الورع

 

 ترك المعاصي واجب يقيناً، ومن الخير ترك ما يقرب منها حذراً من الوقوع فيها، وهذه حيطة يتذرع بها أولو العزم من الناس، فإن الذي يكره الرذيلة يجعل بينه وبينها حجاب، ويختط منهجاً لحياته بعيداً عن مظانها وعن أصحابها، وبذلك يؤمن الانزلاق إليها ويتحصن من أسباب الإغراء التي تكثر قريباً منها.

 والأصل في ذلك ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشابهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه البخاري.

 والحديث يضرب المثل للبعد عن الشبهات بما نألفه في حياتنا من أحوال الرؤساء،  فإن لكل منهم مقراً يتربع فيه وحول هذا المقر ساحة واسعة يحظر الاقتراب منها، وينتشر الحراس حولها.

 هذه المساحة المجاورة للمقر هي الحمى، وكأنها استحكامات خارجية للمقر نفسه، ولذلك أعطيت حكمه، ومنع اعتداؤها.

 وقد جرت العادة أن يمضي الناس لشأنهم بعيداً عن هذه الأسوار وما وراءها، إذ لا غرض لهم في القرب منها.

 ولماذا يتسكعون حولها فيتعرضون للعنت.

والله عز وجل - وله المثل الأعلى - بيَّن أن له في أرضه حمى يجب تَهَيُّبُهُ، وهذا الحمى يتمثل في المحرمات، التي نهى عنها، والكيّس مَنْ بَاعَدَ بين نفسه وبين هذه المحرمات، ضنَّاً بشرفه عن التلوُّث، وسيرته عن الاعوجاج.

 ثم إنَّ الحلال المحض والحرام المحض قد بُينت أدلتهما، واتضحت حكمة التحليل والتحريم فيهما: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل:90} .

 بَيْد أن هناك أمورا أخذت من جانب الحلال شيئاً ومن جانب الحرام شيئاً، فإذا تأملها الناظر وجد لها الوجهين المتضاربين، وتساءل: أي الناحيتين يسلك؟.

 والمؤمن الصالح يرجح هنا الحظر على الإباحة ضماناً لبراءة عرضه ودينه.

 وسيرُه مع الحزم في هذه الميادين يرسّخ قدمه في طريق الحق ويجعله قصياً عن أسباب الإغواء والإغراء.

 أما التهاون فربما بدأ خفيف الأثر لكنه قد يجرُّ بعد إلى ما لا يليق.

 والروايات الأخرى لحديث الحلال والحرام تدل على ذلك.

 فلأبى داود أنًّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يخالطه وإن من يخالط الريبة يوشك أن يجسر).

 وفى رواية النسائي: (فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان )

 وفى رواية الطبراني: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن، فهو قَمِنٌ أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه...).

 في الأمور المعتادة: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وذلك جرى على منهج الإسلام في التيسير لا التعسير، ولا عجب فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) أحمد.

 أما فيما يتصل بالخير والشر والجمال والقبح، وما يُرضى الله وما يسخطه، فإن مقتضى الحزم أن يحصن المرء نفسه بمزيد من الحيطة فيترك شيئا من الحلال القريب من الحرام كراهية للحرام وما يتصل به، 

وعن عطية السعدى (لا يبلغ العبد أن يكون في المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذراً لما به بأس) الترمذي.

 وعن حذيفة رضي الله عنه قال؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) الطبراني.

والورع ليس معناه التزمُّت أو العجز عن مواجهة المشكلات المتجددة بحكم الله فيها، كلا، فالمسلم يتحرى الحق جهده وينظر ما يلقاه من القضايا والأحكام ببصر نيِّر، فإذا اطمأن قلبه إلى ما يقنعه استقر عليه دون وجل، وإن نفر قلبه من مسلك أو رأى هَجَرَهُ واستراح.

 عن أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه قلت يا رسول الله أخبرني، ما يحل لي وما يحرم عليَّ؟ قال: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأنَّ إليه القلب، وإن أفتاك المفتون) أحمد .

 وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: (اكثروا على عبد الله ذات يوم. فقال عبد الله: إنه قد أتى علينا زمان ولسنا هنالك!! ثم إنَّ الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون.

 فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله.

 فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم .

 فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه فليقض بما قضى به الصالحون.

 فإن جاء أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أخاف إني أخاف!!

 فإنَّ الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك النسائي.

التورع عن الشبهات كما رأيت، سواء كانت هذه الشبهات رأى العين وحكم العلم، أم كانت قلق النفس وريبة الفؤاد.

 ونحن في عصر مادي مغرِق يستمع إلى هذا الكلام وكأنه يستمع إلى لغة الجان أو سكان المريخ. إنه يطلب ما يشتهي غير دارٍ بحديث الحلال والحرام وما بينهما من شبهات، ولقد أعطى الرذائل اسماً غير اسمها ليتناولها وهي حبيبة إليه شكلاً وموضوعاً.

 والأجيال التي تخوض الحياة بهذه النية أقرب إلى طباع البهائم منها إلى خلائق الإنسان.

 أما أهل التقوى فهم وقَّافون عند حدود الله، هَيَّابون أن يلمُّوا بشيء يُسقط مروءتهم ويُغضب عليهم مولاهم.

 وقد ترقى بهم هذا الإيمان إلى ضربٍ آخر من الورع يستحق الإشارة.

 قال أبو سليمان الداراني: كل ما شغلك عن الله فهو شؤم عليك.

 وقال سهل بن عبد الله حين سئل عن الحلال الصافي: الحلال هو الذي لا يُعصى الله فيه. والحلال الصافي الذي لا ينسى الله فيه.

 فالورع الذي لا ينسى الله فيه، هو الذي سئل عنه الشبلي رحمه الله، فقيل له: يا أبا بكر ما الورع؟ قال أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله عز وجل طرفة عين.

 وهذا اللون من التفكير يقتضي نمطاً حازماً من السلوك لا يطيقه إلا الأقلُّون، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان ينظر إلى الرجلين المتساويين فإن كان أحدهما قريباً له أقصاه.

 كأن قرابته من أمير المؤمنين عائق له عن الصدارة والوجاهة!!

 ولم ذلك؟ لأن عمر شديد الحساسية بما تفعله الأسر الحاكمة فهو لا يريد أن تنتظم له أسرة في هذا السلك، وهو يحتاط لذلك من أول الأمر.

 ومنهم أبو حنيفة الذي كان يتاجر في الملابس محدداً لنفسه ربحاً يكفل حاجاته فحسب، رافضاً ما زاد على ذلك، وإن طابت نفوس المشترين بدفعه!.

 وأساسُ هذه الخطة - التي لا تلزم بها الشريعة - أن هؤلاء الرجال شغلتهم في حياتهم وظيفة أعلى، فهم يوجلون مما يصرفهم عنها، أو يوهي عزائمهم فيها.

 إنَّ الرجل الذي يرى في الله عوضاً عن كل فائت، ينظر إلى عرض الدنيا وشئون الأقربين والأبعدين نظرة خاصة، نظرة من يحكم عليها من أعلى، لا من تتحكم فيه وهو دونها أو وراءها...!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين