بين راديكالية الثوري وبراغماتية السياسي

 

?- العقل الثوري بطبيعته عقل صلب وجذري لا يؤمن بأنصاف الحلول , بخلاف العقل السياسي, سواء أثناء الثورة أو في ظروف الاستقرار !

لكن ما يهمني الآن هو المنطلق الشرعي للفعل السياسي في الإسلام .

نعم توجد نصوص شرعية ومواقف نبوية تدل على القطع والمفاصلة ( وهي باتت معروفة ومنتشرة منذ مدة كونها تناسب الثورة ! ) 

لكن أيضاً توجد مواقف مرنة منها : 

مراعاة النبي عليه الصلاة والسلام للناحية الإعلامية وكلام الآخر ( الكافر ) حتى أثناء الحرب , ويظهر هذا في قوله لسيدنا عمر الذي طلب قتل رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول : (( دعه , لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )), الترمذي .

و ابن سلول هذا قال عن مقام النبوة – حاشاه بأبي هو وأمي, صلى الله عليه وسلم : ( سمّن كلبك يأكلك , لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجنا الأعز منا الأذل .. ) بل انسحب بثلث الجيش في غزوة أُحد ..

والموقف تكرر أيضاً عند تركه لقتل العلج الذي طعن بعِرضه ( صلى الله عليه وسلم ) وقد بوب البخاري للحديث : 

( ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه ).

 

?-  يقول أحد ثوار أمريكا اللاتينية كلاماً سأشرحه بالمثال الآتي :

لو أن حركة حماس مثلا خطفت جنوداً صهاينة , فالفعل الثوري يتطلب منها أن لا تفرج عنهم إلا بطلب زوال إسرائل عن الخارطة كلياً .. 

لكن الفعل السياسي يتطلب منها ( واقعياً ) أن لاتفرج عنهم إلا بمقابل الإفراج عن معتقليها داخل السجون الصهيونية.

فإن قتلتهم في الحالة الأولى فهي مصيبةٌ ثورياً مخطئةٌ سياساً

وإن قتلتهم في الحالة الثانية فالعكس.

 

- (المرونةالسياسية), إن صح التعبير, قد ظهرت من النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية - لأجل المصلحة السياسية - وقد قال قبلها : 

( يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب , والله لا يدعونني إلى خطة يعظمون فيها شعائر الله إلا أجبتهم إليها ) وهذا ظهر عندما شطب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وكذلك ( محمد رسول الله ) وهي أمور تتعلق بالمبدأ , بينما الصحابة رفضوا الشطب وحلقَ شعورهم, وكذلك عدمَ قبول المسلمين الجدد القادمين من قريش ..

وهنا نجد سيدنا عمر يقول للنبي عليه الصلاة والسلام : ( لماذا نعطي الدنيّة في ديننا ؟! ) ثم مالبث أن قالها لأبي بكر مرة ثانية لمّا لم يطمئن قلبه !! ( البخاري ) , و مع هذا سمّ القرآن ماحدث : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

 

أي أننا نلاحظ ما يمكن تسميته " الفعل الثوري " ظاهراً عندالصحابة , و" الفعل السياسي " ظاهراً عند النبي عليه الصلاة والسلام.

 

وفي هذا الخصوص يقول الإمام ابن حجر في الفتح : 

" وفيه جواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه, ما لم يكن قادحا في أصله إذا تعين ذلك طريقا للسلامة في الحال والصلاح في المآل, سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال بل عليه التسليم، لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبا بكثرة التجربة ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي" .

 

?- شاب سوري - بحكم تجبر النظام - أمضى عمره بعيداً عن السياسة ولم يتدخل فيها .. اللهم إلا مؤخرا مع ثورتنا ! ثم يطلب من السياسي المخضرم بأن يعلن الحرب دائما  وربما يجيش ضدنا دول الشرق والغرب !!! وبالتالي لا يحق له أن يهادن أو يوادع أحداً !!

وكأن من الحكمة الثورية تعدد جبهات القتال وعدم حصر العدو ؟!!

أو أن يستمر في القتال أبد الدهر !

وهذا ليس من الطفولة السياسية فحسب وإنما من الغباء القاتل !!

 

بينما وجدنا في الهدي النبوي عكس ذلك فكان النبي, عليه الصلاة والسلام, إذا أراد غزوة ورّى بغيرها . ( البخاري ).

 

قال البدر العيني في ( عمدة القاري ) :

هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من أَمر من أَرَادَ غَزْوَة فورّى بغَيْرهَا، أَي: بِغَيْر تِلْكَ الْغَزْوَة الَّتِي أرادها ..

 

بل أراد كما - عند ابن إسحاق - أن يعطي ( مرتزقة غطفان ) ثلث ثمار المدينة لكي يبعدهم عن بقية الأعداء في غزوة الخندق, أي تحييدهم عن الصراع.

 

ورحم الله الإمام البخاري الذي فقه مثل هذا الفهم, فأدرك حقيقة الأمر وأن الصراع ليس مستمرا وبعيداً عن أي سياسة فقد بوب في صحيحه الأبواب التالية :

1- باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره وإثم من لم يف بالعهد وقوله (( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها .. )) الآية .

2- باب المصالحة على ثلاثة أيام أو وقت معلوم .

3- باب الموادعة من غير وقت وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أقركم على ما أقركم الله به ) .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين