الوهم، في رداء العلم

وصلني من جهات عدة في الأيام القليلة الماضية، عبر صفحات الواتس والفيس، هذا التسجيل المرئي الذي يقدم فيه المتحدث فُهوما مزعومة في دلالات اللغة نحوا وصرفا.

وأكثرُ مرسليه كان محتفيا به مستطرِفا له، وأقلُّهم الذي يسأل عنه متوجسا.

فكتبتُ تعقيبا عليه:

العرض قوي، مصحوب بثقة راسخة يبديها المتكلم، تجعل المتلقي يستسلم للتسليم والتوقيع بالموافقة والإعجاب في لحظة انبهار جامح، كما فعل المذيع.

ولكنه عرض على طريقة سنا البرق الخُلَّب الذي يخطَف الأبصار،

وما هو إلا أن تَسترِدَّ البصر بعد ذلك البرق المُطمِع المُخلِف، حتى ترى أن ذلك النهر المتدفق ما كان إلا سرابا بقيعة لا يُرَوِّي ظمأ نملة.

وأنّ يدك التي ملأتها من تلك المعلومات التي اغتبطتَ بها، أصبحت لا تقبض إلا على الريح.

فإن مراجعة اللفتات التي قدمها المتحدث، واستقراءَ الآيات التي استشهد بها، تثبت أن كلامه أوهام وأخيلة لا رصيد لها في الواقع، وأنه والمذيع الذي يحاوره، على مستوى من السذاجة تشفق عليهما منها.

وإلا، فإن كنتَ ناقلا فالصحة، أو مدَّعيا فالدليل.

وفي بيان ذلك نقول:

أولا: إن اختلاف حركات الإعراب في آخر الكلمة المعرَبة، لا علاقة له بمعنى الكلمة المفردة في ذاتها، حميدة كانت أو ذميمة، رفيعة أو وضيعة.

وإنما هو خاضع للعوامل الإعرابية التي تكتنف الكلمة، فتؤثر في تلك الحركات.

فمنها عوامل رفع، كالابتداء الذي يرفع المبتدأ، والمبتدأِ الذي يرفع الخبر.

ومنها عوامل نصب، كالأفعال التي تنصب المفاعيل.

ومنها عوامل جر "في الأسماء خاصة" كحروف الجر السابقة، أو الإضافة اللاحقة.

ومنها عوامل جزم "في الأفعال خاصة" كأدوات الجزم التي تجزم فعلا واحدا، أو التي تجزم فعلين...

ومن المعلوم أن هذه العوامل إنما تؤثر في اختلاف دلالة الكلمة في سياق الجملة بحسب موقعها من الإعراب.

ولكن لا أثر لها البتة في اختلاف معنى الكلمة في ذاتها.

فإن "الشيطان" مثلا، الذي جاء منصوبا في قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] هو نفسه الشيطان الذي جاء مرفوعا في قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]

وهو نفسه الذي جاء مجرورا في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]

لم يرفع قدرَه الرفعُ ولم يخفضه الخفض، ولم يكتسب فضلا ولا جاها بالنصب.

وقل مثل ذلك في كلمة {الْمَلَائِكَةِ} فقد جاءت في القرآن منصوبة ومرفوعة ومجرورة. ولم تنقص علامةُ الجر شيئا من شرف وفضل الملائكة، كما لم تُكسبها علامة النصب مزيد فضل وشرف.

وقس على ذلك حال كل الكلمات والأسماء، شريفة كانت أو خسيسة، لا تغير حركات الإعراب من معناها في ذاتها شيئا.

ثانيا: إن أسماء حركات الإعراب لها دلالة اصطلاحية نحوية لا تتجاوزها، فالرفع مصطلح نحوي يدل على أن علامة الإعراب ضمة، "أو ما ينوب عنها من العلامات الفرعية".

والنصبُ مصطلح يدل على علامة الفتحة، "أو ما ينوب عنها".

والجرُّ أو الخفض يدلان على علامة الكسرة، "أو ما ينوب عنها".

والجزمُ يدل على علامة السكون، "أو ما ينوب عنها.

ولا تدل أسماء حركات الإعراب على شيء من معانيها اللغوية المعجمية، ولا تُستعمل فيها إلا على سبيل المشاكلة اللفظية، كأن تقول لمن لحَن في شيء من حركات الإعراب: ارفعْ، رفَعَ الله قدرك. أو: اكسِرْ، كسَرَ الله عدوّك. أو: انصبْ، وقاك الله شر النَّصْب أو شر النَّصَب...

وعندئذ فهذا أقرب إلى المُلْحة والظرافة والملاطفة، وجمال الأسلوب في حُسن استثمار المناسبة اللفظية، وتوظيف المشاكلة اللغوية في تزيين البيان.

ومن هذا القبيل، البيتان الشهيران في هذا الباب، للأديب الشاعر أبي المحاسن محمد بن نصر الله بن مكارم بن الحسن، المعروف بـ: ابن عُنَيْن، الحوراني الدمشقي ت 630هـ إذ يقول:

كأنِّيَ مِن أخبارِ إنَّ ولم يُجِزْ=له أَحدٌ في النحوِ أنْ يتقدَّما

عسى حرفُ جرٍ مِن نداكَ يجرُّني=إِليكَ فأُضحِي مِن زماني مُسَلَّما

ولاحِظوا هنا كيف أن الشاعر حمَّل حركة (الجرّ) معنى حميدا، على ضد المعنى الذي توهمه المتحدث في التسجيل.

ولاحِظوا أيضا، أن هذا المعنى الحميد إنما يحسن في مثل هذه المشاكلة، وليس في كل كلمة مجرورة.

ومن هذا القبيل أيضا، ما جاء في كتاب (غُرَرُ الخصائص الواضحة) لصاحبه: جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الانصاري الكتبي، المعروف بالوطواط ت 718هـ قال:

جلس نَحْويٌّ إلى جانب منبر واعظ، فلَحَن الواعظُ، فقال له النحوي: أخطأتَ يا لُحَنَة. فقال الواعظ بديهاً: أيها المعرِبُ في أقواله اللاحنُ في أفعاله، مالي أراك تائهاً منكِراً؟ أكُلُّ ذلك لأنك رفعتَ ونصبتَ وخفضتَ وجزمت؟! هلا رفعتَ إلى الله يديك في جميع الحاجات، ونصبتَ بين عينيك ذكر الممات، وخفضتَ نفسك عن الشهوات، وجزَمْتَها عن اتباع المحرمات... اهـ

وبنحو هذا حكى هذه الواقعةَ ابنُ عجيبة في كتابه: (إيقاظ الهمم شرح متن الحكم) وسمى الواعظ: الحسن بن سمعون.

قلت: لعل المقصود أبو الحسن بن سمعون، محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس البغدادي الواعظ المحدث، المتوفى سنة 387 هـ صاحب كتاب: أمالي ابن سمعون، وهو كتاب مطبوع في الأمالي الحديثية، يضم أمالي عشرين مجلسا للشيخ رحمه الله.

والمقصود أن كل هذا إنما هو من قبيل استعمال أسماء حركات الإعراب في معانٍ مشاكِلة، وأما تحميل نفس حركات الإعراب تلك المعاني فلا.

ثالثا: تفريق المتحدث في التسجيل، بين (العباد والعبيد) غير دقيق، ولا يخدُمه استقراء الآيات الأخرى.

بل حتى إنّ في بعض الآيات التي استشهد بها، ما ينقض مزاعمه.

فقد استشهد على زعمه اختصاص كلمة "عباد" بالصالحين، بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]

أقول: ونفيُ ظلمه سبحانه لخلقه، يعمهم جميعا بداهة، ولا يختص بالصالحين دون الطالحين.

وإلا فقد قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182]

وواضح أن كلمة "العباد" في آية غافر، تعني نفس ما تعنيه كلمة "العبيد" في آية آل عمران.

نعم قد تكون كلمة "العباد" أكثر استعمالا في الصالحين خاصة، في آيات القرآن، ولكن هذا لا ينفي مجيئها بمعنى المفرطين والمسرفين في آيات أخرى، ولو على قلة.

فإن قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] يقتضي أن الكثير من "عباده" سبحانه، كفور.

وأوضح منها في نقض ما ذهب إليه المتحدث، قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] فإن العباد هنا موصوفون بالإسراف على أنفسهم، وهو أبلغ من مجرد وقوع معصية منهم.

وأوضح منهما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ "أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ" أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17] فإن الضالين هنا سُمُّوا عبادا.

ثم إن المتحدث قد جعل (العباد) للصالحين، في مقابل (العبيد) للمجرمين، وهو نفسه قرر أن (العبيد) مفردها: (عبد)...

وأقول: ليت المتحدث تنبه إلى أن الله تعالى أطلق وصف (العبد) على ثلة من أنبيائه المرسلين، وعلى رأسهم سيدهم وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، إذ يقول سبحانه:

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]

ويقول سبحانه: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17]

ويقول جل شأنه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41]

ويقول أيضا: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9]

وقد جمع سبحانه هذه النخبة من عبيده على (عِباد) فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]

ثم إن زعمه بأن (العبد) يُجمع على (عبيد). وأن (العابد) يُجمع على (عباد).. غير دقيق أيضا، ولا تُسعفه معاجم اللغة التي تثبت أن (العبد) يُجمع على (عبيد، وعباد، وعَبَدَة، وغيرها...) كما سبق في آية سورة [ص: 45]

وأن العابد يُجمع على (عباد. وعبَدَة. وعابدين). كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]

قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: العَبْدُ: الإنْسانُ حُرَّاً كان أو رقيقاً، والمَمْلوكُ كالعَبْدَلِ، جمعه: عَبْدونَ وعَبيدٌ وأعْبُدٌ وعِبادٌ وعُبْدانٌ وعِبدانٌ وعِبِدَّانٌ بكسرتينِ مُشَدَّدَةَ الدالِ، ومَعْبَدَةٌ كمَشْيَخَةٍ، ومعابِدُ وعِبِدَّاءُ وعِبِدَّى وعُبُدٌ بضمّتينِ، وعَبُدٌ كنَدُسٍ، ومَعْبوداءُ. اهـ

فلا يَسْلمُ للمتحدث في التسجيل، التفريقُ الذي زعمه بين (العباد والعبيد).

رابعا: يُستغرب من المتحدث وسذاجته حدَّ العجب، زعمُه بأن الله تعالى لما أعطى الآخرة للصالحين نصبها. واستشهد بقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]

وأنه سبحانه لما أعطى الآخرة للمجرمين جرَّها. واستشهد بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104]

والعجب العجيب من كلامه هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن آية الإسراء التي استشهد بها على زعمه جر كلمة (الآخرة) عندما أعطيت للمجرمين، ليست خطابا للمجرمين أصلا، وإنما هي خطاب للمؤمنين من بني إسرائيل الذين أنجاهم الله تعالى مع نبيهم موسى من فرعون الذي غرق في اليم.

وإليك الآية في سباقها وسياقها ليتضح لك الوهم الكبير الذي وقع فيه هذا المتحدث المهذار.

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) } [الإسراء]

فالخطاب ليس للمجرمين، وإنما هو للمؤمنين من بني إسرائيل الذين امتنَّ الله تعالى عليهم بالنجاة من فرعون بعد إغراقه.

ولذلك جاء في تفسير ابن كثير عند هذه الآية: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جميعكم أنتم وعدوكم. اهـ

الوجه الثاني: هب أن آية الإسراء التي جاءت فيها (الآخرة) مجرورة، كانت خطابا للمجرمين. فمن الذي قال له: إن حركات الإعراب تدل على معنى في ذات الكلمة، يتغير بتغير حركة إعرابها؟!

وسبق أن نبهنا في الفقرة الأولى من هذا البحث، إلى أن اختلاف حركات الإعراب في آخر الكلمة المعرَبة، لا علاقة له بمعنى الكلمة المفردة في ذاتها، حميدة كانت أو ذميمة، رفيعة أو وضيعة، إنما تؤثر حركات الإعراب في اختلاف دلالة الكلمة في سياق الجملة بحسب موقعها من الإعراب. ولا أثر لها البتة في اختلاف معنى الكلمة في ذاتها.

ثم إن نظرة عابرة في موارد كلمة (الآخرة) في القرآن، تقفنا على أنها أعطيت للصالحين مجرورة مرارا وتكرارا.

وإلا فأين يذهب المتحدث بقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]

وقوله تعالى عن المرْضيين من عباده: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]

وقوله عن المحسنين: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]

وقوله تعالى في دعاء موسى عليه السلام: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]

وغيرُها كثير في القرآن، لا أطيل بذكره، لأن الأمر من الوضوح بحيث يستغني عن التوضيح.

خامسا: وإمعانا من هذا المتحدث في إلباس الوهم رداء العلم، فإنه يزعم أن لفظ (كلمة) لما كانت للخير في القرآن جاءت منصوبة، واستشهد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] ولما كانت للشر جاءت مجرورة، واستشهد بقوله تعالى {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]

ونقول في كشف هذا الوهم: فأين تذهب بقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة: 40]

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74]

وقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]

فقد جاء لفظ (كلمة) في الشر، مع نصبها في كل هذه الآيات، كما هو واضح.

وبالمقابل، فأين تذهب بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]

فإن لفظ (كلمة) جاء مجرورا في هذه الآية، مع أنها في الخير كما لا يخفى.

سادسا: يستشهد المتحدث على نظريته إياها، بقوله تعالى {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23] مدعيا بأن كلمة (قول) لما كانت منسوبة إلى البارِّ بوالديه، جاءت منصوبة. فلما نسبت إلى العاق، جاءت مجرورة بزعمه في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]

وهو كلام مردود من وجهين:

الوجه الأول: أن (القول) في آية سورة ق، ليس خاصا بالعاق ولا منسوبا إليه، ولا قائل بذلك من أهل التفسير. وإلا فأين القرينة على المُدَّعى؟!! أو أين كلام أهل التفسير في ذلك؟!!

كلمة (قول) في آية ق، تعم قول كل قائل، أيا كان ذلك المقول، وذلك لأنها نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم كما هو معلوم.

قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: وقد اختلف العلماء: هل يَكتب الملك كل شيء من الكلام؟ وهو قول الحسن وقتادة، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب، كما هو قول ابن عباس؟ على قولين، وظاهر الآية الأول، لعموم قوله: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }. اهـ

الوجه الثاني: أن هذا الزعم الموهوم منقوض بجمهرة من الآيات جاءت فيها كلمة (قول) منصوبة، والمقول شر. كما في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]

وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30]

وقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]

وقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]

وقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [الحج: 30]

سابعأ: وأما زعمه أن الحيوانات لما أعطيت الصالحين جاءت منصوبة، مستشهدا بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]

وأن الخطاب عن الحيوانات لما وُجَّه إلى المجرمين جاءت الحيوانات مجرورة، مستشهدا بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]..

فنقول له: فماذا تقول في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]

فقد جاءت الخيل مجرورة في آية الأنفال، ولا شك أن الخطاب فيه موجه للمؤمنين!

فأين نظريتك العجيبة التي زعمت؟

وماذا تقول في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142]

وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} [النحل]

وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]

فقد جاءت كلمة (الأنعام) مجرورة في جميعها كما ترى، والصالحون مقصودون في الخطاب بها بلا ريب.

فلستُ أدري كيف يسمح مثقف لنفسه بتبني ونشر خاطرة عن القرآن ولغة القرآن، ساذجةٍ على هذا النحو، منقوضةٍ بكل هذه الشواهد الواضحات، ويَعرض عقله على الناس من خلالها، دون أن يكلف نفسه أدنى نظر في الإيرادات والنواقض المحتملة لهذه الخاطرة، ودون استشراف للنصوص ذات الصلة، التي تنسف بنيان نظريته من أساسه.!

أمر غريب حقا.

وأغرب منه حفاوة بعض المثقفين بهذا الفتح المزعوم، الذي لا يعدو أن يكون وهما في رداء العلم.

اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه.

وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه.

والله أعلم.

لمشاهدة المقطع هــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين