تهافتُ الزنادقة

هذا منشور أرسله إليّ أحد الفضلاء، ولم يُسمِّ كاتبه، مشفوعا بقول مرسله:

ما تعليقك على هذا الكلام !؟

وهذا نص المنشور:

كمية الازدراء لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي ذكره الله في القرآن على ألسنة الكفار والمنافقين والمشركين والذين في قلوبهم مرض وأهل الكتاب مهول ... قالوا يد الله مغلولة وقالوا اتخذ الله ولدا

لماذا لم يحاسبهم الله عليه في الدنيا؟ بل متعهم فيها وحسابهم عليه في الآخرة

من أنت ياإنسان حتى تزاود على الله وتحاكم الناس بتهمة ازدراء الأديان؟

فكتبتُ في جوابه:

لم أعرف الكاتب.

ولكن كلامه ينادي عليه بالزندقة بصوت جهير.

وقد بنى كلامه على ثلاث ثغرات، كل واحدة منها كفيلة بتصديعه وتقويضه.

*الأولى:*

تساؤُله: لماذا لم يحاسب الله تعالى المتطاولين على الحق بألسنتهم..؟

والحق أنه لم يقل أحد: إن كل متطاول على الحق، مأخوذ بجريرته في الدنيا لا محالة.. ليسأل الكاتب مثل هذا السؤال.

وما جاء شيء من ذلك في آية محكمة، ولا في حديث ثابت، ولا في كلام ثقة.!

بل جاء في محكم التنزيل ما يدل على دحض حتمية هذا التصور الذي بنى عليه الكاتب مقاله.

قال تعالى: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا یَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ *إِنَّمَا یُؤَخِّرُهُمۡ لِیَوۡمࣲ تَشۡخَصُ فِیهِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ*) [سورة إبراهيم 42]

وفي آيات النهي عن النجوى بالإثم والعدوان في سورة المجادلة: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ نُهُوا۟ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ یَعُودُونَ لِمَا نُهُوا۟ عَنۡهُ وَیَتَنَـٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰ⁠نِ وَمَعۡصِیَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَاۤءُوكَ حَیَّوۡكَ بِمَا لَمۡ یُحَیِّكَ بِهِ ٱللَّهُ *وَیَقُولُونَ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا یُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ یَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ*) [سورة المجادلة 8]

فما بال الكاتب يتعجب مما لا عجب فيه؟ ويحتج بما لا حجة فيه؟ ويسأل سؤالا لا وجاهة له.؟!

*الثانية:*

كَذِبُ الكاتب في دعوى أن الله تعالى لم يعذب ولم يحاسب أحدا من أولئك المتطاولين في الدنيا...

وكأنه لا يعرف شيئا عن آيات القرآن، ولم يمرَّ يوما بقوله تعالى:

(وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ عَتَتۡ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِۦ فَحَاسَبۡنَـٰهَا حِسَابࣰا شَدِیدࣰا وَعَذَّبۡنَـٰهَا عَذَابࣰا نُّكۡرࣰا ۝ فَذَاقَتۡ وَبَالَ أَمۡرِهَا وَكَانَ عَـٰقِبَةُ أَمۡرِهَا خُسۡرًا)[سورة الطلاق 8 - 9]

وكأنه لم يقرأ ولم يسمع في كلام الله تعالى عن عذابه الذي أحله على بعض المتطاولين، كما في قوله تعالى: (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ *فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ*) [سورة البقرة 55]

ولم يقرأ قوله سبحانه لأحد المضِلين: (فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ *فِی ٱلۡحَیَوٰةِ* أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ..) [سورة طه 97]

وكأنه لم يسمع بقصة قارون الذي قال الله عنه: (فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ)

ولم يسمع بقوله تعالى عن بعض المسرفين: (وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِینَ ٱعۡتَدَوۡا۟ مِنكُمۡ فِی ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ ۝ *فَجَعَلۡنَـٰهَا نَكَـٰلࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا* وَمَوۡعِظَةࣰ لِّلۡمُتَّقِینَ) [سورة البقرة 65 - 66]

وكأنه لم يمرّ في قصة المائدة بقوله تعالى: (قَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مُنَزِّلُهَا عَلَیۡكُمۡۖ فَمَن یَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ *فَإِنِّیۤ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا لَّاۤ أُعَذِّبُهُۥۤ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ*)[سورة المائدة 115]

وكأن الكاتب لم يسمع بخبر مقتل عدو الله كعب بن الأشرف، وعدو الله أبي رافع اليهودي بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهما آذيا الله ورسوله.

وخبر الأول مخرج في الصحيحين.

والثاني في صحيح البخاري.

وغير ذلك كثير في كتاب الله تعالى من أخْذِ الناس بجرائر أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة.

ولكنها ليست قاعدة مطردة في كل فاسق أو متطاول أو مرتد.

وبقاء الكاتب نفسِه إلى الآن يلبِّس ويضلل ويَكذب على الله وعلى دينه، لم يُمسَخ، ولم يُصعق... دليل على هذه الحقيقة.

*الثالثة:*

الخلط الغبي جدا في كلامه، بين ما هو من تصرف الله في خلقه إمهالا أو أخذا، عطاء أو منعا، فيفغر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ويُعز من يشاء، ويُذل من يشاء..

ولا شأن للخلق بشيء من تصريف الرب سبحانه، وهو القائل عن نفسه: (لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ)[سورة الأنبياء 23]

وبين ما هو من تكليف الحق سبحانه للخلق، من مثل قوله تعالى: (وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَلَا عُدۡوَ ٰ⁠نَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ) [سورة البقرة 193]

وهو خلط غبي حقا بين ما هو من مقتضى كتاب القدَر، وما هو من مقتضى تكليف الشرع.!

فالكاتب ينهى حتى الجهات الرسمية في الدول الإسلامية، عن محاسبة ومعاقبة الزنادقة الذين يستعلنون بضلالهم ويدعون إليه، ويروجون له، حين يقول: "من أنت يا إنسان حتى تزاود على الله وتحاكم الناس بتهمة ازدراء الأديان؟"

أقول: لكن أمير المؤمنين عليًا، وابن عباس، رضي الله عنهم جميعا، كان لهما رأي آخر في هذه المسألة، يَغيظ هذا الكاتب، ويجعله يتحسس رقبته.

ففي صحيح البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ مولى ابن عباس قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".

يريد الكاتب أن يرُدّ ويعطل أمر الله الشرعي الصريح في مثل قوله تعالى: (وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ..)

بواقع الأمر القدري!

يريد أن يقول لنا: الله تعالى لم يهلك المرتد مثلا، بصعق ولا حرق، ولا ولا..

فلماذا تريد أنت أن تحاسبه وتعاقبه؟!

وحسب الكاتب بهذا دلالة على الخلل في التصور والفهم.

ومن كان لا يُحسن التفريق بين الواقع القدري الذي ليس لنا إزاءه إلا الإيمان والتسليم، وبين التكليف الشرعي الذي لا عذر لنا في ترك القيام به قدر الاستطاعة..

فأولى به أن يتعلم ألف باء الدين..

لا أن يتصدى لمسائل لا يحسنها، يفضح فيها جهله ويكشف عن تهافت قوله.

والله أعلم.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين