (حكم القدر). فقد نجد تاجرَيْن متجاوِرَيْن، يبيعان سلعة واحدة، بأسعار واحدة، وأحدهما لا يكاد يدخل عليه أحد، والآخر على محله زحام دائم! وهذا ما شاهدناه بأعيننا كثيرا.

ونجد من الناس عاملًا متقِنًا، أو صانعًا متقِنًا، ولكنه لا حظَّ له، وهو الذي يقول عنه المثل العامي: (سبع صنايع، والبخت ضايع)!

وآخر ليس له هذه الموهبة، ولكنه سعيد الحظ، لا يكاد يضع يده في شيء إلا ربح، وتنهال عليه المكاسب دون أن يدبِّر لها أمرًا.

وقد يرزق الله الإنسان من فضله بلا جهـد مـنـه، كمـريـم عليـها السـلام،[فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {آل عمران:37}.

هنا ينفع الإيمان بما قدر الله، والرضا بما قسم، ففيه راحة وسكينة للنفس، كما جاء في الحديث: "ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"( ). وهذا هو (غنى النفس) الذي جاء في الحديث الصحيح: "وليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، إنَّما الغنى غنى النفس"( ).

ولا ريب أن التفاضل في الأرزاق من سنن الله في الوجود كما قال تعالى:[وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ] {النحل:71}.

ولكن ممَّا لا ريب فيه أيضًا: أنَّ بعض هذا التفاضل من ظلم الناس بعضهم لبعض، ومن سُوء توزيع الثروة بين أهل الوطن الواحد، فلا ينبغي أن يحمل هذا على كاهل القدر، وأن يؤدِّي هذا إلى التشكيك في عدل الله تعالى وحكمته في خلقه حتى قال بعضهم:

كم عاقل عاقل تلقاه مفتقرًا=وجاهل جاهل تلقاه مرزوقًا

هذا الذي ترك الألباب حائرة=وصيَّر العالم النحرير زنديقا( )

 

وقد علَّق على ذلك الإمام الراغب الأصفهاني في باب: سبب إخفاق العاقل، وإنجاح الجاهل، فقال: ((الحكمة تقتضي أن يكون العاقل في أكثر الأحوال مُقِلًّا، وذلك أنـه لا يأخذ المال إلا كما يجب، من الوجه الذي يجب، وفي الوقت الذي يجب، ثم إذا أخذه وتناوله لم يدَّخره عن مكرُمة تعِنُّ له.

والجاهل أسهل عليه الجمع من حيث لا يبالي فيما يتناوله، بارتكاب محظور، واستباحة محجور، واستنزال الناس عما في أيديهم بالمكر، ومساعدتهم على ارتكاب الشر، طمعًا في نفعهم له.

وكثيرًا ما ترى مَن هم في جملة الموصوفين بقوله تعالى:[فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ] {البقرة:200} ، شاكِين لبختهم، فبعضهم يغضب على الفلك، وبعض يعتب على القدر، وبعضهم يتجاوز الأسباب، فيعاتب اللَّه تعالى.. وذلك لحرصهم على ارتكاب المقابح، ولجهلهم بما يُقيِّض الله لعباده من المصالح.

وقول الشاعر:

هذا الذى ترك الألبابَ حائرة=وصيَّر العالم النِّحرير زنديقَا

فالذي يَصِير بذلك زنديقًا، فبأن يُسمَّى الجاهلَ الشريرَ أولى من أن يُسمَّى العالم النحرير))( ).

الحلقة السابقة هنا

------------

  - انظر الإحياء (2/ 62).

 ( ) نسبه الثعالبي في (خاص الخاص) إلى أبي الفرج بن هندو، ونسبه غير واحد إلى أبي الخير الكاتب الواسطي.

 ( ) رواه أحمد (8095) وقال مخرِّجوه: حديث جيد، والترمذي في الزهد (2305) وقال: حديث غريب، عن أبي هريرة.

 ( ) متفق عليه: رواه البخاري في الرقاق (6446)، ومسلم في الزكاة (1051)، عن أبي هريرة.

 ( ) البيتان لابن الراوندي.

 ( ) الذريعة إلى مكارم الشريعة بتحقيق دكتور أبي اليزيد العجمي، نشر دار الوفاء بمصر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين