الوطن والمواطنة .. نظرة تأملية

 

 

أسس الإسلام للكثير من المفاهيم العميقة التي لا تخضع لنطاق الزمان والمكان ،تحتاج لمن يتدبرها ويقف عندها بفكر نير ، ومن بين ما لفت إليه وأصل له :  فكرة الوطن والمواطنة وتجذرها في الفطرة الإنسانية .

 

حيث جعل تعلق الإنسان بوطنه وبأرضه جزءً من منظومته الفكرية والثقافية ومن المظاهر الإيمانية .. ، حتى إنه احتسب من قتل دون أرضه ووطنه شهيدا ً .. ، وجعل من أهداف الجهاد وغاياته السامية : الدفاع عن المواطنين الأبرياء  الذين سلبوا نعمة العيش في أرضهم وديارهم ، وحقهم في العيش فيه ،( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ..) سورة الحج : 39 – 40  .

 

كما رتب القرآن الأجر العظيم لمن خرج من وطنه مهاجرا ً تاركا ًأهله وعشيرته لله ( ومن يخرج من بيته مهاجرا ً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله .. ) النساء : 100 .

 

والإسلام لم ينه عن تعدد دوائر الولاءات والانتماءات للإنسان ما دامت لا تعارض فكرته وثقافته، بل شجع عليها وأمر بها ، حيث حث على الميل للعشيرة والقبيلة – مثلا – لأنه ميل طبعي في النفس البشرية ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) الشعراء : 214 ، وغيرها من دوائر الانتماء والولاء .. ومنها الوطن ..

 

لقد عاش المسلمون في ظل فكرة الأمة الواحدة  ، التي ضمت مختلف الأعراق والقوميات ، وعلت فوق الكيانات السياسية والحدود الجغرافية الفاصلة التي تعوق حركة المسلم في بلاد المسلمين ردحا ً من الزمن ،  تجلت فيها الأخوة الإيمانية بل الإنسانية ، وتحققت فيها الكرامة الإنسانية  والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي

 

فتعددها – الانتماءات – وكثرتها لا تنافي الفكرة الإسلامية ولا تعارضها ما دامت تحت مظلة العقيدة والإيمان .. والمنهي عنه إنما هو التعصب المقيت والغلو في الحب ونزعات العنصرية التي تقطع الروابط والعلاقات ، وتؤدي إلى التشرذم والتفرق   .

 

ومن هنا ربط الإسلام الإنسان برابط الفكرة والقيمة ، لا برابط الجنس واللون والقومية ، وهو التقوى ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..) . الحجرات : 13 .

 

لقد عاش المسلمون في ظل فكرة الأمة الواحدة ( إن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) الأنبياء : 92 ، التي ضمت مختلف الأعراق والقوميات ، وعلت فوق الكيانات السياسية والحدود الجغرافية الفاصلة التي تعوق حركة المسلم في بلاد المسلمين ردحا ً من الزمن ،  تجلت فيها الأخوة الإيمانية بل الإنسانية ، وتحققت فيها الكرامة الإنسانية  والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي .. ورسخت في وعي المسلم أن للمسلمين وطناً واحداً ، وسلطة واحدة تنطق باسمهم وتقوم على مصالحهم وحقوقهم.. ، مع ما اعتراها من نقص وعيب ..

 

لكن الدولة الإسلامية ( دار الإسلام ) تجزأت إلى دول بل دويلات ( بفعل الكثير من العوامل ) ، وأصبحت هناك حدود مفتعلة بينها ، صنعت حاجزا ًضخما ً يحول دون وحدة الأمة وتكاملها السياسي والاقتصادي .. فأصبح الوطن الإسلامي بحدوده العقائدية مجرد ذكريات عزيزة من تاريخ الأمة الماضي وحلم يتطلع إليه كل مسلم ، وهذا الذي حصل لم يصب الأمة الإسلامية وحدها بل العالم بأكمله ..

 

فالامبراطوريات صارت أقاليم ودويلات ..، تطور معها مفهوم الأنظمة الحاكمة وتقدمت قوانين السياسة والاقتصاد .. ووضحت فكرة الحقوق و الواجبات ، فتشكل معها مفهوم حديث للوطن والمواطنة ونظرة عصرية له ، تتمحور حول  :

 

أن الوطن : أرض ذات حدود ثابتة واضحة ومجتمع يعيش على هذه الأرض له سلطة ويحكمه قانون .

 

إن فكرة الوطن والمواطنة لا تعارض الدين ولا يعارضها الدين من حيث الأصل ، ما دامت تحقق الكرامة الإنسانية وتحافظ على الحقوق والقيم العليا للمجتمعات..  ، والأمن السياسي والكفاية الاقتصادية  ،  وقد عاش المسلمون فحواها ، ولمسوا واقعها في أرقى معان

 

فالمجتمعات الحديثة رأت بهذا تأصيلا لمفهوم المواطنة وتجاوزا ًلانقساماتها  ، واستقرارا لنظامها السياسي والاجتماعي القائم على نظام دستوري ، فالأوطان أصبحت بالمفهوم المعاصر أكبر من علاقة عاطفية ، وإنما حقيقة دستورية قانونية وواقع حاكم يتجاوز كل الخلافات ، علاقة أبنائه قائمة على الحقوق والواجبات تجاه الوطن بصرف النظر عن الدين والقومية والجنس والمكونات الإيدلوجية والعرقية ..

 

فكل هؤلاء يحتضنهم الوطن ، الذي يمثل لهم الاستقرار بكل أشكاله ، والمصلحة العليا بين أفراد الشعب المحافظة على الوطن ..

 

والسؤال هنا:هل هذا المفهوم للوطن يعارض الدين في شيء أو يصطدم مع مثله وقيمه،أو يشكل أي خطر على وجوده؟؟ لا سيما أنه أصبح أمرا مفروضا ً وواقعا ً ملموسا ً ونظاما ً عالميا ً لا محيد عنه ولا يمكن قلبه أو تغييره ..

 

إن فكرة الوطن والمواطنة لا تعارض الدين ولا يعارضها الدين من حيث الأصل ، ما دامت تحقق الكرامة الإنسانية وتحافظ على الحقوق والقيم العليا للمجتمعات.

 والأمن السياسي والكفاية الاقتصادية  ،  وقد عاش المسلمون فحواها ، ولمسوا واقعها في أرقى معان ، حيث كانت الدولة مزيجا ً من الأعراق والألوان والثقافات.

 بل والأديان ، صهرها الإسلام جميعا ً في بوتقة واحدة وصاغها في جغرافية واحدة ، عاش فيها الجميع في كرامة وعزة وراحة واستقرار وعدل ومساواة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين