تحجيم المفاهيم

تفشت ظاهرة أسر المصطلحات والمفاهيم وتأطيرها في أضيق نطاقاتها وبعض أفرادها على ألسنة الخطباء والمحاضرين، فغاب عن ذهن المتلقي مضامينها الواسعة الفضفاضة، ولم تعد تلك المصطلحات تلتهم جزئياتها كاملة لتعطي صورة كُليَّة عما تود الإدلاء به من محتوى، ولكنها حوصرت في أفراد محدودة، وساد تصور مجتمعي عنها في ذلك الإطار المقدم على ميكرفون الخطابة والإرشاد.

إن هذه الظاهرة قدمت صورة تجزيئية ناقصة مشوهة لما ينبغي أن تكون عليه تلك المفاهيم، وللنتائج التوجيهية التي ترجوها من ورائها.

فخذ مثلا: (مفهوم الإسراف) الذي حُصر في أضيق نطاقاته، وغاب عموم المفهوم عن مادته الأصلية، وسياقه القرآني العام الذي استهدفه، المعبر به بحسب الراغب (ت:502) بـ«تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان» [الراغب، «مفردات ألفاظ القرآن»، ص (407)] وهذا التجاوز يستوعب كل النطاقات الحياتية، ولقد بحثت عن مفهومه في خطاب اليوم فوجدت ستة عشر خطيبًا أسره في غرفة الطعام، وتشكل تصور في ذهن المتلقي وفق ذلك التحجيم، فما أن يذكر الإسراف حتى يُشار إليه في كثرة الطعام والشراب، مع كون المتلقي يمارس إسرافًا أشد وأنكى.

والقرآن الكريم ذهب في تعريف الإسراف إلى دائرة أوسع فقال: { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)}، [الشعراء:151 ـ 152] فالإفساد في الأرض بأحجامه وصوره، وعدم حفظ مصالح الأرض وسبل استصلاحها إسراف وتجاوز، وقد سيق هذا التعريف العريض في مضامين أحداث سكان مدينة ثمود قوم النبي صالح - عليه السلام - الذين ركلوا النعم الممنوحة، وانقلبوا على الأمان ونعيم الحياة، وفراهة المساكن إلى ازدرائها والعبث بممتلكاتهم منها، وآل ذلك العبث الزائد إلى فساد واعتداء.

ومضى النص القرآني يعمم معنى الإسراف باستيعاب كل التجاوزات فنادى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، أي: تجاوزوا كل الحدود وقفزوا على اللوائح.

وقال في نطاق العصيان: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} [طه:321].

وفي نطاق سفك الدماء البريئة: {فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ} [الإسراء: 285].

بل إنه وصف قوم النبي لوط - عليه السلام - الذين تجاوزوا تركيبتهم الفطرية إلى الاعتداء على الجنس البشري وإيقاف ازدياد نسله، فوسم سلوكهم بأنه إسراف وتجاوز: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] ، بل إن فهامة فطن كسفيان الثوري (ت:161) رأى أنَّ الإسراف يكون أيضًا بالكيفيّة وليس بالقدر فحسب فما «أنفقت في غير طاعة الله فهو سَرَفٌ، وإن كان قليلا». [الفيروز أبادي، «بصائر ذوي التمييز»، (3/216)].

وهكذا حدث هذا التضييق مع الأمانة ذلك المفهوم الضخم العملاق، والمحتوى اللاحب الذي يستوعب كل المسئوليات، ويحوي جميع «ما يؤتمن عليه الإنسان» [الراغب، «مفردات ألفاظ القرآن»، ص (90)] من حواسه وأعضائه وأفكاره والمهام التي بين يديه، والأعمال المناط بها، تم حصره في مادة حفظ الودائع دون غيرها من المسئوليات والمهام، فانصرف سلوك المتلقي إلى حراستها، وذهب يفرط في أصناف الأمانات الكبرى الماثلة بين يديه، مع أن النص القرآني والنبوي وسعها مفهومًا لتشمل مناطق لاحبة، لكن الخطاب الحصري هو الذي أوردها هذا الحجم والتحجيم.

 

وأبرز مهام الوعي اليوم أن يقدم على فهم تلك المفاهيم فيمد نطاقاتها إلى أفهام عريضة تستوعب الحياة بكامل جزئياتها فيكون الإنسان أكثر نضجا ووعيا وتصرفا ويكون مدركا لما تتعدى إليه تلك العناوين وما تحمله من الصور والمضامين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين