المغتربون مشكلات وحلول (1)

 إن الاغتراب عن الوطن الأم، والبعد عن الأهل والأحباب وعلاقات الطفولة والصبا والشباب أمر شاق على النفس بلا شك، ولذا كان النفي والتهجير والإبعاد بحد ذاته عقوبة مؤلمة على كل إنسان تقع عليه هذه العقوبة، وكان الحنين الدائم والأبدي لأول منزل ألفه المرء من طبيعة البشر وفطرتهم السوية، وسببا لمعاناة الكثير من المغتربين حتى يصل بعضهم إلى التأزم النفسي الحاد، سواء كانت الاغتراب في بلد مسلم أو في بلد غير مسلم، أو في بلد يتحدث اللغة نفسها أو يتحدث بلغة مختلفة.

إن لهذا الاغتراب تحدياته ومشكلاته ومعاناته، وفي هذا المقال لن نطيل الحديث عن الغربة والمغتربين في أمور معلومة للجميع، لندخل مباشرة في استعراض أبرز المشكلات التي تواجه المغتربين، واقتراح الحلول الممكنة لها في سلسلة من مجموعة من الحلقات.

علما ان تشخيص المشكلات وحلولها في هذا الموضوع قابل لتعدد الاجتهادات ووجهات النظر.

1_ مشكلة التكيف

إن مشكلة التكيف مع الوضع الجديد تقع على رأس المشكلات التي يعاني منها المغترب، فهو الآن أمام واقع جديد في تفاصيل كثيرة، تختلف شدتها ودرجتها بين بلد وآخر، ومطلوب منه أن يتكيف فكريا ونفسيا معه، فالمغترب هو من عليه أن يكيف نفسه ولن يكيف البلد نفسه له، وهنا نرى المغترب الذي يتقبل الوضع الجديد، فيسارع للحركة والاندماج والبحث عن عمل وتعلم اللغة -إن كانت هناك حاجة لتعلم اللغة- بينما نرى آخر يعيش في أزمة نفسية تقعده عن الحركة، وتشل قدراته، وتذكي في داخله السخط والنقمة.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال التقبل الكامل، واعتبار الغربة تجربة جديدة ترفد خبراته بالمزيد، وأن حالة الرفض في البداية أمر طبيعي، ما يلبث المرء أن يتجاوزها بالعمل الدؤوب في تأسيس وضعه الجديد، والتكيف الكامل أو النسبي معه.

2_ مشكلة الاستقرار

إن المغترب الذي لم يحسم أمره بعد، هل سيبقى في مهجره دائما أو لوقت طويل جدا أو سيبقى لوقت لا يعرف مدته وطوله ليرجع في النهاية إلى بلده؟ حالة عدم الاستقرار هذه تزيد من مشكلة التكيف التي ذكرناها آنفا، وتجعل المغترب يعيش في حالة طوارئ دائمة واستثناء مستمر، فالتخطيط لحياته ليس استراتيجيا، وتأسيس الحياة العلمية والعملية والاقتصادية سيكون غائبا، وباختصار فإن كل شيء عنده سيكون مؤقتا، لكن إلى أي وقت؟ هو لا يدري.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال بذل الجهد من خلال الاستشارة والاستخارة لحسم التردد والحيرة، أو الاقتراب من الحسم وترجيح أحد الخيارين، وفي اعتقادي أن الحكمة والتجربة تقتضي في كثير من الأحيان أن يفكر استراتيجيا بحسم بالبقاء في المهجر، وتأسيس حياته وفقا لذلك، فإن قرر الرجوع للوطن الأم كان له رصيد علمي واقتصادي، وإن قرر البقاء فقد سلك المسلك الصحيح.

3_ مشكلة العلاقات

مشكلة العلاقات متفرعة عن مشكلة التكيف ومشكلة حسم الاستقرار، فالمغترب مطالب بتكوين علاقات جديدة قد لا تتسنى له دائما، فقد يحظى بعلاقة معرفة وصداقة مع من يتوافق معه وقد لا يحظى، وتبقى الذاكرة معلقة بأصدقاء الطفولة والوطن الذين عرفهم وخبرهم وأحبهم وعاش معهم حياته الماضية لسنوات طويلة، وإذا أقام علاقات فإن يقيم علاقات مع أبناء بلده الذين معه في المهجر وليس مع أبناء البلد الأصليين.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال تقبل الشخصيات الجديدة وطبائعها كما هي، دون وضع معايير صارمة، ودون استدعاء نماذج الصداقات القديمة، مع ضرورة التوازن في العلاقة ما بين أبناء البلد الأم وأبناء البلد الأصليين.

4_ مشكلة العمل

قد يكون الاغتراب لأجل أسباب متعددة، مثل الاضطهاد والتعليم والعلاج وغير ذلك، لكن السبب الرئيس للهجرة والغربة في العادة بلا شك هو العمل وطلب الرزق، وتكمن المشكلة والمعاناة في توافر شروط التأهل للعمل في بلد المهجر، وفي حجم الفرص المتوافرة، والصبر على عملية البحث عن العمل المناسب الذي قد لا يناله المغترب أو لا يناسبه إلا بعد زمن طويل، خصوصا مع غياب العلاقات والتزكيات والوسائل التقليدية التي تكون عادة في الوطن الأم.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال أمور ثلاثة: 

الأول: الإيمان الكامل بأن الله هو الرزاق، وأن الرزق سيأتيه لا محالة في الوقت المناسب، والتوكل على الله، والدعاء بالرزق الواسع منه سبحانه، واليقين بأن الله يرزق العبد في كل مكان فالملك ملكه وحده.

الثاني: بذل كل الأسباب والوسائل التي توصله للعمل المناسب والسعي الدؤوب وعدم الياس والتواني في ذلك.

الثالث: استدراك وامتلاك المهارات الغائبة واللازمة للعمل في بلد المهجر، وعدم الركون والاقتصار على المهارات القديمة والبحث عما يلائمها من عمل فحسب.

5_ مشكلة تعليم الأبناء

إن انتقال الأبناء وهم في التعليم الجامعي وما قبل الجامعي إلى بلد ناطق بلغتهم نفسها لا يمثل مشكلة كبيرة، وإن اختلفت عليهم السياقات والأساليب والبرامج التعليمية ومغادرة العلاقات والصداقات السابقة، لكن المشكلة تحصل غالبا بانتقالهم إلى بلد يتحدث بلغة مختلفة أو يدرس بلغة مختلفة، ومن الطبيعي في هذا الحالة أن تطلب المؤسسة التعليمية الاندماج فيها وتعلم لغتها على وجه السرعة، ولا تبالي بالتدرج الذي يحتاجه عادة الطلبة المغتربون، خصوصا مع الفروق الفردية بين الأبناء والطلبة، فمنهم سريع التعلم ومنهم من ليس كذلك.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال التخطيط المناسب لتأهيل الأبناء لغويا، وإدخالهم في المعاهد المتخصصة في ذلك، علما أن معظم اللغات ممكن تعلمها في بضعة شهور إلى سنة، خصوصا في مرحلة الطفولة والشباب، وعادة المدرسة لا تعلم اللغة، وتركهم لتعلمها من المدرسة ممكن، لكنه غير ممكن لطلبة آخرين فهو عبء علمي ونفسي قد لا يتحمله الكثير من الطلبة، بل كثير منهم يتأزم نفسيا بسبب هذا العبء، ويريد ترك المدرسة بسببه، فهنا ينبغي مراعاة الفروق الفردية بينهم.

6_ مشكلة تربية الأبناء

إن تربية الأبناء في الوطن الأم يشارك فيها أطراف عدة: البيت والمدرسة والإعلام والمسجد والشارع والمعارف والعشيرة والصداقات والمجتمع كله وغير ذلك، وإن التربية هنا لا تكون فقط بالوعظ الديني والأمر بالاستقامة، بل بالأعراف والتقاليد التي تخلق ما يسمى بالعيب، فإن لم يمنعهم الدين عن فعل القبيح منعهم العيب، في مجتمع يشكل رقابة صارمة عليه.

أما في المهجر فإن الوالدين يفقدان أطرافا عدة كانت تعين بفاعلية كبيرة في العملية التربوية، مثل المدرسة والشارع والمعارف والعشيرة والصداقات والمجتمع والأعراف والتقاليد، ليقع العبء الأكبر على الوالدين، ليؤديان أدوارا عدة، فالأب مثلا يلعب في وقت واحد أحيانا دور المعيل والمربي والمعلم والرقيب وغيره من الأدوار التي تشكل هما كبيرا وضغطا نفسيا متفاقما.

إن حل هذه المشكلة يكون من خلال التكتل السكاني لأبناء الوطن الأم في المهجر، فهذا التكتل يتيح التواصل ويخلق مجتمعا صغيرا جديدا في بلد جديد، وتكون له القدرة على تحقيق التواصل وإنشاء مؤسسات تربوية تخدم أبناء هذا المجتمع.

وإلى تدوينة قادمة مع مشكلات أخرى للمغتربين واقتراح حلول لها.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين