تكوين العقليّة العلميّة

 

هناك عقليَّة عاميَّة أو خرافيَّة تُصدِّق غالباً كل ما يقال لها، وتقبل كل ما يُلقى إليها، وخصوصاً إذا جاء ممَّن تُعظِّمه من الآباء أو الكبراء، وتنقاد لما عليه جمهور الناس صواباً كان أو خطأ، ولا تمتحن أفكارها، ولا تُخضع معلوماتها لمناقشة واختبار، شعارها: «هذا ما وجدنا عليه آباءنا" أو، " نحن مع الناس أحسنوا أو أساؤوا».

 

وفي مقابل هذا اللون: «العقليَّة العلميَّة الموضوعيَّة» التي لا تَقبل نتائج بغير مقدِّمات، ولا تخضع إلا للحجة والبرهان، ولا تحكِّم العواطف والظنون في مقام يطلب فيه اليقين المجرَّد، والعلم المحقَّق، وقد وضح القرآن والسنة المعالم الأساسية التي تقوم عليها هذه العقلية العلميَّة، وتستطيع أن نوجزها في النقاط التالية:

 

(1)     ألا تُقْبَل دعوى بغير دليل مهما يكن قائلها، والدليل هو: البرهان النظري في العقليات: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {النمل:64} ، والمشاهدة أو التجربة في الحسيَّات: [وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ] {الزُّخرف:19} ، وصحَّة الرواية وتوثيقها في النقليات:[ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {الأحقاف:4}.

 

(2)     رفض الظنِّ في كل موضع يطلب فيه اليقين الجازم، والعلم الواثق، ولذا ردَّ القرآن مزاعم المشركين في آلهتهم بقوله:[وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا] {النَّجم:28}.

 

وردَّ مزاعم اليهود والنصارى في صلب المسيح،  فقال:[ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا] {النساء:157}.

 

وجاء في الحديث الصحيح: «إيَّاكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث»([1]). 

 

(3)     رفض العواطف والأهواء والاعتبارات الشخصية حيث يطلب الحياد، والموضوعيَّة، وحيث يكون التعامل مع طبائعِ الأشياء وقوانينِ الوجد، أيًّا كانت نتائجها. يقول القرآن منكراً على المشركين:[ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ] {النَّجم:23} .

 

 وقال في خطاب داود: [فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ] {ص:26} ، وفي خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم:[فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ] {القصص:50}.

 

(4)     الثورة على الجمود والتقليد والتبعية الفكريَّة للآخرين، سواء كانوا من الآباء والأجداد، أم من السادة والكبراء، أم من العامَّة والجماهير، وفي القرآن إنكار شديد على الذين يقولون: [بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا] {البقرة:170} وهو ردَّ عليهم بقوله: [أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ] {البقرة:170} .

 

 وفي القرآن كذلك نعيٌ شديد على موقف الأتباع الذين أطاعوا سادتَهُم وكبراءَهم فأضلوهم السبيل، وبيان تبرئهم يوم القيامة بعضهم من بعض، وتحميل الفريقين تَبِعة ما هم فيه من ضلال: [قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:38} .

 

وفي الحديث أيضاً تحذيرٌ من اتِّباع الجمهور وإن كانوا على خطأ، وإدانة لعقلية من يرضى لنفسه أن يكون تابعاً، وقد خلقه الله سيداً: «لا يكن أحدُكُم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا»([2]). 

 

وهذا الموقف الأخلاقي الذي يتميَّز باستقلال الشخصيَّة في السلوك، يدعو إلى مثله في الفكر أيضاً.

 

(5)     الاهتمام بالنظر والتفكير والتأمُّل: [فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ] {الأعراف:185} .

 

 وفي الإنسان نفسه فهو عالَم وحده: [وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {الذاريات:21} .

 

 وفي سَيْر التاريخ البشري، ومصاير الأمم، وسنن الله في الاجتماع الإنسانيّ:[قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] {آل عمران:137} .

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

 

 

([1]) متفق عليه: رواه البخاري في الفرائض (6724)، ومسلم في البر والصلة (2563)، عن أبي هريرة.

([2]) . رواه الترمذي في البر والصلة (2007) وقال: حسن غريب، والبزار (2802). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6271)، عن حذيفة بن اليمان. ولكنه يتماشى مع القواعد العامة، والمبادى الكلية في الإسلام. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين