المغتربون مشكلات وحلول (3)

نستكمل معكم في هذه التدوينة الثالثة والأخيرة مشكلات المغتربين وحلولها، والتي نرى أن لها الأولوية أكثر من غيرها ونبدأ بمشكلة الوضع السياسي.

 

13_ مشكلة الوضع السياسي

وهذه مشكلة كبيرة وآثارها على المغتربين عامة، حيث يستعمل وجود المغتربين في بعض الدول كأداة تنافس سياسي سيء، إما بالترغيب من خلال الحصول على أصواتهم الانتخابية في الدول الديمقراطية مثلا، وإما بالترهيب من خلال نشر الفوبيا وعقدة الخوف ضدهم والزعم بأنهم سبب مشكلات كثيرة تحدث في البلد، لخلق حالة احتقان ضدهم قد تتطور في بعض الأحيان من الاعتداء النفسي والاجتماعي واللفظي إلى الاعتداء الجسدي.

كما إن وجود هذه الجالية أو تلك في بلد ما قد يؤهلها للعب دور سياسي، من خلال تكوين كتلة سياسية فاعلة، تستطيع الحضور بقوة في المناصب التشريعية والتنفيذية، وهذا الأمر يختلف من بلد لآخر في المساحات والهوامش المسموح بها، والتقدير لها ينبغي أن يكون محسوبا ودقيقا.

إن وجود نقباء ورؤوس للجالية المغتربة يمتلكون الحكمة وتسير بتوجيهاتهم وقراراتهم هذه الجالية يختصر الكثير من الجهد، ويوفر زيادة كبيرة في عوامل النجاح لحل مثل هذه المشكلات في هذا الصدد.

 

14_ مشكلة اختلاف الثقافة

الثقافة كما هو التعريف المعاصر لها تمثل مجموع الأفكار والسلوكيات والعادات والتقاليد واللغة التي تمتلكها شريحة أو شعب، وتتعرض هذه الثقافة إلى مجموعة من التحديات والهزات في بلاد المهجر تفرض على المهاجرين والمغتربين فيها واحدا من خيارات ثلاث:

• الأول: التحول الكلي بترك هذه الثقافة التي أصبحت مصدر إزعاج.

• الثاني: التمسك المفرط حد الغلو أحيانا كنوع من الأصالة والتميز.

• الثالث: الموائمة بين ثقافة البلد الأم وثقافة البلد الجديد.

وليس من المفاجئ أن أقول: ليس هناك خيار مثالي بالمطلق، فالخيار المثالي هنا نسبي يعتمد على عوامل كثيرة مثل عدد الجالية وجنسيتها ودينها ولغتها وتكتلها أو تشتتها، وغير ذلك من العوامل المحددة للخيار الأفضل، فالخيار الأفضل للجالية القريبة جدا لثقافة البلد الجديد، يستحسن اعتمادها خيار التحول الكلي إذ لا موانع في الأمر، والخيار الأفضل للجالية البعيدة جدا عن ثقافة البلد الجديد خيار التمسك والتميز، والخيار الأفضل للجالية التي تتوافق في بعض صور الثقافة دون بعض هو خيار الموائمة، بأن تتحول في بعض الصور وتتمسك في أخرى.

ونضرب على ذلك مثلا بصلة الرحم والتواصل الاجتماعي، فالاندماج والتحول الكلي لثقافة فيها هذه الصلة والتواصل هو الخيار الأفضل، والتمسك والتميز عن ثقافة لا تلقي بالا للصلة والتواصل هو الخيار الأفضل، والموائمة بأن يتمسك بثقافة الصلة والتواصل في بلد لا تشيع فيه هذه الثقافة والاندماج والتحول في ثقافات أخرى مشتركة هو الخيار الأفضل.

 

15_ مشكلة العنصرية

العنصرية مرض يصيب البشر بمجرد عدم وجود أو اضمحلال منظومة القيم الدينية والوطنية والاجتماعية من العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وتشريع القوانين التي تؤمن وجودها وتردع مخالفيها، وغيرها من القيم الضرورية لتحقيق حالة المواطنة الحقيقية لا المزيفة، والتي تقف صدا منيعا أمام كل محاولة لشق صف المجتمع واستفزازه، وتهديد السلم الأهلي من خلال العنصرية ضد شريحة ما، بدافع ديني أو لغوي أو عرقي أو طائفي أو لوني.

غالبا ما توجد في معظم البلدان قوانين ضد العنصرية، لكن يتم تجاهلها أو الالتفاف عليها عند التطبيق، وهنا ينبغي أن يعلم أن الجاليات والأقليات لن تستطيع مواجهة العنصرية بدون مؤسسات مكافحة لهذه العنصرية، تستثمر التشريعات والقوانين في هذا الصدد، وأن لا تيأس من ذلك، فتجارب مكافحة العنصرية نجحت نجاحا باهرا في كثير من البلدان التي لم يتوقع أحد النجاح فيها.

 

16_ مشكلة القوانين والممارسات غير الإسلامية

قد يصدم المغترب بوجود بعض القوانين والممارسات الاجتماعية وغيرها تخالف دينة وقيمه وتقاليده ومصالحه الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والأسرية وما اعتاد عليه في البلد الأم، فهنا حالات ثلاث رئيسة:

الأول: أن توافق هذه القوانين والممارسات الشريعة بالمطلق.

الثاني: أن تخالف هذه القوانين والممارسات الشريعة بالمطلق.

الثالث: أن توافق الشريعة في بعضها وتخالفها في البعض الآخر.

وهنا نقول: كأصل شرعي كلي وعام، إن الدخول لبلد بتأشيرة دخول "الفيزا" يعني التعاقد على الرضا ضمنا بقوانين هذا البلد، وعليه لزاما ان يطبقها ويحترمها ولا يخالفها، لكن السؤال الحيوي هو إذا كانت بعض قوانين هذا البلد وممارساته غير شرعية فما العمل؟

والجواب: لدينا هنا حالات عدة:

الحالة الأولى: أن يكون قانون هذا البلد أو هذه الممارسة في هذه القضية أو تلك لا تخالف الشريعة وهذه لا إشكال فيها.

الحالة الثانية: أن يكون قانون هذا البلد أو هذه الممارسة تخالف الشريعة في هذه القضية أو تلك، وغير مقدور على الإنكار أو التغيير، ولا توجد فرصة لعدم التطبيق بصورة قانونية، ولا يستطيع المغترب مقيما كان أو مجنسا أو حتى من أصحاب البلد الأصليين إلا أن يطبقه، بناء على وجود الضرورة الملحة أو الحاجة التي تؤدي للمشقة الشديدة عند عدم تطبيقه، فهذه الحالة لها حكم مختلف.

الحالة الثالثة: أن يكون قانون هذا البلد أو هذه الممارسة في هذه القضية أو تلك تخالف الشريعة، لكن توجد القدرة على الإنكار أو التغيير، وتوجد الفرصة لعدم التطبيق بصورة قانونية، ويمكن السعي الفردي والجماعي للتحرك نحو التغيير بالوسائل المشروعة والقانونية المتاحة، وهذه الحالة لها حكم مختلف أيضا.

وهناك حالات أخرى تتداخل فيها الحالات الثلاث أعلاه لتكون أكثر تركيبا وتعقيدا.

ومما ينبغي التنبيه عليه، فإن سردنا لهذه الحالات هو من باب الإطلالة والمعرفة والتوعية العامة وليس "الفتوى"، لأن كل حالة من الحالات تحتاج بحسب تكييفها وظروف بلد الإقامة وطبيعة القوانين وأحوال المستفتين إلى فتاوى من علماء ومفتين ثقات، يفضل بشدة أن يكونوا من أهل البلد نفسه، ممن عرف بالعلم والتجربة والإقامة الطويلة وفقهه التام للواقع.

 

17_ مشكلة المادية والفراغ الروحي

وهنا أختم الكلام عن أخطر مشكلة على الإطلاق من مشكلات المغتربين التي أوردناها في التدوينات الثلاث، وهي مشكلة المادية والفراغ الروحي، الناشئة عن السعي وقضاء معظم الوقت في تأمين لقمة العيش والوضع الاقتصادي المناسب الكريم للمغترب ولأسرته، والذي يتحول بمرور الوقت إلى انغماس شديد في المادية، وتكوين فراغ روحي وإيماني وعبادي هائل، يضرب عملية التدين والأخلاق والسواء النفسي بمقتل، لتقسو القلوب، ويهجر القرآن، وتترك الصلوات، وينحرف الأبناء، وتتعرى الأجساد، ويسود الانفتاح غير المنضبط، وتتبدل أهمية القيم، وتصبح العلاقات نفعية ومصلحية حتى بين الزوج وزوجه والوالد وولده، ويصبح التناسب طرديا، فمع زيادة المادية والانغماس فيها تحصل الزيادة في ظلمة القلوب ووحشتها، والسعي المحموم للمتع المادية التي يؤمنها البلد الجديد.

إن علاج هذه المشكلة لا يكون إلا بإعلان النفير العام، ومضاعفة الجهد التربوي والسلوكي في العمل مع المغتربين، من خلال تحرك الرموز والمصلحين وتأسيس المؤسسات المختصة.

عموما لا يعني أن المشكلات التي ذكرنا في التدوينات الثلاث هي على سبيل الحصر فلا يوجد غيرها، فثمة مشكلات كثيرة أخرى، لكنا نعتقد أن هذه المشكلات المذكورة هي مشكلات رئيسة وكبرى، يمكن أن يقاس عليها في التشخيص والمعالجة، وتندرج تحتها مشكلات فرعية لا حصر لها، علما أن هذه المشكلات في تشخصيها وفي حلولها المقترحة قابلة لتعدد الاجتهادات ووجهات النظر.

وأخيرا نقول: إن الاغتراب إما سياحة في الأرض، وبناء نفسي وتربوي فاعل، وزيادة لحمة بين أفراد الأسرة أو الأسر، وخبرات جديدة، ونفع وعمل صالح للذات وللآخرين، واكتشاف لمصادر الرزق الحلال، واستعانة بالله، وثبات على القيم، وإما تشتت وضياع في الأرض، وانتكاس نفسي وتربوي، وتفكك في الأسرة أو الأسر، وضحالة في الخبرات، ونفع وعمل قاصر على الذات، ووقوع في فخ المال الحرام، وتخل كامل عن الله والقيم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين