سنتحدث
في هذه اللياقة عن ثلاثة أشياء: عن بعض مهارات التفكير، وعن وسائل تحسين التفكير،
وعن أخطاء التفكير.
أولا: من مهارات التفكير:
من
المصطلحات الجديدة في مجال التربية وعلم النفس مصطلح مهارات التفكير ميز بها
واضعوها بين عمليات التفكير المختلفة، مثالها: التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي،
والتفكير المنتج، والتفكير بالنتائج... إلخ [وفرق باحثون آخرون
بين أنواع التفكير ومهارات التفكير؛ فمن أنواع التفكير: الإبداعي، والناقد، ومن
مهاراته: التلخيص، والتصنيف، والمقارنة.]
وبعض
هذه المصطلحات مفيد وبعضها - فيما أرى - غير موفّق؛ هذا بالإضافة إلى الاختلاف في
تعريف المصطلح الواحد بين الباحثين في هذا المجال. وقد أوصل بعض الذين كتبوا في
هذا الموضوع مهارات التفكير إلى مائة مهارة [انظر: دلیل
مهارات التفكير، ثائر حسين وعبد الناصر فخرو، ( ط ۱ ) عمان ( ۲۰۰۲ م ).]..
أذكر
أمثلة عليها لعلها تعطي القارئ فكرة مختصرة تناسب المقام:
(1) مهارة التفكير
الناقد:
عملية
تقويم المعلومات والوقائع وفحص الآراء المختلفة حول الموضوع محل البحث، وبيان
سلبياتها وإيجابياتها، والخطأ منها والصواب.
(2) مهارة التفكير
الإبداعي:
يتميز
عن غيره من أنواع التفكير بالتجديد، والوصول إلى نتائج، وتقديم حلول متميزة لا
يقدر عليها الأشخاص العاديون.
(3) مهارة وضع
البدائل والخيارات
بدلا
من الوقوف عند حل واحد لمشكلة أو تفسير واحد لموقف.
(4) مهارة التلخيص:
تقليل
الأفكار، واختصار حجمها مع المحافظة على سلامتها، وأيضًا: إعادة صياغتها بعد فصل
ما هو أساسي عما هو غير أساسي، بقصد الوصول إلى اللب والمهم.
(٥) مهارة
المقارنة
التعرف
على أوجه الاختلاف والتشابه بين شيئين أو أكثر.
(6) مهارة التصنيف
تجميع
الأشياء أو الأفكار، وما إلى ذلك في مجموعات وفقا للتشابه والاختلاف فيما بينها.
(7) مهارة العصف
الذهني: [مصطلح مترجم عن كلمتي Brain
storming ]
أسلوب
يعتمد على نوع من التفكير الجماعي بهدف توليد أفكار يمكن أن تؤدي إلى حل مشكلة ما،
أو إلقاء الضوء على موضوع معين، وما إلى ذلك.
(8) مهارة وضع
الافتراضات
صياغة
فرضيات معينة للوصول إلى نتيجة أو حل مسألة.
(9) مهارة التخطيط
القدرة
على وضع الخطة المناسبة للوصول إلى هدف معين.
(10) مهارة ترتيب
الأولويات
ترتيب
الأعمال، أو الأفكار، أو غيرها بحسب أهميتها: الأهم، فالمهم، فالأقل
أهمية.
ثانيا: وسائل تحسين التفكير :
كما
أن الإنسان يستطيع بالرياضة أن يحسن من لياقته البدنية، فهو يستطيع كذلك أن يحسن
من تفكيره بطرق عدة من أهمها التخلق ببعض الأخلاق العليا، الحوار، القراءة الكتابة،
تجنب أخطاء التفكير.
(
۱ ) التخلق
ببعض الأخلاق العليا:
وما
يناسب هذا المقام منها اثنان
أ
- قول لا أدري.
ب
- الإخلاص في طلب الحق.
أ
- لا يستطيع إنسان أن يحيط بكل العلوم، فإذا سئل عما لا يعلم أجاب: ( لا أدري ) ؛
حتى يتجنب الكلام فيما لا يحسن، ويسلم من الخطأ، قال الشاعر:
ومن كان يهوى أن يرى
متصدرا
*** ويكره: ( لا أدري
)، أصيبت مقاتلة
ب-
الإخلاص في طلب الحقيقة والصواب.
قال
الإمام الشافعي - رحمه الله - : ( ما ناظرت أحدا إلا أحببت أن يوفق، أو يسدد، أو
يعان، ويكون له رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدا إلا ولم أبال بين الله الحق
على لساني أو لسانه، وما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحدًا على الغلبة،
إنما على النصيحة !
(2)
الحوار، خاصة مع المخالف لنستفيد من الصواب الذي عنده:
الحوار
هو نافذة فكرية وشعورية بين الفرد وبين الآخرين، والذي يستغني عن الحوار يعيش
منغلقا على ذاته، لا يرى الأمور إلا من زاويته الشخصية، فيكون أكثر تعرضا للخطأ،
وإن زعم أو ظن أنه أقرب إلى الصواب من سواه؛ فالصواب ليس حكرا على أحد دون أحد،
ولا زال أهل الحكمة يستشيرون من سواهم في صغير الأمور وكبيرها: لأن الشورى -
كالحوار - طلب التعرف على الرأي الآخر. وأغلب الذين يرفضون الحوار يرفضونه بدافع
الخوف منه: إما لعجزهم عنه، وإما لضعف أدلتهم وقلة ثقتهم بما يؤمنون به من
الأفكار، وإما بدافع الجمود والتعصب، وإما خشية من تغيير موروثات عاشت معهم وعاشوا
معها واكتسبت عندهم القداسة والإجلال.
إن
كثيرا من الناس يكونون لأنفسهم عالما خاصا يظنون أنه العالم كله، وينضجون في
عالمهم ذاك الكثير من المعايير الخاصة المتولدة من بيئة نفسية وفكرية ذات نمط واحد
وهذا الصنف من الناس يقع ضحية للتحيز، والتعميم، والتسرع في الأحكام، وعدم القدرة
على رؤية متوازية وتكون قدراتهم على التكيف - في العادة - محدودة، مما يجعل حياتهم
عبارة عن صراع مستمر مع ما حولهم !
إن
المطلوب من الحوار لا يُشترط أن يكون توحيد الرأي دائما، وإنما المطلوب هو شرح
وجهة نظر الأطراف المختلفة، بعضها لبعض، أي أن يُري كل طرف الطرف الآخر ما لا
يراه. وإذا أدى الحوار إلى تضييق شقة الخلاف فإنه يكون قد أدى كثيرا مما نطلب منه.
ثم إن وحدة الرأي في كل صغيرة وكبيرة - لا سيما فيما هو محل للاجتهاد - ليست ظاهرة
صحية دائما؛ فالتنوع المؤطر مطلوب كالوحدة . [فصول في التفكير
الموضوعي - د. عبد الكريم بكار ( ص ٢٧٥ ، ٢٧٧ ).]
(3)
القراءة:
إن
أول كلمة من الوحي الذي نزل على الرسول الخاتم. عليه أفضل صلاة وتسليم هي كلمة (
اقرأ ) ! ولهذا الأمر دلالة هائلة على أهمية القراءة في الإسلام خاصة، وفي حياة
الإنسان عامة. [ولفظة ( القرآن ) ذاتها التي هي علم على
خاتم الكتب تعني - فيما تعنيه القراءة، فهي مصدر ( قرأ ) على وزن فعلان كغفران وشكران. انظر: المعجم الوسيط
(۲) ۷۲۹]
ولا
حاجة بنا إلى إثبات أهمية القراءة إلا أن الذي نريد الإشارة إليه في هذا المقام أن
القارئ الواعي يضيف إلى خبرته خبرات الآخرين فيعيش حياته بشكل أعمق وأغنى، قال
الشاعر الحكيم:
ومن وعى التاريخ في
صدره
*** أضاف أعمارًا إلى
عمره
وكذلك
الذي يعي أفكار الآخرين يضيف أفكارًا إلى فكره. وعندما سئل عبقري الفيزياء الأشهر
نيوتن عن سر إنجازاته وتفوقه أجاب: لقد وقفت على أكتاف العمالقة الذين جاؤوا قبلي
! أي أنه قرأ ما كتبوا، وفهمه، واستفاد منه، وأضاف إليه. التفكير
علم وفن - هنري هازليت ( ص ۲۷۱ ).
قال
العقاد [أنا : ( ص ٨٥ ) ، بتصرف.]- رحمه الله - في مقال له بعنوان : (
لماذا هويت القراءة ): (أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة
واحدة لا تكفيني.. والقراءة - دون غيرها - هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في
مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا
تطيلها بمقادير الحساب)
وعند
الحديث عن القراءة يثور سؤالان مهمان ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ ؟
وللإجابة
على السؤال الأول نقول: إننا حين نقرأ نستثمر العقل والوقت في القراءة ولا بد أن
يكون هذا الاستثمار مربحا بقدر المستطاع [فصول في التفكير
الموضوعي د. عبد الكريم بكار (٣٠).]؛ فالعالم مملوء بالكتب التي يزيد عنها على
سمينها فكيف نختار منها الأحسن والأجود؟
إن
في كل علم من العلوم أو فن من الفنون أعلاما نابهين مشهورين أسهموا فيه وأغنوه.
وإذا مثلنا لذلك بما يعرفه الناس وأخذنا علم التفسير مثلا، وجدنا من أعظم من كتب
فيه الطبري وابن كثير، وإذا أخذنا علم الحديث، فَمَنْ منَّا لا يعرف صحيحي البخاري
ومسلم؟ وإذا أخذنا المعاجم فهل ينسى أي دارس للغة العربية معجمي: لسان العرب
والقاموس المحيط؟ وإذا ذكر الشعراء فهل يفوت أحدًا دواوين المتنبي، وأبي تمام
والبحتري، وأبي العلاء المعري؟
وهكذا
... فمن الأنفع إذن أن نقرأ للرواد في كل علم أو فن نريد دراسته أو الاطلاع عليه،
وليس عسيرا معرفة هؤلاء؛ فالمتخصصون في كل علم يعرفون عظماء من كتبوا فيه.
وللإجابة
عن السؤال الثاني: كيف نقرأ؟ نقول:
القراءة
أنواع أهمها: القراءة الجادة الواعية للكتب الأساسية، وهذه تحتاج إلى جهد، وتركيز،
وتكرار، وغالبا ما يكون القارئ ممسكا بالقلم ليضع خطا تحت المهم من الأفكار،
وللتعليق، والتلخيص، والإضافة، والاستفسار. وهذه القراءة هي التي تكون العلم،
وأوضح أمثلتها الكتب المقررة على الطلاب في المدارس والجامعات.
وتأتي
بعد ذلك المطالعة التي يقل فيها نصيب الجهد ويرتفع نصيب الاستمتاع، وتكون فيما سوى
ذلك من الكتب، وأوضح أمثلتها قراءة الصحف والمجلات. وهكذا نجد من الكتب ما تستغرق
قراءته الأيام الطوال والليالي .
ولا
بد من العودة إليه مرة إثر أخرى، ومنها ما نصحبه سويعة نقرأ فيها مقدمته، ونطلع
على فهرسه وخاتمته، ونقلب صفحاته لنقرأ فيها ما يثير اهتمامنا، أو نحتاج إليه،
ونكون بذلك قد تعرفنا على الكتاب، فإما نتركه إلى غير رجعة، وإما نرجع إليه إذا
دعتنا الحاجة إليه.
وهكذا
نجد أن القراءة تُمدّنا بمواد المعرفة والتفكير ولكنها وحدها لا تصنع منا مفكرين؛
لأن التفكير – كما قال جون لوك
هو الذي يجعل ما نقرؤه ملكا لنا. [التفكير علم وفن هنري
هازليت ( ص ۱۳۳ )]
ومن
هنا فإن بعض المفكرين كان يتجه إلى تغليب التفكير على القراءة، وبعضهم يتجه إلى
تغليب القراءة على التفكير، ولكن من المتفق عليه أنه لا بد من تخصيص وقت للقراءة
ووقت للتفكير، ويمكن أن نغلب القراءة في البداية حتى نهيئ لعقولنا مادة التفكير؛
فالطاحون لا تصنع شيئًا دون وجود شيء تطحنه!
(
٤ ) الكتابة:
ومما
يساعد على التفكير المركز أن ندون الأفكار التي نحتاج إليها، أو تخطر لنا فيما
يتعلق بموضوع تفكيرنا، ومن الضروري مراجعة تلك الأفكار، حتى تبقي على مسارات تفكيرنا
الأصلي، فلا نبدأ باتجاه وننتهي إلى اتجاه آخر. [فصول في التفكير
الموضوعي د. عبد الكريم بكار ( ص ٣٢ - ٣٤ ) بتصرف.]
ويقول
هنري هازليت: [التفكير علم وفن ص ۱۷۹ – ۱۸۱ بتصرف]:
إن
الكتابة ترتبط ارتباطا متينا بالتفكير، وهي عامل مساعد على التركيز، وبُطْؤُها هو النقص
الوحيد فيها، ولكن مزيتها المهمة هي أنها تحفظ الفكر والأفكار سريعة الهروب؛ لذا
كانت الطريقة المثلى لاقتناصها تقييدها بالكتابة عقب لمعانها في الذهن؛ إذ يجوز أن
تضيع إلى الأبد.
ولتسهيل
كتابة أفكارك وتأملاتك أقترح عليك الاحتفاظ بدفتر صغير خاص بهذا الغرض، وأن تحمل
معك دائما قلما وورقا حتى تكون مستعدا دائما لتدوين ما يحتاج التدوين بسرعة
واختصار . [قال الشاعر
العربي: لابد للطالب من كناش ** يكتب فيه قاعدًا أو ماشي. وجاء في المعجم الوسيط (۲) ۸۰۷ ) : الكناشة: الأوراق تجعل كالدفتر تقيد فيها الفوائد والشوارد.]
(
٥ ) بعد هذا نأتي للحديث عن بعض أخطاء التفكير التي يساعدنا اجتنابها على الوصول
إلى التفكير السديد.
ثالثا:
من أخطاء التفكير :
١ - إساءة
التعميم أو التسرع في الاستنتاج.
٢ - الخطأ
في استعمال التفكير النظري.
3 - الاعتماد على مصادر غير صحيحة.
٤ - تدخل
العواطف ( الهوى ) في الحكم.
5 - المبالغة في التبسيط.
٦ - الخلط
بين التقدير والتقديس.
7- عدم التفرقة بين النص وتفسير النص.
8- أخطاء المقارنة.
٩- تناقض الموازين ( الكيل بمكيالين ).
١٠ - الخطأ
في استعمال اللغة.
ولنتحدث
- بإيجاز - عن كل واحد من هذه الأخطاء.
(1) إساءة
التعميم، أو التسرع في الاستنتاج:
المقصود
بالتعميم: هو العبارة التي تقرر انطباق حكم ما على جميع أفراد المجموعة .[ الطريق إلى التفكير المنطقي، وليم شانر،
( ص ٤٩ )]
ويقدم
علماء التربية نصيحتين مهمتين لمن يريد التعميم - أو صياغة قاعدة أو قانون - حتى يكون
أقرب ما يكون من الحقيقة هاتان النصيحتان هما ۱ - افحص عددًا كافيًا
من أفراد النوع أو المجموعة التي تريد أن تصدر بشأنها حكما عاما. ٢- تأكد من أن
الأشياء التي تفحصها تمثل النوع أو المجموعة أفضل تمثيل.
ومن
الأخطاء المتصلة بهذا النوع من التفكير اتصالا وثيقا ما يوضحه المثال التالي:
إن
التوتر والإجهاد يسببان السرطان، فإن السيدة (الفلانية) أصيبت بالسرطان بعد أن
أجريت لها عملية المرارة، أما ( فلان ) فقد أصيب بهذا المرض بعد وفاة زوجته بأربعة
أشهر، في حين أن (آخر) أصيب به بعد أن صدمته سيارة بفترة وجيزة، فلا بد أن هناك
علاقة ما بين السرطان والصدمات النفسية التي يتعرض لها الناس.
مثل
هذا النوع من التسرع في التفكير يمكن أن يسمى البرهان عن طريق اختيار الأمثلة، فلا
شك أن بضعة أمثلة من ملايين الحالات لا يمكن أن تعتبر دليلا حقيقيا، إن الأمثلة
القليلة لا تزودنا إلا بأساس لنظرية معقولة، أو مجرد تخمين للصلة بين الأشياء. هذه
الصلة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتدرس جيدًا، ومع ذلك فإن الكثيرين من الناس
يتسرعون في الوصول إلى نتائج اعتمادًا على عدد قليل من الأمثلة .[ التفكير الواضح
هاي روتشليس، ( ص ۱۲۳ ).]
مثل
هذا النوع من التسرع في التفكير يمكن أن يسمى البرهان عن طريق اختيار الأمثلة، فلا
شك أن بضعة أمثلة من ملايين الحالات لا يمكن أن تعتبر دليلا حقيقيا، إن الأمثلة
القليلة لا تزودنا إلا بأساس لنظرية معقولة، أو مجرد تخمين . للصلة بين الأشياء.
هذه الصلة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتدرس جيدًا، ومع ذلك فإن الكثيرين من الناس
يتسرعون في الوصول إلى نتائج اعتمادًا على عدد قليل من الأمثلة . [ التفكير الواضح
هاي روتشليس، ( ص ۱۲۳ ).]
يقول
الدكتور محمد عثمان نجاتي (۲): [القرآن وعلم النفس ( ص
١٥٠ ) ، بتصرف]
ليس
من المتيسر للإنسان أن يفكر تفكيرا سليما في موضوع ما دون أن تكون لديه البيانات
الكافية، والمعلومات الضرورية المتعلقة بالموضوع الذي يفكر فيه، ولا يستطيع أن يصل
بتفكيره إلى نتيجة سليمة دون أن تتجمع لديه الأدلة والبراهين الكافية التي تؤيد
صحة ما يصل إليه.. والعلماء والحكماء يتحرجون أشد الحرج في ! إبداء آرائهم، أو
إصدار أحكامهم دون أن تكون لديهم الأدلة الواضحة الكافية التي يستندون إليها فيما يصدرون
من آراء وأحكام.
ومما
يتصل بهذا الموضوع عدم اطلاعنا على حجج المخالفين، وهو في الحقيقة عدم استيفاء
البحث محل النظر، وعدم إعطائه حقه من النظر والتأمل والدراسة. ويتصل بهذا - أيضًا
- أن لا نأخذ رأي غيرنا إلا من كلامه أو كتبه. وسبب وقوعنا في هذا الخطأ إما
الهوى، وإما الجهل بأصول البحث، ولو اطلعنا على حجج المخالفين لوجدنا في عدد من
الحالات أن الاختلاف بين الرأيين ليس اختلافا بين خطأ وصواب كما كنا نعتقد أو نظن،
إنما هو بين راجح ومرجوح ( أيضًا : من وجهة نظرنا، وحسب علمنا، وعقلنا، وفهمنا.
( ٢ ) الخطأ في استعمال
التفكير النظري
المراد
بالتفكير النظري هو : (التفكير الذي يبحث عن الحقائق النظرية ويحاول أن يبرهن
عليها). وهو تفكير محترم لازم حتى في صياغة النظرية العلمية والبرهان عليها في بعض
الأحيان. ولكنه لا يغني عن (التفكير العملي) في المجالات التي لا بد لنا فيها من
الحصول على الحقائق والمعلومات.
فنحن
نستطيع - مثلا - أن نبرهن « نظريا »
على أن العدد ۳ هو الجذر التكعيبي للعدد (۲۷) لكننا لا نستطيع
أن نحدد متوسط عدد الوجبات التي ينبغي أن نقدمها للطفل الرضيع بمجرد التفكير
النظري دون التجربة والمشاهدة لعدد كاف من الأطفال.
وكثير
من الناس يكونون آراء ومعتقدات يدافعون عنها بشدة بمجرد التفكير النظري البعيد عن
التجربة والواقع، في حين لا بد لهم لتكوين الرأي الصحيح عنها من معلومات صحيحة
منطبقة على الواقع.
ولعل
ميدان السياسة هو من أصح الأمثلة على صدق ما نقول.
فأنت
تجد الاختلاف في وجهات النظر السياسية محتدما على أشده بين الناس، وتجد كل طرف
يدلي بحججه ويتكلم بثقة وقوة، ويشرح موقفه من الدول، والأحزاب والرؤساء،
والزعماء.. موافقا أو مخالفًا، وكأنه وزير خارجية لدولة كبرى، وفرت له المعلومات
الصحيحة أجهزة مشهود لها بالكفاية والثقة. فإذا سألته عن مصادر معلوماته وجدت أنها
تقديرات نظرية واستنتاجات عقلية بحتة، والجانب العملي فيها مستقى بشكل أبتر من
مصادر إعلامية لا يمكن الاطمئنان إلى صحتها وصدقها إلا بشكل جزئي.
(3) الاعتماد على مصادر
غير صحيحة
أشرنا
في الفقرة السابقة إلى أن (الرأي أو الحكم الصحيح يعتمد على معلومات صحيحة) . وهذا
أمر بدهي، ولكن كم من الناس - الذين يوافقون عليه - يعتمدونه، أو يطبقونه في عالم
الواقع؟
إن
أكثر مصادر معلوماتنا ليست جديرة بالاعتماد عليها: فنحن نكون آراء نؤمن بها، ونتخذ
مواقف نتعصب لها، إذا بحثنا عن مصدرها وجدناه صحيفة سيارة، أو مجلة غير متخصصة، أو
حديثًا إذاعيا سمعناه لا نعرف من أعده، أو كتابا لا نعرف عن مؤلفه شيئًا بل نحن
نبني بعض عقائدنا على أحاديث نبوية شريفة نظنها صحيحة، وإذا بها بعد النظر
والتمحيص، إما ضعيفة، وإما لا أصل لها. [كثير من الناس يروون قول
القائل: (سؤر المؤمن شفاء)، على أنه حديث نبوي شريف، والواقع أنه كلام مردود وليس
بحديث. انظر : كشف الخفاء - إسماعيل
بن محمد العجلوني، ( ١/ ٥٥٥).]
مع
أن التوجيه النبوي الأرشد يدعو إلى التثبت في الرواية عن النبي المصطفى : (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) [حدیث متواتر رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قال ابن الجوزي: رواه عن
النبي ﷺ ثمانية وتسعون صحابيا، منهم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعرف ذلك في
غيره. انظر: كشف الخفاء العجلوني، (٢/ ٣٦١)].
والتحذير
القرآني الأحكم يهيب بالمسلم ألا يتسرع في الرواية: ﴿ وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُولَيْكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: ٣٦].
قال
ابن الجوزي [زاد المسير ( ٣٤/٥)]: « قفا، يقفو الشيء
اتبع أثره. والمعنى: لا تقل : رأيتُ، ولم تَرَ، ولا : سمعتُ، ولم تسمع »،
ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه [الكشاف، الزمخشري،
( ٢ / ٦٦٧ )].
وقد
اعتنى علماؤنا القدامي - رحمهم الله - بالإسناد أيما عناية، حتى قالوا: (الإسناد
من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وتراهم يذكرون أسانيدهم فيما يروون ليس
في كتب الحديث والتاريخ فحسب؛ بل حتى في كتب الأدب، والأخبار والأشعار.
ويظن
بعض الناس أن المرء إذا بدأ حديثه بألفاظ لا تفيد القطع، ( مثل : سمعت من بعض
الناس، أو : قيل لي، أو : يزعم بعضُهم ... إلخ ) فهو ناج من الملام، والواقع أن
الأمر ليس كما يظن. فقد أخرج الإمام أبو داود في سننه، (في كتاب الأدب باب في الرجل
يقول: زعموا) قول ابن مسعود: سمعت رسول الله ﷺ
يقول: (بئس مطية الرجل زعموا).
أي:
أسوأ عادة للرجل أن يتخذ لفظ ( زعموا ) مَرْكَبًا إلى مقاصده، فيخبر عن أمر
تقليدًا من غير تثبت فيخطئ، ويجرب عليه الكذب. والمقصود أن الإخبار بخبر مبناه على
الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون
على ثقة من ذلك، لا مجرد حكاية على ظن و حسبان. وفي المثل : ( زعموا ) مطية الكذب.
يتبع في الجزء التالي من المقالة، والتي تبدأ بالحديث عن الخطأ الرابع
من أخطاء التفكير ألا وهو: تدخل الهوى والعواطف في الحكم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول