الكتاب والسنة الصفات التي يشتركان فيها، والصفات التي تخص كلاً منهما

 

أساس التشريع في الدين هو الكتاب العزيز، وهو كلام الله المنزَّل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز، المتعبد بتلاوته، المتحدى بأقصر سورة منه، وعنه تفرعت الأصول الأخرى، فهو أساس السنة، ودليل الأخذ بها في قوله تعالى:[ َمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] {الحشر:7}. وفي قوله جل شأنه: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ] {آل عمران:31}. وقوله عزَّ وجل:[مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ] {النساء:80}. وغير ذلك من الآي الدالة على أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر وفيما نهى، وإتباعه فيما فعل، وفيما قرر من الأعمال، كل ذلك أمر به الله تعالى، فمن هنا كانت السنة من الأصول التي تؤخذ منها أحكام الله تعالى.

والسنة: هي أقواله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وتقريراته، ويتفرع عنهما أصول أخرى تؤخذ منها الأحكام، ويستدل بها عليها، كالإجماع المستدل عليه من الكتاب بقوله تعالى:[وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:115}. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وكالقياس المستدل عليه من الكتاب، بقوله تعالى:[ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ] {الحشر:2}. ومن السنة، بتقريره صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه في قوله وقد سأله حين بعثه لأهل اليمن ليقضي بينهم: (بم تقضي بينهم؟ فقال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد ؟ قال: أقيس الشيء بالشيء) فأقره على ذلك، وقد يكون هناك أصول أخرى قال بها بعض الفقهاء، وردها بعضهم إلى ما ذكره.

وليس غرضنا في هذه الكلمة بيان كل واحد من تلك الأصول، وإنما نريد أن نجلو معنى كل من الكتاب والسنة، وما يشتركان فيه من الصفات، وما يخص كلاً منهما، فهما مشتركان في أن كلاً منهما موحى به من قبل الحق عزَّ وجل، ولولا ذلك ما وجبت الطاعة، فإن الطاعة والعبودية والعبادة إنما تكون للسيد الأعلى، والمالك القادر، والرب الخالق المنعم، والمهيمن المسيطر، [وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ] {الأنعام:18}. وطاعة من عداه إنما جاءت من أجل أمره هو جل شأنه بطاعته، وذلك كطاعة الأنبياء عليهم السلام، وكطاعة أولي الأمر، وطاعة السيد، وأمثال ذلك.

أما الوحي في الكتاب العزيز فمما لا يشك فيه مؤمن، وأما الوحي في السنة فبقوله تعالى:[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:4}. ولا يغيب عنا أن هذا في شأن التشريع وبيان الأحكام الدينية، وأما في العاديات فليس كل ما ينطق به عن وحي أوحي إليه به، بل غاية أمره أنه لا ينطق عن الهوى والميل عن القصد، وإن كان بعض ما ينطق به صادراً عن حكم العقل، ووجدانات النفس، ومألوف المخاطبات، وذلك كشؤونه في طعامه وشرابه ولباسه وجلوسه ونومه صلى الله عليه وسلم وما ماثل ذلك، فليس كل هذه يوحى بها، وإنما غاية أمرها أنها منطبقة على ما ينبغي أن يكون، وما تقضي به الفطر السليمة، ولقد كان عليه الصلاة والسلام يسكت وهو معهم، فيعرفون أنه قد جاءه الوحي، فيلزمون الأدب والصمت حتى ينتهي من الوحي، فيبلِّغهم ما نزل به عليه الملك، وكانت عصمته صلى الله عليه وسلم كعصمة إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أماناً له من أن يقع منه  محظور ومعصية توجب غضب الله، نعم كان يجتهد صلى الله عليه وسلم في بعض الأحكام فيصيب الحكم الذي رضيه الله لعباده، وقد يكون منه جل شأنه أن يوحي إليه بما يخالف ما أداه إليه اجتهاده، وذلك كما ذكروه في تفسيره قوله تعالى:[عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ] {التوبة:43}. وفي تفسير قوله عزَّ وجل:[مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ] {الأنفال:67}. فمن أنه ينطق عن الوحي لا عن الهوى، ومن أنه معصوم عن مخالفة الله فيما يأتي وفيما يذر، ومن أن الله ضمن له ألا يقره على اجتهاد على خلاف ما سيشرع له ولأمته من الأحكام ـ كان كل ما يقوله واجب الإتباع، وما يفعله لا يكون فيه حظر، ما لم يدل الدليل على اختصامه به، وما يقره يكون مما يقر مثله في نظر الشرع.

ويبقى في أفعاله صلى الله عليه وسلم نظر آخر بعد أن تقرر دلالتها  على الجواز، وهو: هل تدل على أن ما فعله مطلوب وعبادة، أو هو لمجرد الجواز، أو أن ما فيه معنى التعبد يدل على الطلب،  وما هو من قبيل العادات لا يدل على نفي الحرج؟ هذا مقام يعني علماء الأصول، فلهم فيه أقوال واستدلالات، وردود لا تتسع هذه الكلمة لاستيفائها.

فأقواله صلى الله عليه وسلم في باب التشريع موحى بها قطعاً، والكتاب العزيز موحى به قطعاً، فالوحي من عند الله مما يشترك فيه الكتاب والسنة. وسيأتي ما يفترقان فيه  من أمر الوحي، والكتاب والسنة يشتركان كذلك ـ بناء على هذا ـ في وجوب امتثال ما فيهما، والطاعة والخضوع لأحكامهما، لا يخالف في ذلك مسلم، وإنما الخلاف الواقع بين الفقهاء في أمرين: الأول: في الاقتناع بأن هذا الحديث صح إسناده للنبي صلى الله عليه وسلم أو لم يصح. والثاني: في هل هذا النص يدل على هذاا لحكم أو لا يدل؟ 

وقد دُوِّن للأول علم رواية الحديث، وبينت مراتب الأسانيد، وحللت عبارات الرواة، وفحصت سير الرجال باعتناء واستقصاء بالغين بالمطلع مبلغ الطمأنينة وانثلاج الصدر، ولقد استباحوا في هذا الباب ذكر عيوب الرجال وزلاتهم مع كون الغيبة محرمة شرعاً، ولكن هذا كفحص حال الشهود في القضايا، بل هو أهم و أعظم.

ودُوِّن للثاني فن أصول الفقه، حيث فحصت الصيغ والأساليب، وحقق ما تدل عليه، واستدل على كل بحث مما يتعلق بذلك بما لا مزيد عليه لمستزيد.

نقول: هذا ما نشأ عنه اختلاف الفقهاء في استنباط الأحكام، فأما الوجه الأول وهو ما يرجع  إلى السند وتصحيحه، فهو خاص بالسنة، إذ الكتاب العزيز قد روي بطريق التواتر في كل طبقاته عن جمع يستحيل أن يتواطأ على الكذب، أو أن يقع في الخطأ. وتخصص في كل عصر وفي كل مصر فئات جمة عنوا بضبط حركاته وشداته ومده وغنه وأحكام تجويده عناية لم يفتهم فيها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، والقراءات المتواترة كل منها نزل به القرآن، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وقد نعرض لهذا الحديث في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

قلنا: إن كلاً من الكتاب والسنة موحى به من عند الله  تعالى، إلا أن الوحي في ا لسنة وحي بالمعنى، ويعهد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعبِّر عما ألقي في قلبه باللفظ الذي يؤلفه.

وأما في الكتاب العزيز فالوحي متناول للأمرين جميعاً: اللفظ والمعنى. فمثلاً قوله تعالى:[وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى] {القصص:20}. قوله تعالى:[وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى] {يس:20}. كل منهما ملتزم في مكانه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من باب أولى أن يقدم لفظ رجل في سورة يس على ( من أقصى المدينة ) ولا أن يؤخره في سورة القصص.

والوحي: هو إلقاء المعنى في قلب نبي من الأنبياء مصحوباً بلفظ يلتزم أو متروكاً أمر اللفظ فيه لاختيار النبي الموحى إليه، وقد بينت طرقه في قوله تعالى:[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا] {الشُّورى:51}. ومعنى وحياً في الآية: أي إلقاء في القلب بلا سماع لفظ. ومعنى من وراء حجاب: أن يسمع اللفظ ولا يرى، كما كان لموسى صلوات الله عليه وسلامه. ومعنى أو يرسل رسولاً: أن يرسل ملكاً يبلغه عن ربه، ويصحب ذلك جزم النبي صلى الله عليه وسلم واستيفائه أن الرسول من عند ربه، فيتلخص هذا في أن معنى الحديث: موحى به دون لفظه، وأما الكتاب: فموحى بمعناه ولفظه جميعاً.

قد يكون من الحديث حديث ينطق به على لسان الحق جل وعلا، أي: كأنه صادر من الخالق مباشرة، وهو ما يسمى بالحديث القدسي، كما في حديث: (ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من مسترزق فأرزقه) وكما في حديث: (عبدي لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت النعمة على يده) فهذا أيضاً مما أوحي بمعناه للنبي صلى الله عليه وسلم وترك له التعبير عنه بالعبارة التي يؤلفها على أنها صادرة عن الحق جل جلاله لعباده.

بقي وصفان يمتاز بهما القرآن الكريم عن السنة، وهما: التعبد بالتلاوة، و التحدي بأقصر سورة منه. 

أما التعبد بتلاوته: فمعناه أن تلاوته في ذاتها عبادة وطاعة، سواء أكانت في الصلاة أم كانت خارجها، وسواء أفهم معناه ـ وهو ظاهر وذلك هو الأكمل في التلاوة ـ أم لم يفهم. ووجهه أنه إذا فاته الفهم فلم يفته أنه يساهم بقسط في حفظ كتاب الله الذي تعهد بحفظه، والأمن من تغييره وتحريفه، في قوله تعالى:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}. وطريق حفظه بتوفيق الله طوائف في كل عصر يحفظونه ويدارسونه ويكثرون من تلاوته، حتى يكون بعضهم على بعض شهيداً، وسبيل ذلك أن يجعل الله مجرد تلاوته عبادة، حتى يشترك فيها من يقوى على فهمه ومن لم يقو عليه.

وأما التحدي بأقصر سورة منه: فمعناه أن يدعو السامعين إلى معارضته إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك ليتبين عجزهم عن معارضته والإتيان بسورة من مثله، والسورة تصدق بأقصر سورة. ومتى عجزوا جميعاً وفرادى ـ [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] {الإسراء:88}  ـ كان هذا صادراً عن القوة الإلهية، ليس للقدرة البشرية دخل فيه، فهو من عند الله تعالى، فالآتي به إنما يبلغ عن الله، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله. وبذلك ترى أن التحدي راجع إلى ثبوت الإعجاز له.

أما حديثه صلى الله عليه وسلم فليست تلاوته عبادة، وإنما العبادة في تبليغه للغير من باب إعلام الغير أنه صلى الله عليه وسلم قال كذا، فهو تعليم، أو في تفهمه وتدبره ليهتدي بهديه ويستضاء بنوره، فالعبادة فيه في التعلم أو التعليم، وكذلك ليست عبارة الحديث معجزة للبشر من أن يأتوا بمثلها، وإن كان قد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وأوتي قسطاً من الفصاحة والبلاغة قلَّ من يدانيه فيه، إلا أن التفوق شيء والإعجاز وانقطاع الأعناق دونه شيء آخر.

هذا: وأما وجوه إعجاز القرآن فكثيرة مستفيضة، قد نعرض لها في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى، والآن نجتزئ بهذا المقدار، ونرجو أن نبسط منه في مقال آخر ما يمن الله تعالى به، والله ولي التوفيق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة نور الإسلام رجب 1352هـ، العدد: السابع والعشرون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين