المرء حيث يضع نفسه...

د. أحمد الفاضل
 
   لله درك أيها العربي العزيز النفس الكريم الأصل على صدق هذا المثل الجامع البليغ المختصر,حيث أصبت المحز ونفذت إلى كبد الحقيقة..فكم من خبيئة وخليقة في إنسان أفشتها وفضحتها أقواله وأفعاله وربما قسمات وجهه ونظراته وزلاته..وأجاد زهير حين قال:
 ومهما تكن عند امرئ من خليقة..وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
 
   وما هذا المقدمة إلا براعة استهلال لأمر ذي بال وقع أمامي وبسمعي وبصري..كنت في مكتب صديق لي في العلم نبث همومنا وأحزاننا مما نرى ونسمع من سفالات العصابة الأسدية وجرائمها ومخازيها وفضائحها..وما شئت من الألفاظ التي تنتهي ولا تفي بوصف هؤلاء..وفجأة رأينا من نافذة المكتب المشرفة على الفناء رجلاً نتعوذ بالله منه لا من الشيطان الرجيم فحسب..ورجونا ألا يقطع علينا حديثنا وأن يُصرف إلى وجهة تليق بمقامه العالي..لكن جرت الأمور بما لا نشتهي فتوجه نحونا صاعداً فبترنا ما كنا نخوض فيه من الكلام؛لأن رأيه في نظامه الإجرامي نقيض رأينا فهو من أوليائه والمنافحين عنه بالهوى و الجنان واللسان..وبعد سلامه وقعوده أخذ من غير مناسبة يسوّغ للنظام ما يفعل وما يقول ويذب عنه وكأنه صلاح الدين زمانه..ويقابل هذا الدفاع العريض الطعن والجرح في الثورة والمجاهدين..وهذا استفزني فتصديت له مع صديقي فغضب وانتفخت أوداجه ورفع صوته وكأنه يخطب الجمعة وقام عن كرسيه وجعل يرفع يديه زيادة على صراخه وتعبيراً عن حدة ثورته حتى كادت يداه تمسان السقف لطولهما وطوله وضخامة عِمته الحلبية..لأن المكتب الذي كنا فيه يشبه السقيفة..ثم سكن غضبه قليلاً وغض من صوته..وأراد أن يبين لنا موقفه من النظام والثورة وأنه وأنها وهو وهي وهم وأولئك ..
 
   =فقال:_جواباً عن ظهوره غير مرة على قناة الدنيا الساقطة_إنهم اتصلوا بي وأرادوني على الكلام ولم يكن باليد حيلة..ولما تكلمت أنصفت..هكذا زعم لكن تبين لنا أنه كان يسعى هنا وهناك لتكون له صولة وجولة..ولعله أوصى عائلته أن يسجلوا لقاءاته الرائعة على هذه القناة السافلة..وما أدري ماذا تنفعه في قادمات الأيام وما أمره إلا كمن يوقد ناراً أو يجمع حطباً لغيره ..
 
   يا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها.....يا حاطباً في غير حبلك تحطب !!  
       
   =وأما بروزه على القناة السورية اتصالاً أو ظهوراً فهو من ضمن عمله الدعوي إذ هو داعية وعلى الداعية أن ينشر العلم والحق أينما كان..وإلا فهو داخل في الوعيد الذي يحذر من كتم العلم ..!!
    =ومن تجميله لوجه النظام القبيح ما ذكره لنا من ثلاثة أمور تضحك الثكالى في سورية أم الثكالى...قال:
 
_طرق رجال الأمن علي ليلاً باب بيتي في المسجد حيث أسكن وبرقة ولطف وسماحة ودماثة استأذنوا أن ينظروا في المسجد والمئذنة خوفاً من اختباء بعض الإرهابيين والمندسين في غفلة مني فأذنت فقاموا بواجبهم المقدس,فبحثوا وفتشوا ثم اصطفوا أمامي معتذرين آسفين خاشعين_ما شاء الله!_وقبلوا يدي الكريمة_الله أكبر!_ورحلوا في صمت الموت عندما يأتي أو يرحل ..!!  
 
    لما سمعنا منه أصل هذا الوصف,تخيلنا أنه وصف للأمن الفرنسي أو حتى الصهيوني..بل رأينا أنه وصف لمخلوقات جديدة من الأمن السوري لم يعرفها الناس من قبل..لأن عهدنا بهؤلاء ليس كما نعت هذا المجمّل..فإذن لا بد أنهم خلق جديد..والله تعالى قادر على كل شيء ..!!
 
   _قال اجتمعنا إلى رأس النظام وطلب منا أن يكون الكلام صريحاً لا مجاملة فيه لأن الإصلاح المنشود يقتضي منا ذلك فقولوا كل شيء..فتحدثنا في القضايا التي تخص الأمة والوطن ومصالح الناس ومشكلاتهم..والرئيس يسمع وينصت_يا سلام!_وطلبت منه أن يطلق سراح المساجين فاستجاب وقال قبل أن تصل إلى بلدك يكونون في بيوتهم_الله!ما أعظم الصدق!_ويسعد بهم أهلوهم وأطفالهم ..
 
    وبعد انتهاء اللقاء طلب منا أن نصلي الظهر قبل أن يفوتنا وقته لأن صلاة العصر دنا وقتها فقال نصلي هنا على الأرض_ما هذا التواضع الله الله!_وطلب مني أن أصلي إماماً فقلت له: لا أنتم الإمام فقال:لا أنا إمام في السياسة وأنت إمام في الدين...فتقدمت فصلينا جميعاً على الأرض نعم على الأرض..وكاد يبكي لهذا التواضع لهذا الخشوع الذي أنساه تواضع عمر بن الخطاب ..!!
 
   ونسيت أن أقول إن هذا التواضع كان لما كان ثلث سورية وربع مساجدها مدمراً..وكان عدد الشهداء لا يتجاوز خمسة وعشرين ألفاً وكان المعتقلون مئة ألف فقط!..أما اليوم فلا ريب أن التواضع والخشوع واللطف أعظم..فبقدر التدمير والتخريب تعظم الأخلاق ويزداد التواضع ..!!
 
    وهذا الحوار والكلام مع هذا الطائر في سرب غير سربه والحاطب في حبل غير حبله,كان حين كانت حلب نائمة نوم الموتى ساكنة سكون الليل المظلم,وكان صاحبنا الذّابّ عن نظامه آمناً في سربه مستقراً في بيته ولم يكن يسمع صوت المدافع وهدير الدبابات و أزيز الرصاص..وفي هذه الأيام قصف الطائرات..كان غارقاً في بُلهنية من العيش وغفلة من القادم..إذ أمضى في جلسة من الجلسات ساعة يحدثنا عن التدفئة المركزية في بيته وكيف خطط لها وابتكرها..وكان الناس وقتها في حمص وغيرها يوقدون متاعهم وأبواب بيوتهم ليدفعوا البرد القارس عن أولادهم شبه العرايا وعن أنفسهم..وما زال يحدثنا وحال الناس هؤلاء حاضر في بالي حتى كدت أخرج من جلدي..ولكن جاء اليوم الذي أنساه فضائل النظام وأخلاقه وخشوعه الذي وصف فربما كان بيته المريح مدمراً وربما صارت التدفئة المركزية العجيبة أنابيب يتدفق منها الماء بكاء وحزناً..وربما أغلق المسجد أو تهدم على أيدي العصابات المسلحة التي كان يدافع عنها ويثني عليها الخير كله ..
 
   أظن أنه لو كان يعلم أن الأمر في حلب سينتهي إلى ما صار إليه اليوم,لما همس بهمسة و لقعد في بيته ومسجده دون أن يعطو-يمد- عنقه إلى مغانم ومكاسب زائلة عاجلاً أم آجلاً ..
 
 
   يا أيها الناس!ما عند الله خير وأبقى..الدنيا عند الله لا تساوي جناح بعوضة,ولولا أن يفتن الناس جميعاً لأعطى الله تعالى الملحدين ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر من متاعها..(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون*ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون*وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين)..فإن كان كذلك فأكرم نفسك واحشرها في زمرة أهل الحق في زمرة المجاهدين بفعلك فإن لم تسطع فبقولك فإن لم تستطع فبقلبك وروحك فذلك أضعف الإيمان..والمرء حيث يضع نفسه..فاختر لنفسك مكاناً يا صاح...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين