تعفف وتصبر يعفك الله ويصبرك

تَعَفَّفْ وَتَصَبَّرْ يُعِفَّكَ الله ويصبرك

محمد محمد الأسطل

 

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، قَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ، فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ، يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ" [صحيح البخاري، رقم الحديث: (1469)، (1/324)، صحيح مسلم، رقم الحديث: (2471)، (3/102)]

فالنبي صلى الله عليه وسلم بِجُودِه وجميل عطائه أعطى سائليه مرارًا دون تضجر أو شدة، حتى إذا نَفِدَ ما عنده؛ غرس فيهم نبات وعظه، فأخبرهم أن العِفَّةَ بالتعفف، والصبر بالتَصَبُّر؛ إشارة إلى أن المرء لم يُولد متعففًا ولا متصبرًا، ولئن فَعَلَ ذلك أَعَفَّهُ الله، وَصَبَّرهُ الله، وأتته رياح الأرزاق من حيث لا يحتسب !

أخي: إن ضاقت بك الدنيا ولم تجد مالًا، أو بيتًا وسيعًا، أو مركبة مريحة، أو ملبسًا وضاءً، أو طعامًا لذيذًا، فَتَصَبَّر حتى تصبر، وَتَعَفَّف عن المسألة حتى تكون تَعِف، وإليك أُنموذجًا عجبًا لشيخٍ شابٍ مُتصبرٍ متعفف !

كان الشيخ سليم المسوتي يسكن في غرفةٍ بِجَامع التوبة بدمشق، وشاء الله أن يَمُرَّ عليه يومان دون أن يأكل فيهما شيئًا، وشَعَرَ في اليوم الثالث كَأَنَّهُ مُشرِفٌ على الموت، بِحَدٍّ يُبِيح له أكل لحم الميتة أو السرقة بِقَدرِ الحاجة، وكان المسجد يَتصل سَطحُهُ بالبيوت المُجاورة، فَفَكَّرَ في دُخولِ أحد البيوت والأكل منها !

فصعد إلى السقف، وتَنَقَّلَ على أَسطُحِ المنازل، فاشتمَّ رائحةً جَذبته لِيقفز قَفزتين في شُرفةِ المنزل المنبعثة منه، ولم يجد فيه أحدًا، فأسرع إلى المطبخ فَكَشف غطاء القدر، فَوجد باذنجانًا مَحشُوًا، فتناول واحدة دون أن يعبأ بِسُخونتها، وَعَضَّهَا، فلما شعر بحرارتها تذكر حرارة جهنم، فتذكر دينه، وقال: يا ويلتي! إنني طالبُ عِلْمٍ، مُقِيمٌ في المسجد، ثم أقتحم البيوت وأسرق ما فيها، وَكَبُرَ عليه ما فَعل، ونَدِمَ واستغفر، وعاد من حيث جاء!

ثم حضر درس شيخه دون أن يَعقل ما يقال من شدة جوعه، وعقب الدرس جاءت لشيخه امرأة مستترة فَكَلَّمَتْهُ، ثم التفت الشيخ ولم يَرَ إلا الشيخ سليم، فدعاه وسأله: أمتزوج أنت؟! قال: لا!

فعرض عليه نكاح المرأة، فسكت ولم يُبْدِ جوابًا، وبعد تكرر إلحاح شيخه قال: يا شيخي، ما عندي رغيف خبز آكله، فكيف أتزوج؟!

فقال الشيخ: هذه امرأة تُوفِي زوجُها، وهي غريبةٌ عن بلدنا، وليس لها في الدنيا أحد، إلا عمٌ لها فقير، وإنها ورثت مال زوجها، وترغب في الزواج؛ لئلا يُطمعَ فيها، فوافق الشيخ سليم، وَقَبِلَت المرأةُ به، ودعا الشيخ عمَّها وشاهدين، وَدَفَعَ المهرَ عن تلميذِه، وَعَقَدَ العقد، ثم قادته المرأةُ إلى بيتها، فلما كَشفت عن وجهها رأى شبابًا وجمالًا، وَدُهِشَ أن بيتها هو الذي اقتحمه قبل قليل !

فَعَرضت عليه تناول الطعام؛ فَقَبِلَ بلا تفكير، فَكَشفت غطاءَ القدر، فلما رأت الباذنجانة قالت: عجبًا من الذي دخل البيت فعضها ! فبكى من مَقالَتِها، وَقَصَّ عليها خبره، فقالت له: عففت عن الباذنجانة بالحرام؛ فأعطاك الله البيت كله وصاحبته، والباذنجان بالحلال! [إبراهيم الحازمي / من ترك شيئًا لله عوضه خيرًا منه ص (59-61)، نقلًا عن الشيخ علي الطنطاوي !].

كن قانعًا زاهدًا :

  رأى الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه جابر بن عبد الله وبيده شيءٌ من لحم، فقال: ما هذا يا جابر؟! قال: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر:

" أَوَ كُلَّمَا اشتهيتَ اشتريت " !

أما تخاف يا جابر أن يقال لك {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [المحب الطبري / الرياض النضرة في مناقب العشرة (1/178)].

أخي: إن ابتَغَيْتَ كَمالًا، ولم تَجِد مالًا؛ فاقنع ! إن اشتهيت مَركبةً فارهةً ولم تجدها؛ فعليك بدراجة تقنع بها؛ لئلا تلهث خَلف سُؤال الهيئات والبنوك والأشخاص، ويصبح اسمُك على كلِّ لسان، وَفِي كُلِّ ميدَان، فَتَفْقِدَ شرفك ومجدك، ووقارك وهيبتك !

وقد رزق الله الإمام الشافعي فقهًا وحكمةً فقال:

قنعت بالقوت من زمانـي ** وصنت نفسي عن الهوان

خوفا من الناس أن يقولوا ** فضل فلان على  فـلان

من كنت عن ماله غنيًـا ** فـلا أبالـي إذا جفانـي

أدرك السلف عظم هذا المرقى فكانوا من أعلامه       !

  فهذا محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكله قائلًا: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد !

وهذا أمير المؤمنين يكتب إلى أبي حازم أن يرفع له حاجته، فكان رده: هيهات ! رفعت حاجتي إلى من لا يَخْتَزِنُ الحوائجَ؛ فما أعطاني قَنِعْت، وما أَمْسَك عَنِّي منها قَبِلْت !

  وفي منثُورِ الحِكَم: الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنِعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمِعَ ! وهذا ما صَرَّحَ بِهِ شاعرٌ فحلٌ بقوله:

أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ** وَلَوْ أَنِّي قَنِعْتُ لَكُنْت حُـرًّا

إنَّ شكواك لربك الجليل؛ لا تَقْدحُ في صَبرِكَ الجميل، فهذا حَزَنٌ يجتاح قلبَ يعقوب فَأعلَنَ قائلًا: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ}{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، وهذا نبيُّنَا صلى الله عليه وسلم يُؤذِيهِ سُفهاءُ الطائفِ فَرَفَعَ يديِه لِرَبِّهِ شَاكِيًا: "اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ"!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين