تفسير سورة لقمان‏ -8-

 

 

 [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان: 17} 

تقدَّم في وصية لقمان لابنه في الآي السابقة أن بدأها بأمره بالشكر لله ينبهه على ما أغدق‏ عليه من نعم لم يكن له فيها مدخل، فقد أوجده من ماء مهين، وكمل خلقه بما لا يحيط به‏ علما، ووهبه من نعم العقل والقدرة والإرادة ما لا يستطيع أن يزعم بأن له في ذلك عملا ما،  فشكره أول واجب يخطر بباله حين ينظر إلى نفسه وما جبل عليه، وما أفيض عليه من نعم‏ لا تحصي. 

وأول ما يجب عليه في الشكر تنزيهه عن الشريك، وإفراده بالتعظيم، واعتقاد ماله من‏ صفات الجلال والجمال، فذلك أس الكمال له في نفسه، فقال: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُويَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13} ، وفي طي ذلك نبهه على عرفان الحق لمن جعلهما الله طريقا لوجوده، حتى يربي فيه‏ ملكة الشكر، فيتدرج من شكر المنعم القريب المحسوس إلى شكر المنعم الأعظم الذي يصل‏ إلى إداركه بعقله لا بحسه. وضمن وصيته هذه بيان حد شكره لهما، وهو ألا يطغى ذلك‏ الشكر على شكر المنعم الأعظم، وهو الذي خلقه وخلقهما، وأنعم عليه وأنعم عليهما حيث‏ يقول: 

[وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا] {لقمان:15} . وأردفه بقوله:  [وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {لقمان:15}. أي هذا حدهما: أن تحسن إليهما،  وأن تصاحبهما في الدنيا معروفا، وتعرف لهما حقهما، ولكن لا تتجاوز هذا الحد فتطاوعهما في الإشراك بالله، بل اتبع سبيل من أناب إلى الله. ثم تمم له العقيدة الصحيحة بإعلامه أن إليه مرجع الجميع، وأنه عالم بما ظهر وما خفي، لا يخفي عليه شي‏ء في الأرض ولا في السماء قل أوجل حتى لو كان [حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] {لقمان:16} ، وهو مثل في الصغر والدقة التي من شأنها الخفاء [فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ] {لقمان:16} مثال في كثافة الحجاب [أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16} مثل في التوغل في التيه،  فقال مهما يكن شيء من هذا وأخفي منه فان الله عليمٌ خبير بل لطيف قدير، فالله يعلمها ويستخرجها ويأتي بها، فلا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه ، فأين‏ تذهب إذا أشركت به ما ليس لك به علم؟

وبعد أن أرشده إلى تصحيح عقيدته بعدم الإشراك به وبغرس أنه العليم الخبير القدير المهيمن على كل شي‏ء الذي بيده ملكوت كل شيء، أرشده إلى تكميل نفسه بالعبادة العملية،  ولا شك أن مرتبتها تلي مرتبة تصحيح العقيدة، فقال [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ] {لقمان:17}  والصلاة مخ العبادة.  وفي هذا إرشاد إلى أن الصلاة من الشرائع القديمة وإن اختلفت كيفياتها، فأساسها الابتهال‏ إلى الله، والخضوع لعظمته، واللجأ إليه في تحصيل مطالب المصلي دنيوية كانت أو أخروية، فهي نتيجة التوحيد، ومظهر الاحتىاج الكامل للمعبود المطلق، وأمارة الاعتراف بأنه العليم‏ القدير الفعال لما يريد سبحانه. وعندما تتأمل في سرها تجد مصداق ما ورد بشأنها: «الصلاة عماد الدين فمن أضاعها فهولما سواها أضيع» بل حين تزداد تأملاً فيها تذعن أكمل الإذعان لقوله‏ تعالى: [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45} 

فلا بدع إذا اقتصر في شأن الكمال النفسي في وصيته على الصلاة، وانتقل بعدها إلى وصيته بتكميل غيره إذ يقول: [وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ] {لقمان:17}. 

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما كما قال الغزالي: القطب الأعظم في الدين، والمهم‏ الذي ابتعث الله له النبيين، ولو طوى بساطه وأهمل. أمره لفشت الضلالة وعمت الجهالة،  واستشري الفساد وهلك العباد. وحسبك قوله تعالى: 

[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} 

فانه لم يكتف بالأمر به في قوله‏ «ولتكن»حتى ناط به الفلاح بقوله: [وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]، بالصيغة المفيدة للحصر، مع أنه‏ فرض كفاية كما يفهم من قوله «ولتكن منكم أمة». وانظر إلى ما في قوله تعالى: [كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:79}  فانك تجده سيق في الآية الكريمة لبيان علة اللعن‏ المذكور في قوله [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:79} . وكذلك قوله عز وجل: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:110}  فقد ناط خيرية الأمة بهذا الوصف الجليل. ولا يتوهم أن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] {المائدة:105}  مهوِّن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم لا يسمون‏ مهتدين إلا إذا قاموا بهما، فمن اتكأ عليها في ذلك فقد أساء فهمها . 

هذا ومما يراع? شرطاً في إنكار المنكر ألا يكون إنكاره موضع اجتهاد واختلاف‏ في الرأي بين الفقهاء، فليس لشافعي أن ينكر على حنفي صلاته بدون تسمية أوترك الفاتحة وهو مأموم، ولا لحنفي أن ينكر على شافعي اقتصاره في الوضوء على مسح شعرة من الرأس.  وأمثال ذلك من مواضع الخلاف كثيرة لا يأتي عليها العد. ومن هذا تعلم مقدار الجهل والحمق‏ الذي يلحق بعض المتعلمين فيشنون الغارة على من يصلي الظهر بعد الجمعة من الشافعية مشنعين‏ عليهم بأن في ذلك افتياتاً في التشريع إذ أوجب الله خمس صلوات في اليوم، ويرونهم‏ قد جعلوه ستاً، وهذا منهم إما جهل أو بهتان، فانه لم يقل أحد إن الشافعي زعم أن الصلوات‏ ست، وإنما يرى أن الجمعة في البد الواحد لا تكون إلا واحدة، لأن هذا هو الذي جرى عليه العمل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين: كانت الجماعة تتعدد في الأوقات كلها إلا الجمعة فكانوا يقتصرون فيها على جمعة واحدة في البلد الواحد حتى بعد أن اتسعت المدينة وكثر أهلها، ولأن هذا هو الأوفق بحكمة مشروعيتها، وذلك أن يجتمع‏ أهل البلد الواحد في مكان واحد مرة في الأسبوع يجددون من توادهم ويتعرفون شئون‏ بعضهم البعض ويكمل ارتباطهم، قال: فان تعددت الجمعة في بلد واحد فالجمعة لمن سبق. فأما المسبوق فعليه أن يعيدها ظهرا. وكذلك من شك في أنه سابق أو مسبوق يعيدها ظهراً،  وذلك أن ذمته شغلت بالفريضة بيقين، وقد شك في وقوع جمعته موقعها، فينبغي أن يعيدها ظهرا لتبرأ ذمته بيقين كما شغلت بيقين. 

وليس من غرضنا الآن بيان وجهة نظر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى  في ذلك، وإنما كشف النقاب عن جهالة أولئك المشنعين المثيرين شغباً في المساجد ?تكرر كل يوم جمعة بحالة لم نرها منهم في إنكار ما أجمع على إنكاره، فشرط الإنكار ألا يكون الفاعل مقلداً لمن يجيز، فكيف وهم‏ مقلدون لمن يرى الوجوب؟

وليس من شرط الإنكار أن يكون المنكِر غير مقترف إثماً مطلقاً، وإن زعمه بعضهم‏ استنادا إلى مثل قوله عز وجل: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ] {البقرة:44} وقوله تعال?:  [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:3}  وقوله عليه السلام: «مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض‏ شفاههم بمقاريض من نار فقلت من أنتم فقالوا كنا نأمر بالخير ولا نأتيه ونهي عن الشر ونأتيه». وليس في هذا شهادة لهم لأن هذه النصوص وما أشبهها مسوقة للتنفير من مقارفة الآثام، والتشنيع عليهم بقيام الحجة ناصعة أمامهم إذ كانوا آمرين وناهين، فهم معترفون بقبح‏ ما ارتكبوا، فقيام الحجة عليهم أبلغ، وإلا فلا يستطيع واحد أن يقول إن من رأى رجلاً يحاول قتل رجل أو زنى بامرأة وهو قادر على دفعه ولكنه يعلم من نفسه أنه قد شرب خمرا أو اغتاب إنسانا أو حنث في يمين فليس له وليس عليه أن يمنعه من قتله أو من زناه لأنه قد ارتكب منكراً مثله أو أقوي إنكاراً أو أضعف إنكاراً منه، وذلك أن الامتناع عن الذنوب‏ واجب، والنهي عن المنكر واجب آخر، والإخلال بأحدهما لا يسقط وجوب الآخر عنه. 

هذا ومما ينبغي مراعاته مراعاة كاملة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125}  ، وأن يتمثل‏ فيه قوله تعالى [وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34} . وقد روي أن رجلاً وعظ أحد الخلفاء فأغلظ فقال له: يا هذا قد أمر الله من هو خير منك أن يقول لمن‏ هو شر مني غير هذا: قال تعالى: [فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44} ولست أنت‏ خيراً من موسى وهرون، ولا أنا شراً من فرعون. 

على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر غالبا عرضة لتلقي الأذى والمصاعب والمصائب،  ولذلك حسن إرداف هذا الحكم بقوله عز من قائل: 

[وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17}  . أي أن ما ذكر من الأمر بالمعروف والنه? عن المنكر من الأمور المعزومة، أي المطلوبة طلباً قاطعاً قوياً، فلا يكن خوف التعرض لأذى مانعا منهما. ويشبه تفسير العزم بما ذكر تقسيمهم‏ الحكم إلى عزيمة ورخصة. نعم قالوا: إذا علم أنه سيصيبه أذى لا يحتمل، وأن نهيه ضائع الفائدة،  لا يجب عليه ذلك، بل إذا تيقن الأذى وضياع الفائدة لا يجوز له. ومثل ذلك ما إذا علم أن‏ إنكاره سيجر إلى ارتكاب ما هو أشد إنكارا. وأما إذا كان ذلك منظنونا. وكان ما يناله‏ محتملاً فانه لا يخلو من مسؤلية الترك، عملا بقوله تعالى: 

[وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17} 

وعلى الجملة فللعقل والبصيرة منع حسن النية والإخلاص في النصح دخل كبير في تمييز هذه‏ المواقف، والله ولي التوفيق.  

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر مجلة الأزهر مجلد 8 جمادى الثانية 1356 الجزء السادس .

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين