حدث في التاسع والعشرين من المحرم

 

في التاسع والعشرين من المحرم من سنة 915= 19/5/1509 استولت قوة بحرية أسبانية على ميناء وهران الجزائري في إطار حملة صليبية على شمال أفريقيا الإسلامي قامت بها مملكة أراجون وقشتالة، وكان المحرض عليها وقائدها الفعلي وممولها الكاردينال فرانسيسكو خيمينيز دي ثيسنيروس، الذي دخل المدينة في اليوم التالي.

 

كانت الحروب الصليبية قد انتهت في المشرق العربي قبل أكثر من مئتي سنة في سنة 690=1291، ولكنها لم تتوقف أبداً في الأندلس، واستمرت بعد سقوط غرناطة آخر المعاقل المسلمة، لتتوجه إلى شمال أفريقيا، وتمثلها هذه الحملة الصليبية الإسبانية التي بدأت قبل 4 سنوات في سنة 911=1505، وكان هدفها احتلال البلدان الإسلامية في شمال أفريقيا كالمغرب والجزائر وتونس، وكان أول نجاح كبير لها هو استيلاؤها على المرسى الكبير، القريب من وهران، في 13 ربيع الآخر سنة 911=13/9/1505، ومع ذلك ينبغي أن نشير أن إسبانيا قبل هذه الحملة كانت قد احتلت مليلة في ساحل المغرب في سنة 902=1497، ولا تزال تحتلها حتى يومنا هذا.

 

وشجع مملكة أراجون وقشتالة الإسبانية على حربها الصليبية هذه ما حققته من نجاح في شبه جزيرة الأندلس، وقضاؤها على آخر دويلة إسلامية فيها، والفتوحات الجديدة التي توصلت إليها أساطيلها القوية في القارة الأمريكية والثروات الخيالية التي عادت بها، وحكمها لصقلية وجنوب إيطاليا ومدينة نابولي، مما يجعل غرب البحر المتوسط تحت سيطرتها الخالصة إن هي قضت على الوجود المسلم في شمال أفريقيا، وشجعها قبل كل شيء الفرقة والضعف والنزاعات الدامية والتمردات التي اعترت دول المغرب الغربي، وجعلتها عاجزة عن صد العدوان برد حاسم دائم.

 

ففي المغرب كانت دولة بني مرين قد اضمحل شأنها بمقتل السلطان عبد الحق بن عثمان، وقام فرع من المرينيين من بني وطاس وهم فرع منهم، بإنشاء دولتهم على أنقاض الدولة المرينية، وذلك بزعامة الشيخ الوطاسي، محمد بن يحيى، في سنة 869=1465، وبويع بفاس شريف مريني يعرف بالحفيد، فخرج الوطاسي من أصيلا لحصار فاس، فانتهز البرتغاليون فرصة غيابه فاستولوا على أصيلا وفيها أمواله وعياله، فعاد إليها فحاصرها فامتنعت عليه، فعقد هدنة مع البرتغال، ورجع إلى حصار فاس فسلمها إليه الشريف الحفيد سنة 875 فاستقر بها سلطانا وإماما حتى وفاته سنة 910=1504.

 

ولكن البرتغاليين لم يتركوا الوطاسي وشأنه، بل استولوا سنة 907 على ساحل البُريجة، تصغير برج، وبنوا فيه مدينة الجديدة، واستولوا على عدة مناطق ساحلية وأنشأوا فيها حصوناً لأساطيلهم البحرية القوية، وبعد وفاة الشيخ الوطاسي سنة 910 خلفه ابنه محمد المعروف بالبرتقالي، ولكنه لم يفلح في إيقاف هجمات البرتغاليين وإنشائهم الحصون والبليدات على سواحل المغرب، وأدى ذلك أن ظهرت دولة منافسة للوطاسيين تمثلت في الدولة السعدية  التي أسسها محمد بن محمد الحسني السعدي، الذي نهض داعياً إلى جهاد البرتغاليين وأيده الوطاسي في أول الأمر، ثم بايعته مناطق جنوب المغرب وتلقب بالقائم بالله،  وتوفي في سنة 923، ودخل خليفته وابنه أحمد الملقب بالأعرج السعدي في حرب طويلة مريرة مع الوطاسي، كان من نتائجها أن بقي البرتغاليون في أمان نسبي.

 

وكانت وهران تتبع مملكة بني زيان أو بني عبد الواد في تلمسان، وهي مملكة أسسها أبو يحيى يغمراسن بن زيان سنة 646، ولكنها بعد وفاته سنة 681 دخلت في صراع متصل مع بني مرين في المغرب، وكانت اليوم في طور تنازع بين الطامعين في الحكم من أمرائها، وانتهت دولة عبد الوادي سنة 1550 عندما استولى الأتراك على تلمسان

 

وإذا انتقلنا لتونس نجد أن الدولة الحفصية قد ضعفت ضعفاً شديداً في عهد الملك محمد بن الحسن الحفصي الذي تولاها منذ وفاة عمه يحيى بن محمد سنة 899، وسيطر عرب بنو هلال على أغلب البلاد، وثار عليه بنو غراب وسلموا طرابلس الغرب للإسبان.

 

وإذا نظرنا في المقابل إلى إسبانيا قائدة الهجمة على المسلمين في البحر المتوسط، نجد الملك فرديناند الثاني والذي كان لقبه الرسمي: فرديناند الكاثوليكي، والمولود سنة 856=1452 والمتوفى سنة 921=1516 والذي تزوج الأميرة القشتالية إيزابيلا ابنة الملك هنري الرابع، وصار وإياها ملكا أراجون وقشتالة منذ سنة 883=1479.

 

ونجد كذلك الشخصية المحورية في هذه الحرب وفي الحرب على الوجود الإسلامي في الأندلس، وهو الأسقف خيمينيز الذي كان أقرب الأساقفة للملكة إيزابيلا، وتؤدي عنده طقوس الاعتراف المقدس، وجعلته في سنة 1495 أسقفاً على طليطلة، وتوفيت إيزابيلا في سنة 910=1504 واستولى أخوها فيليب الثاني على عرش قشتالة، ولما توفي فيليب سنة 912=1506، قام الأسقف خيمينيز بردع النبلاء الذي كانوا يريدون تسليم العرش لماكسميليان الأول إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ورتب الأسقف الأمور حتى جاء فرديناند من نابولي في إيطاليا وتسلم المملكة شخصياً.

 

وكافأ الملك فرديناند الثاني الأسقف خيمينيز على ما فعله بأن عينه في منصب المفتش الأكبر، وهو لقب رئيس محاكم التفتيش المسلطة على المسلمين واليهود، وتوسط له عند البابا في روما حتى جعله في سنة 912=1507 كاردينالاً.

 

وكانت محاكم التفتيش قد تأسست سنة 883=1478، ومهمتها التأكد من أن المسلمين واليهود من سكان المناطق الإسلامية السابقة قد تحولوا تحولاً صادقاً إلى النصرانية، وكان المسلمون منهم يُسمَّون بالموريسكيين، وهو تصغير لكلمة المُوُر التي تعني العبد الأسود، وهي كلمة تحقير أطلقها ملوك النصارى في الأندلس على المسلمين، وفي أول صفر سنة 897=2/1/1492 استسلمت في غرناطة مملكة بني الأحمر آخر الممالك الإسلامية بعد حرب وحصار داما عشر سنوات، وتسلم مفاتيحها الملكان فرديناند وإيزابيلا، وغادرها أخر ملوكها أبو عبد الله ابن الأحمر إلى فاس لاجئاً إلى الشيخ الوطاسي.

 

وبعد سقوط غرناطة جرى تنشيط محاكم التفتيش للتاكد من أن أهل غرناطة قد اعتنقوا النصرانية حقيقة، وكان أسقف غرناطة هرناندو دي تالافيرا يرى أن يتم تنصيرهم بالتدريج ومن خلال الإقناع والتعليم، إلا أن خيمينيز ضرب بذلك عرض الحائط، وقرر إجبارهم بشكل جماعي على اعتناق النصرانية، وأمر محاكم التفتيش ألا تتساهل في أمر وألا ترحم كبيراً ولا صغيراً، وأمر بجمع الكتب العربية وإحراقها في ساحات غرناطة، ولما عرض اليهود من الموريسكيين على الملك فرديناند الثاني مبلغ 600.000 دوقة ذهبية مقابل إلغاء محاكم التفتيش، أثناه الكاردينال خيمينيز عن قبول هذا العرض بأن دفع المبلغ إليه من الأموال التي بحوزته.

 

ويذكر المؤرخون الغربيون أن الكاردينال خيمينيز وقسوته الوحشية التي ليس لها مثيل كانت السبب في ثورة الموريسكيين التي دامت 17 شهراً من سنتي 905-906=1499-1501، وأن المساكين وإن تحولوا في الظاهر إلى النصرانية، كانوا غير راغبين في الذوبان في النصارى الأسبان، كيف وهؤلاء كانوا يحتقرونهم ولا يرغبون أصلاً في أن يندمج الموريسكيون في أوساطهم.

 

ونذكر استطراداً أن الحل النهائي لقضية الموريسكيين في دولة أراجون وقشتالة كان هو ترحيلهم القسري عن أسبانيا في سنة 1017=1609، حيث رحل عدد من اليهود إلى هولندا، ورحل العدد الأكبر من اليهود وكل المسلمين إلى شمال أفريقيا والعاصمة العثمانية استانبول، وينقل الأستاذ الزركلي في الأعلام عن الشيخ المؤرخ عبد الحفيظ الفاسي في كتابه معجم الشيوخ: لما تم استيلاء إسبانيا على جزيرة الأندلس باحتلال غرناطة سنة 987، وهاجر سلطانها محمد بن الأحمر هو وأعيان دولته ورؤساء عسكره ووجهاء غرناطة إلى المغرب الأقصى، واستوطنوا مدينة فاس وتطوان، بقي بغرناطة والأرباض المجاورة لها من لا قدرة لهم على الهجرة، ورضوا بالمقام تحت حكم إسبانيا طمعا بوفائها بما التزمت به من شروط، من حرية الدين والأمن على الأنفس والأموال، إلا أنها بعد ما تمكنت قدمُها أخلفت وعودها، فأمرتهم أن يدخلوا في المسيحية كافة، ولما لم يمتثلوا الأمر جمعتهم زمرا زمرا وحبستهم في غرف واسعة، ورشوهم بالماء المقدس إشارة إلى تعميدهم وتنصيرهم، ثم صدر أمر فيليب الثاني بتحريم اللباس العربي واستعمال اللغة العربية، وباستبدال الأسماء العربية، إلا أن الكنيسة لما رأتهم لم يخلصوا في مسيحيتهم صدر الأمر بطردهم، وأُمِر أرباب السفن التى تحملهم بتفريقهم في عدة جهات، فوقعت منهم طوائف ببلاد المغرب، وكان وصولهم سنة 1017، فتلقتهم الحكومة السعدية بصدر رحب، وأنزلتهم برباط الفتح حيث كان إذ ذاك فارغا خربا، فبنوا به الديار والحمامات والفنادق والأسواق وغرسوا خارجه الجنات والبساتين الموجودة الآن، فعادت عمارته وزهت حضارته، وأظهروا دينهم الذى كانوا مكرهين على تركه.

 

ومن المفيد ذكره أن الكاردينال خيمينيز لما كان أسقف طليطلة أمر القساوسة بالكف عن كثير من العادات التي درجوا عليها وشاعت بينهم، وكانوا يتخذون الإماء سراري للتحايل على شرط العزوبية المفروض على الرهبان، وأمرهم كذلك أن لا يغادروا أبرشياتهم وأن يقوموا بواجباتهم الدينية مثل عظة الآحاد وسماع الاعتراف، وكان عدد كبير من القساوسة يتحدر من عائلات الثراء والحكم، فكرهوا هذا التدخل في أسلوب حياتهم، واحتجوا عليه لدى الملكة إيزابيلا وبابا الفاتيكان، وتذكر المصادر الغربية أن 400 راهب أندلسي رحلوا خلسة إلى شمال أفريقيا بزوجاتهم وأولادهم وتحولوا إلى الإسلام.

 

وكان هناك عنصر مهم جداً في هذه الحملة الصليبية وهو البابا الكساندر السادس الذي تصفه الموسوعة البريطانية بكونه فاسداَ متلذذا طموحاً، مهملاً لواجباته الروحية، والذي ما أن تسنم البابوية في سنة 897=1492، حتى بدأ في تأجيج شديد للحرب على المسلمين والعثمانيين، وبدأ في إصدار مراسيم منح فيها إسبانيا والبرتغال حق فتح البلدان المسلمة، فأصدر في سنة 899=1494 مرسوماً منح فيه حق فتح مملكة فاس للبرتغال وآخر منح فيه إسبانيا حق فتح مملكة تلمسان.

 

وينبغي أن نشير أن القوى البحرية الإفرنجية، وبخاصة جنوة الإيطالية، كانت قد احتلت من قبل بعض المواقع الساحلية في الشمال الإفريقي واتخذتها مراسي لسفنها وأساطيلها، ولكنها لم تتجاوزها إلى الداخل، فبقي أثرها محلياً ومحدوداً، ولكن الحملة الإسبانية كانت حرباً صليبية على غرار الحروب الصليبية التي شهدها المشرق العربي، وإن كان قد قامت بها دولة واحدة هي إسبانيا الكاثوليكية.

 

إذا لم تكن الحملة الصليبية إلا نتيجة طبيعية للفرقة والتناحر والحروب التي كانت محور العلاقات بين الدول المسلمة في شمال أفريقيا، والتي أطمعت فيها إسبانيا، فشنتها رغم انشغالها في استكشاف واستعمار المناطق في قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية، ورغم دخولها في حروب مع جاراتها الأوربيات، واستغرق الإعداد للحملة سنة كاملة، وقدم لها الكاردينال خيمينيز من أموال الكنيسة ما يلزمها لبناء الأسطول وشراء السلاح والعدد، وانطلقت الحملة في سنة 1505، وما أن حققت الحملة نجاحاتها الأولى حتى زادت أموال الكاردينال من الغنائم التي عادت بها إليه، وجعله الملك فرديناند في سنة 914=1508 القائد العام للجيش الأفريقي.

 

وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها نعود لتفاصيل الحملة، فنقول أبحر الأسطول الإسباني في 26 المحرم من ميناء قرطاجنة الإسباني باتجاه المرسى الكبير في الجزائر، والذي كان الإسبان قد احتلوه قبل 4 سنوات، وكان الأسطول يضم 90 سفينة مع بعض الزوارق الصغيرة، وكان قوامه حوالي 15.000 جندي، ويقوده القائد البحري المحنك دون بيدرو نافارو، وأمضى الأسطول ليلة في المرسى الكبير ثم بدأ هجومه في يوم 28 المحرم بقصف المدينة من البحر مع هجوم بري ذي شعبتين استهدف أسوار المدينة وظاهرها، واستطاعت القوات الإسبانية إيجاد ثغرة في سور وهران، واقتحمته متخذة طريقها إلى المدينة، وأوقعت بالمدافعين عنها خسائر شديدة بلغت 4000 قتيل وجريح من أصل 12.000 مقاتل مسلم، وتذكر المراجع الإسبانية أن عدد قتلاها لم يتجاوز 30 قتيلاً، وأنها حررت 300 أسير مسيحي كانوا في المدينة.

 

وكان الكاردينال على سفينته في المرسى الكبير فلما بلغته أخبار الانتصار أبحر ليدخل المدينة في اليوم التالي دخول الفاتحين، التي أصبحت أهم قاعدة للإسبان في شمال أفريقيا.

 

و بعد الاستيلاء على وهران استمرت الحملة في اتجاهها شرقاً لمهاجمة الموانئ الواقعة على البحر المتوسط، فاستولى القائد نافارو في السنة التالية على بجاية في الجزائر، بأسطول يتكون من 15 سفينة و14000 جندي، وبنت فيها إسبانيا تحصينات ضخمة زادتها مناعة إلى مناعتها الطبيعية، ومضت الحملة شرقاً حتى استولت على طرابلس الغرب، وهكذا أصبحت سلطنة الحفصيين في تونس محاطة من الشرق والغرب.

 

وحاصرت الحملة جزيرة جَرْبة في تونس، ولكن لقيت هناك هزيمة مباغتة فأعرضت عن احتلالها، وعن ذلك ينقل محمود مقديش في كتابه نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار عن الشيخ عبد اللطيف بن بركات العربي في كتابه الذخيرة السنية، قولاً فيه بعض المبالغة في خسائر الإسبان: اتفق عندنا بإفريقية تغلب العدو - دمره الله تعالى - على حصن وهران فأخذه عام 913، ثم تغلب أيضا على بجاية فأخذت في عام 915، ثم تغلب على طرابلس عام 916، وتكالب العدو - دمره الله تعالى - على البلاد والعباد، وعاث وأظهر الفساد، واغتر بقوته وصولته، واعتز بحوله وقوته، ونزلوا جربة وبها شيخها الشيخ يحيى بن سمومن الوهبي، وكان صاحب يقظة وحزم، ونباهة وعزم، فهيأ لهم الرجال من الفرسان الأبطال، فلما حصل جمعهم بالجزيرة وانتشروا، ورأوا أنها لهم كغيرها واغتروا، أيد الله المسلمين بالنصر والظفر، ورزقهم الصبر، فقتلوهم بكل بقعة وهزموهم هزيمة شنيعة، وعن اثني عشر ألف قتيل غير ما رمى البحر من فرائسهم ببلاد السواحل انجلت الوقيعة، فحصل للمسلمين بالجزيرة من سلاحهم وأسلابهم عدد كثير ومال غزير، فالحكم لله العلي الكبير، والعجب أنه مات من المسلمين ثلاثة عشر رجلا أو أربعة عشر.

 

ولم يستطع القائد الإسباني نافارو الاستيلاء على مدينة الجزائر، فأنشأ في جزيرة صخرية مقابلها حصناً ضخماً، أسماه الإسبان البنيون أي الصخرة، وكان من خلاله يستطيع قصف مدينة الجزائر وميناءها والسفن الداخلة إليه، وتعهد ملك الجزائر ألا يدخل إلى مينائها أية سفينة لا يقبل الإسبان دخولها، ومع ذلك كان المدفعيون الإسبان في بعض الأحيان يتسلون برمي القنابل من مدافعهم نحو مآذن الجزائر حين يعتليها المؤذن لرفع الأذان، وأنعم الملك فرديناند على دون بيدرو نافارو بلقب مركيز وأقامه حاكماً عاماً على مستعمرات شمال أفريقيا.

 

وانتهت عملياً الحملة الصليبية الإسبانية سنة 1510، ووبقيت أثارها محدودة في احتلال المناطق الساحلية، والنفوذ الإسباني في ممالك المغرب، وحاول الكاردينال أن تستمر الحملة وتتحول إلى حرب صليبية  شاملة تستولي على كل شمال أفريقيا، ولكن الملك فرديناند كان يتطلع لاسترداد مناطق كانت تتبع في السابق مملكة أراجون في إقليم البيرنييه في فرنسا وبعض مقاطعات البندقية في إيطاليا، فرفض الانجرار وراء الكاردينال راضياً باستيلائه على وهران والموانئ الأخرى، فقد جعله ذلك في مركز المهيمن على غرب البحر المتوسط وسواحل شمالي أفريقيا.

 

ولم تستمر الهيمنة الإسبانية طويلاً، فقد ظهرت في البحر الأبيض المتوسط قوة بحرية مسلمة يقودها الأخوان بربروس؛ عَرُوج وأخوه الأصغر خير الدين أبناء يعقوب آغا، وكان الأخَوان قد نهجا نهج فرسان القديس يوحنا الذين تمركزوا في جزيرة رودس منذ سنة =1309 وأقاموا فيها دولة مستقلة، وكان عملهم الرئيس هو الإغارة على سفن المسلمين في شرق البحر المتوسط.

 

وبدأ الأخوان بداية صغيرة لبضع سنوات حتى تمرسا بالإغارة على سفن الفرنج في البحر المتوسط، وحققا نجاحاً أصبح لهما معه شهرة مدوية بين المسلمين والأوروبيين على حد سواء، وفي الفترة التي نتحدث عنها كانا قد وضعا أنفسهما وقواتهما البحرية تحت تصرف السلطان العثماني سليم الأول، وأصبحا يشكلان امتداداً لقوته البرية، وتفاهما مع السلطان الحفصي في تونس، ليسمح لهما أن يتخذا من ميناء حلق الوادي في تونس منطلقا للإغارة على السفن، وكان موقعه الاستراتيجي يمكنهم من الإغارة والعودة في فترات لا تطول ولا تمكن العدو من اللحاق بهم.

 

ومن النجاحات التي حققها الأخوان بربروس استيلائهم في نحو سنة 910=1505 على سفينتين بابويتين ضخمتين بسفنهم الصغيرة، ثم استوليا على السفينة الحربية الصقلِّية كافالّيريا التي كانت في طريقها من إسبانيا إلى نابولي وتحمل على متنها 360 جندي و60 فارساً من الإسبان، وهاجم الأخوان بربروس سواحل كالابريا وليجوريا في إيطاليا، واجتذب نجاحهما أعداداً كبيرة من المطوعة الذين انضموا إلى قواتهما، وانضم إليهما أخوهما الثالث إسحاق الذي جاء من بلدهما جزيرة ميديلّي.

 

وفي سنوات 905-910 قامت سفن الأخوين بربروس بنقل أعداد كبيرة من مسلمي الأندلس الهاربين من محاكم التفتيش والعذاب الذي كان يترصدهم في الأندلس، وأصبح لهما بذلك سمعة كبيرة وأنصار كُثر في سواحل شمال أفريقيا التي استوطنها هؤلاء المهاجرون، وأطلق على عروج في هذه المرحلة لقب عروج بابا عرفاناً من هؤلاء بأبوته وحنوه عليهم.

 

واستنجد أمير بجاية بالأخوين بربروس لتخليص بلده من الإسبان المحتلين، فاتجه إليها عروج في سنة 918=1512 على أمل أن يجعلها قاعدة له في غربي البحر المتوسط، وحاصر عروج الميناء وكانت بحوزته 4 سفن وكان لدى الإسبان 9 سفن تصدت له، فأغرق إحداها واستولى على اثنتين منها وهربت البقية، وأنزل عروج جنوده ومدافعه إلى البر وبدأ بحصار قلعة بجاية، ولكن في اليوم الثامن من الحصار أصابت قنبلة ذراعه اليسرى إصابة بالغة فرفع الحصار عن بجاية، وعاد إلى تونس حيث اضطر الأطباء لبتر ذراعه، فاتخذ ذراعاً من الفضة وأكسبه ذلك عند الأتراك لقب: ذراع الفضة.

 

ولم يتوقف الإخوة بربروس عن جهادهم، فاتخذوا من ميناء شرشال شرقي مدينة الجزائر قاعدة لهم، وأغاروا على سواحل الأندلس وجزيرة مينورقة، ومن حلق الواد أغاروا على ساحل جنوة واستولوا على 4 سفن، فأرسلت جنوة وراءهم عدداً من سفنها الكبيرة ولكنهم استولوا على أكبرها، وكان هذا من أعظم ما حققوه؛ أن استولوا في شهر واحد على 23 سفينة.

 

ولم يكن لمجاهد مثل عروج أن يتخلى عن محاولته من أول مرة، ففتح بليدة ساحلية كانت في يد الجنويين تدعى جيجل، وجعلها قاعدة له يغير منها على السفن الأوروبية، وعلم بعد سنتين أن الإسبان قد أرسلوا قوة من 10 سفن أبحرت من ميورقة لتقضي عليه، فأرسل إليها أخاه خير الدين الذي اشتبك معها واستولى على جميع السفن، وتوجه بها نحو بجاية وهي ترفع الرايات الإسبانية، ففتح لها الإسبان أبواب قلعة بجاية، ليفاجأوا يهجوم جنود المسلمين عليهم، فاستسلموا، وكان فتح بجاية في 5 رجب سنة 922=4/8/1516.

 

وعاد الإسبان فانتزعوا بجاية من عروج، ولكنه اتجه لمدينة الجزائر التي كان أهلها قد ناشدوه تخليصهم من الإسبان المتحكمين فيهم، فدخلها في آخر سنة 922= 1517 بأسطول من 28 سفينة و 800 جندي بحري و5.000 من العرب المتطوعة الذين انضموا إليه، ورحب به أهلها وأعيانها وخُطِب في مساجدها للسلطان سليم وبعده لعروج بك، والي الجزائر المسلم، وجاءه مرسوم سلطاني بتعيينه والياً على الجزائر ونائب السلطان في غرب المتوسط.

 

وأرسلت إسبانيا أسطولاً يقوده القائد دون دييجو دي فيرا يتكون من 40 سفينة حربية و140 سفينة نقل ويضم 15.000 جندي، وانضم إليه عدد من القبائل التي أغراها الإسبان بالمال، وقصف الأسطول قلعة الجزائر ولكن عروج بدلاً من التحصن في قلعته بادرهم بالهجوم، ونجح الإسبان في اقتحام القلعة ورفعوا أعلامهم عليها، ولكن عروج قام بهجوم مضاد مستميت اضطر معه الإسبان للانسحاب ورفع الحصار، وتعقبهم عروج حتى قتل منهم 1500 جندي.

 

وبعد هذه المعركة بدأ عروج في التصرف كسلطان على البلاد، فعاقب الزعماء الذين تعاونوا مع الإسبان، وأجرى تعداداً للسكان وفرض عليهم الضرائب، وجعل البلاد تحت إدارة مركزية، ويعزو بعض المؤرخين تحويل قبائل الجزائر المتفرقة إلى شعب واحد إلى النظام الذي بدأه عروج، وتابعه من جاء بعده.

 

وكانت مدينة تلمسان وسلطانها قد استسلمت لقدرها تحت وطأة الإسبان بعد احتلالهم وهران وبجاية، وبخاصة أن النزاعات اشتدت داخل بني زيان على الحكم، وشجعها الإسبان وأمدوا القائمين بها، وكان أبو عبد الله محمد الخامس الذي تولى ملك تلمسان سنة 910=1405 في غاية الضعف بسبب هذه الاضطرابات، ولم يعد له هيبة أو نفوذ في مناطق سلطانه، وفرض عليه الإسبان توقيع معاهدة سلم سنة 918=1512 يدفع سنوياً بموجبها 12.000 دوقية ذهبية، و12 فرساً من أحسن الخيول العربية، و6 صقور مدربة على الصيد، وكان عليه تموين الحامية المقيمة في وهران، وهو ما التزم به محمد الخامس حتى وفاته سنة  922=1517، وخلفه أخوه أبا حمو الثالث الذي سار على نهج أخيه في الخضوع للإسبان.

 

وأثار هذا الخنوع استياء العلماء في تلمسان وعدد كبير من سكانها الذين كانوا هاجروا إليها من الأندلس، وبخاصة أن الإسبان أوغلوا في القتل والتخريب وانتهاك الحرمات بدافع الانتقام والتشفي، ونقل الحرب إلى ديار المسلمين، وجاءت وفود من أعيان تلمسان إلى عروج تدعوه لإزالة هذه الوصمة، فتوجه إليها وفتح قلعة القلاع، التي تبعد عن تلمسان 180 كم وتدعى اليوم عويد فضة، وترك فيها أخاه إسحاق ريس، ثم تابع مسيره إلى تلمسان واستطاع بقوة قليلة هزيمة جيش سلطان تلمسان، ودخلها في رمضان سنة 923=1517 وسط ترحاب السكان، وأخرج من الاعتقال أبا زيان أحمد الثالث وسلمه البلد التي صار الدعاء بها للسلطان العثماني، ثم عاد إلى الجزائر، ولكن السلطان الجديد فضَّل الإسبان على الأتراك، وشق عصا الطاعة، فما كان من عروج إلا أن عاد إلى تلمسان وقتل أبا زيان ومن والاه، وجعلها تحت سلطانه.

 

وكان سلطان تلمسان المخلوع أبو حمو الثالث قد هرب والتجأ إلى الإسبان في وهران، فلما صارت هذه التطورات سافر إلى إسبانيا والتقى بالإمبراطور شارل الخامس، الذي كان لتوه قد تسنم عرش المملكة الإسبانية، وطلب منه المساعدة لاسترجاع عرشه، فوعده شارل الخامس بالعون الوشيك.

 

وشن الإسبان حملة سريعة للسيطرة على قلعة القلاع، فقد كان الاستيلاء عليها يهدد وجودهم في وهران، التي تبعد عنها 80 كم فقط، وأرسلوا من وهران 2000 أسباني ضموا إليهم قرابة 10.000 من الأعراب، وحاصروا إسحاق ريس وجنوده فيها الذين رفضوا الاستسلام وقاتلوا حتى آخر رجل، واستولى الإسبان في المحرم سنة 924=1518 على القلعة بعد 25 يوماً من حصارها.

 

وأرسلت إسبانيا جيشها الأساسي إلى تلمسان للقضاء على عَرُوج بك، وكان عدده قرابة 12000 جندي انضم إليهم عدد كبير من الأعراب مع السلطان الزياني، وكان الإسبان مسلحين بالبنادق والمدافع، ولم يكن لدى عروج سوى عدد ضئيل من المدافع، ورغم إدراكه لصعوبة موقفه رفض عروج الانسحاب، وصمد للحصار الإسباني على أمل أن يمل الإسبان في النهاية وينسحبوا.

 

ولكن الإسبان لم يكن لديهم ما يدعوهم للإنسحاب، فقد جاء الإمبراطور شارل الخامس إلى وهران ليدير أمر الحصار، وكانت الإمدادات وتبديل القوات الإسبانية يجرى بانتظام من وهران القريبة، أما عروج الذي انتظر أن ينجده سلطان فاس وفقاً لاتفاقه معه، فقد طال انتظاره دون أن يصله شيء، وكان أخوه خير الدين بربروس بعيداً عنه في مدينة الجزائر، وسيتصدى الإسبان لأية قوة يرسلها لنجدته، هذا إن لم ينتهزوا الفرصة لمهاجمة الجزائر ذاتها، ودام الحصار 6 أشهر مريرة، انقلب في آخرها أهل تلمسان على عَروج بتحريض من أبي حمو الثالث وبعد أن ضاقوا بهذا الوضع الذي لا أمل معه، وهجموا في إحدى المرات على جنود عروج وقتلوا عدداً منهم، وبعد ذلك خرج عروج فجأة من القلعة وهاجم الإسبان وقتل عدداً كبيراً منهم، ولكنه لم يستطع كسر الحصار،  ولما بقي لديه 40 جندياً خرج خلسة من القلعة وتجاوز المحاصرين الإسبان، ولكنهم علموا بخروجه، فلاحقوه على عجل حتى لحقوا به، ورفض هو وجنوده التسليم، وقاتلوا حتى الشهادة، وذلك في 5 شوال سنة 924= 1518، وقطع دون غارسيا رأس عروج وأرسله إلى الملك في إسبانيا، وانتهت بذلك حياة مجاهد كبير كان له دور بارز في التصدي لهذه الحملة الشرسة.

 

ولكن استشهاد عروج كان حافزاً للسلطان العثماني ليولي الأسطول البحري ما يستحقه من الاهتمام، وهذا ما حصل بالفعل، فقد توسع الأسطول العثماني بعد هذه الأحداث، وتابع خير الدين بربروس جهاد أخيه، وأزال الوجود الإسباني من مدينة الجزائر، ليصير فيما بعد أمير الأسطول العثماني ويهزم أسطول شارل الخامس في معركة بريفيزا ويحقق الهيمنة العثمانية على شرقي البحر المتوسط، قبل وفاته في سنة 953=1546.

 

وأما وهران التي بدأنا حديثنا بها فبقيت في يد الإسبان قرابة 200 سنة حتى فتحها في سنة 1207=1708 الباي محمد بن عثمان منتهزاً فرصة حرب داخلية إسبانية عُرفت بحرب الوراثة الإسبانية، وعاد الإسبان فاحتلوها سنة 1144=1732، ثم تركوها وتركوا المرسى الكبير في سنة 1205=1792 على أعقاب زلزال مدمر ضربها قبل سنتين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين