حدث في الثالث من جمادى الآخرة

 

منح الدولة العثمانية بريطانيا حق إدارة جزيرة قبرص

 

في الثالث من جمادى الآخرة من سنة 1356=4/6/1878 وقعت الدولة العثمانية مع الدولة البريطانية اتفاقاً منحها حق السيطرة على إدارة جزيرة قبرص، وهذا نص المعاهدة:

 

لما كان لدى كل من ملكة مملكة بريطانيا وإيرلندا المتحدة وإمبراطورة الهند وجناب السلطان المعظم الرغبة القوية الصادقة لتنمية وتقوية علاقات الصداقة السعيدة القائمة الآن بين السلطنتين، فقد قررا عقد معاهدة تحالف دفاعي هدفها في المستقبل حماية المناطق التابعة للحضرة العلية السلطانية في آسيا، وبناء على هذه الغاية اختارا وعيّنا المفوضين الآتي بيانهما:

 

عينت ملكة مملكة بريطانيا وإيرلندا المتحدة وإمبراطورة الهند حضرة المحترم أُوستِن هنري لِيارد سفيرها المفوض لدى الباب العالي، وعينت الحضرة العلية السلطانية حضرة دولتلو صفوت باشا ناظر الخارجية للدولة العلية، وبعد أن تبادلا الوثائق التي تفوضهما لعقد هذا التحالف، ووجدت مطابقة للأصول، اتفقا على المواد الآتية:

 

المادة الأولى: إذا احتفظت روسيا بباطوم أو أردهان أو قارص أو أحداها، وإذا قامت في المستقبل بمحاولة الاستيلاء على مناطق أخرى في آسيا تابعة للحضرة السلطانية كما حددتها معاهدة الصلح النهائية، فإن إنكلترا تتعهد بأن تنضم للحضرة العلية السلطانية لحماية تلك الأراضي بقوة السلاح.

 

وفي مقابلة ذلك يعِدُ جلالةُ السلطان إنكلترا أن يدخل الإصلاحات اللازمة، التي سيتفقان عليها فيما بعد، علي نظام الحكم ولحماية المسيحيين وغيرهم من الرعايا في بلاد السلطان.

 

وحتى تتمكن إنكلترا من اتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ تعهداتها، فقد وافق السلطان المعظم أن يعهد بجزيرة قبرص إلى إنكلترا لتحتلها وتدير أمورها.

 

المادة الثانية: يتم التصديق على المعاهدة وتبادل النسخ المصدقة خلال شهر واحد أو أقل إذا امكن.

 

وُقِعت هذه المعاهدة في القسطنطينية في 4/6/1878.

 

ولأن المعاهدة كتبت على عجل، كان فيها كثير من العوار والثغرات، وبعدها بقرابة شهر، وقع البلدان اتفاقاً آخر، وقعه السفير البريطاني أوستن هنري لِيارد، وصفوت باشا الذي جعله السلطان في منصب الصدر الأعظم، أو رئيس الوزراء، والاتفاق أشبه ما يكون بملحق تنفيذي للاتفاقية، تضمن أن تبقى المحاكم الشرعية الإسلامية هي مرجع السكان المسلمين دون غيرها، وأن تعين نظارة الأوقاف العثمانية أحد مسلمي الجزيرة ليكون ناظر الأوقاف والمشرف على أمورها، وأن تدفع بريطانيا سنوياً للسلطان 90.000 جنيه ونيف، وأن يبقى للسلطان الحق في بيع وتأجير الأراضي الحكومية والسلطانية، ونصت الفقرة السادسة والأخيرة: إذا أعادت روسيا إلى تركيا قارص وغيرها من الأراضي التي استولت عليها في الحرب الأخيرة في أرمينيا، فإن إنكلترا ستخلي جزيرة قبرص وستعتبر معاهدة قبرص منتهية.

 

وهذه الفقرة تتناقض تناقضاً تاماً مع اتفاق تم بين بريطانيا وبين روسيا ووقعه في لندن قبل أسابيع وزير الخارجية البريطاني المركيز ساليسبري والسفير الروسي الكونت شوفالوف والذي تضمن وعداً بريطانياً لروسيا أن لا عليها أن تعيد إلى الدولة العثمانية ما استولت عليه من مناطق في الأناضول، أي أن الإدارة البريطانية لجزيرة قبرص ستكون دائمة بفضل هذه الحلقة المفرغة.

 

وبعدها بقرابة شهر وقع البلدان ملحقاً آخر، فقد تبين للدائرة القانونية في وزارة الخارجية البريطانية أن هذه الاتفاقيات لا تمنح المندوب السامي البريطاني حق سن القوانين في أراضي لا تزال في نظر القانون الدولى تابعة للسلطنة العثمانية، ولذا جاء هذا الملحق الذي منح فيه السلطان بريطانيا حق سن القوانين المتعلقة بالشؤون الداخلية للجزيرة وتنظيم وجود الأجانب فيها، مع بقاء سكانها مواطنين عثمانيين.

 

نعود فنقول: وقع البلدان هذه المعاهدة بعد سنتين من تولى السلطان عبد الحميد الثاني الذي تسنم العرش في 10 شعبان سنة 1293=31/8/1876، وكانت الملكة فكتوريا جالسة على عرش بريطانيا، ورئيس وزرائها الذي يدير الأمور هو زعيم حزب المحافظين سير بنجامين دزرائيلي، أما المندوب البريطاني سير أوستن هنري ليارد فهو عالم آثار ورحالة ولد سنة 1817، وقام بالتنقيب عن الآثار في منطقة الرافدين، وهو الذي اكتشف الثور المجنح الضخم الذي يعود لعهد الملك أشورنصربال الثاني، والذي يزين اليوم المتحف البريطاني في لندن، وقام ليارد ببعض المهام الدبلوماسية غير الرسمية بتكليف من السفير البريطاني في استانبول، ودخل غمار السياسة البريطانية كنائب في البرلمان، ثم كوكيل لوزير الخارجية ثم رئيساً لمجلس الدولة، ثم سفيراً في استانبول لسنوات 1877-1880، ومنحته الدولة رتبة سير في سنة 1878.

 

وكما ذكرنا في حديث سابق عن الحرب الروسية التركية، جاءت هذه المعاهدة بعد هزيمة الدولة العثمانية هزيمة ساحقة في الحرب الروسية العثمانية التي نشبت عام 1877 وانتهت في أول سنة 1878، وكانت شرارة هذه الحرب تمرد البوسنة والهرسك وبلغاريا على الحكم العثماني، وتقدم روسيا متحالفة مع صربيا لمساعدة المناطق المتمردة، وهاجم الروس عبر بلغاريا، وواجهوا مقاومة شديدة عند بلفنا أوقفتهم لحصارها، ولما سقطت بلفنا تابعوا تقدمهم حتى احتلوا أدرنة في أول سنة 1878، ووقّعت الدولة العثمانية تحت وطأة هذه الهزيمة اتفاقية سان ستيفانو في 28 صفر 1295=3/3/1878، وتنازلت بموجبها عن حكم رومانيا وصربيا والجبل الأسود، ومنحت الحكم الذاتي للبوسنة والهرسك، ووسعت أراضي بلغاريا تحت مسمى بلغاريا الكبرى وجعلتها دولة ذات حكم ذاتي تحت الحماية الروسية.

 

وجعلت المعاهدة من الإمبراطورية الروسية أقوى دولة في شرق أوروبا، وهو ما أثار خشية بريطانيا وحكومة النمسا وهنغاريا، فضغطت على روسيا لتدخل في مفاوضات جرت في برلين مع عدد من الدول الأوروبية وانتهت بمعاهدة برلين التي وقعت في 13 رجب 1295 =13/7/1878 والتي قلصت كثيراً المكاسب الروسية من الحرب الأخيرة.

 

وكانت معاهدة قبرص ذات أهمية كبيرة لبريطانيا وهيمنتها على البحار وبخاصة طريق الهند التي أصبحت تمر بقناة السويس التي افتتحت مؤخراً في سنة 1869 والتي تبينت أهميتها في التجارة العالمية، وكانت مهمة كذلك للوقوف بوجه روسيا القيصرية ومطامعها الطموحة في الوصول للمياه الدافئة في البحر الأبيض، ومع ذلك لقيت معاهدة قبرص انتقاداً شديداً في داخل بريطانيا من حزب الأحرار المعارض وزعيمه جلادستون واعتبر الالتزامات البريطانية لدعم العثمانيين ضد الروس عبأً لا مصلحة لبريطانيا في تحمله، ولكنه ما لبث أن نسي كل ذلك بعد أن أصبح رئيس الوزراء في انتخابات سنة 1880.

 

وعلى صعيد خارجي عارضت فرنسا وإيطاليا المعاهدة لتوسيعها النفوذ البريطاني في البحر المتوسط، ولكن بريطانيا أرضتهما بتأكيدها أنها لن تعارض فرنسا إن هي مدت دائرة نفوذها إلى تونس، ولن تعارض إيطاليا إن هي مدت دائرة نفوذها إلى ليبيا.

 

ورغم أن دخول بريطانيا إلى قبرص تم دون أية مقاومة، إلا أن اليونانيين الذين كانوا يشكلون حوالي 75% من سكانها كانوا يتطلعون للانضمام إلى اليونان التي استقلت عن الدولة العثمانية قبل 40 عاماً في سنة 1832، ولم يتردد الأسقف اليوناني أن يذكِّر المندوب السامي البريطاني في حفل أقيم للترحيب به أنه القبارصة اليونانيين يتطلعون للانضمام لليونان.

 

ولما نشبت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 ودخلتها بعد شهور حكومة الاتحاد والترقي في تركيا إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا، اتخذت بريطانيا عدداً من الإجراءات العقابية ضد الدولة العثمانية منها سلخ مصر عن الدولة العثمانية من خلال إعلان الحماية البريطانية على مصر، وإقامة سلطنة مستقلة فيها، ومن هذه الإجراءات إلغاء معاهدة قبرص مع تركيا، وإعلان ضم قبرص إلى ممتلكات التاج البريطاني، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استمرت الحرب بين اليونان وبين تركيا، وانتهت بهزيمة اليونان على يد مصطفى كمال أتاتورك، وجرت مباحثات في لوزان بسويسرا ضمت الدول الأوروبية واليابان وتركيا دامت 7 شهور، وتمخضت عن معاهدة لوزان في 10 ذي الحجة 1341=24/7/1923التي تخلت فيها تركيا عن جزيرة قبرص، والتي أصبحت رسمياً مستعمرة بريطانية.

 

وزادت أهمية جزيرة قبرص مع نشوب الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 بين المعسكر الحليف بقيادة بريطانيا ثم أمريكا وبين معسكر المحور بقيادة ألمانيا، وآوت موانئ قبرص ومطاراتها السفن والطائرات والقوات البريطانية والحليفة، وأنشأت فيها بريطانيا إذاعة الشرق الأدنى باللغة العربية للتأثير على الرأي العام العربي الذي كان يشجع ألمانيا والمحور نكاية بالمستعمر البريطاني.

 

وحارب في الحرب العالمية الثانية متطوعون من القبارصة اليونان في صفوف بريطانيا التي لوحت لهم بالاستقلال بعد أن تنتهي الحرب، ولكن انتهت الحرب سنة 1945 دون أن يلوح الاستقلال في الأفق، مما أدى لاستياء شديد في صفوف اليونانيين، الذين بدأوا في سنة 1954 حركة منظمة تطالب بالاستقلال، وناشدوا الأمم المتحدة أن تتدخل، وأنّى لها ذلك!

 

وبعد ذلك انتقل القبارصة اليونانيون إلى تحرك هدفه الحصول على الاستقلال بواسطة مقاومة الوجود البريطاني بالوسائل السلمية، وتزعم الحراك الأسقف مكاريوس الثالث كبير الأساقفة في الكنيسة الأرثوذكسية القبرصية، ولما نفته بريطانيا خارج البلاد بعد سنتين من بداية الحركة، أنشأ جورج جريفاس وهو يوناني كان ضابطاً بريطانياً سابقاً حركة عسكرية سميت التنظيم الوطني للمقاتلين القبارصة، المعروف بمنظمة أيوكا، وبدأت أيوكا حملة عسكرية ضد البريطانيين الذين اتهموها بالإرهاب وأعلنوا حالة الطوارئ في الجزيرة، وبعد قرابة 4 سنوات جرت في لندن مباحثات شاركت فيها بريطانيا وتركيا والقبارصة من اليونان والأتراك، وانتهت بتعهد بريطاني في أوائل سنة 1959 بمنح الجزيرة استقلالها.

 

وفي آخر سنة 1959 انتخب القبارصة الأسقف مكاريوس الثالث رئيساً للجمهورية الجديدة مع نائب تركي له هو فاضل كوجُك، وفي سنة 1960 وقعت بريطانيا واليونان وتركيا والجمهورية القبرصية معاهدة تأسيس الجمهورية القبرصية، والتي ضمنت فيها الدول الثلاث استقلال قبرص، وتعهدت أنه في حالة الإخلال بذلك فإن الدول الثلاث ستتشاور فيما بينها حول ما ينبغي اتخاذه من خطوات وإجراءات لضمان مراعاة شروط المعاهدة، وأنه في حالة تعذر العمل الجماعي أو المنسق فإن كل واحدة من القوى الضامنة تحتفظ بحقها في التدخل لهدف أوحد هو إعادة الأوضاع لما نصت عليه هذه المعاهدة. وتقرر أن يتكون برلمان الجزيرة من 50 مقعداً يأخذ القبارصة اليونانيون منها 35 مقعداً وللأتراك 15 مقعداً. وتركت المعاهدة لبريطانيا قاعدتين عسكريتين تعتبران أراض بريطانية مثل قاعدتها في مضيق جبل طارق.

 

وكان من المعروف عن مكاريوس تأييده للانضمام لليونان، إلا أنه بعد انتخابه أدرك أن ذلك أضحى بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى، فسلك في البداية سياسة التقارب مع الأتراك والتصرف على أنه رئيس للجميع، ولكن ذلك لم يطل كثيراً فقد كان الرأي العام لدي القبارصة اليونانيين متعلقاً بالوحدة مع اليونان تعلقاً عاطفياً لا يمت بصلة إلى الواقع والسياسة، فكان تياره عارماً يكتسح كل من يعارضه، ويبدو أن مكاريوس قرر ألا يخاطر بمواجهة هذا التيار، بل أن يسايره على أمل أن يحيد بمساره إن لم يسيطر عليه.

 

وتقدم مكاريوس باقتراح تضمن 13 تعديلاً دستورياً، كان ظاهرها تحرير الحكومة من المحاصصة العرقية بين اليونانيين وبين الأتراك، وحقيقتها إلغاء أو إضعاف الضمانات الدستورية التي تحميهم من هيمنة الأغلبية اليونانية، وكان الأتراك العاملون في الدولة الوليدة يلقون مضايقات تصاعدت في وتيرتها وخطرها، فلما تقدم مكاريوس بمقترحاته ورأوا أن مآلها هو التهميش الحتمي للأقلية التركية في الجزيرة، أدركوا أن مكاريوس قد عاد من جديد ليمثل مصالح الجانب اليوناني، فاستقال أغلبهم من الحكومة، وانتقل أكثر الأتراك من المناطق المختلطة إلى المناطق التركية بعد أن تصاعدت التهديدات والاعتداءات ضدهم، فأضحت الجزيرة مقسمة من الناحية المعنوية والسكانية، وساءت الأحوال عندما بدأت منظمة أيوكا بمهاجمة القبارصة الأتراك وردوا هم بتكوين منظمة الدفاع التركية، وأدى ذلك إلى تصاعد وتيرة العنف بين الطرفين كماً وكيفاً.

 

ولتهدئة الأوضاع جرى في سنة 1964 استدعاء قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة ساهمت في ضبط الأمور إلى حد كبير، وحاول مكاريوس أن يعود إلى حياده المفترض من جديد، ولكن الأتراك ما عادوا يثقوا به، وصار يواجه داخل صفوف اليونانيين معارضة عالية الضجيج تتنافس على التعصب اليوناني، حتى خيل لكثير من المراقبين أن أيام مكاريوس أضحت معدودة، وبخاصة بعد أن وقع انقلاب عسكري في اليونان، لم يخف الضباط القائمون عليه أن أحد أهدافهم هو توحيد الجزيرة مع اليونان.

 

وأجرى مكاريوس انتخابات رئاسية في 1968 أسفرت عن فوزه بأغلبية ساحقة على منافسه الداعي للاتحاد مع اليونان، وبعدها اتخذ مكاريوس بعض المواقف المعتدلة وقال: إنه لا يمكن حل المشكلة القبرصية بالقوة، وأنه والأغلبية من اليونانيين يريدون العيش بسلام في قبرص موحدة يتمتع مواطنوها بحقوق متساوية، وأغضب مكاريوس بذلك النظام العسكري في اليونان والعناصر المتطرفة في قبرص التي حاولت اغتياله في سنة 1970.

 

وبدأ نظام العسكر في اليونان في التخطيط لإزاحة مكاريوس الذي اعتبروه خائناً للقضية القبرصية، وقاموا بتزويد جريفاس ومنظمة أيوكا – ب بالمال والسلاح لتقوم بعمليات إرهابية ودعائية لزعزعة حكم مكاريوس بسبب تخليه عن فكرة الاتحاد مع اليونان، وأصدرت الحكومة العسكرية اليونانية إنذاراً له بوجوب تغيير عدد من وزرائه الذي هاجموا الانقلاب العسكري والطغمة الحاكمة، وبعد رفض لم يطل قام مكاريوس بإبعاد الوزراء الذي اعترض عليهم الإنقلابيون اليونانيون.

 

وفي آخر سنة 1973 وقع انقلاب في اليونان أطاح بحكومة جورجيوس بابادوبلوس العسكرية وجاء بمتسلط أوحد إلى السلطة هو ديمتريوس إيوانيدس، ومات جريفاس بعد الانقلاب بشهور، فوضع إيوانيدس منظمة أيوكا تحت سيطرته المباشرة وبدأ يخطط للإطاحة بمكاريوس، وهو الأمر الذي شعر به مكاريوس فطلب من الحكومة اليونانية سحب كل ضباطها المقيمين في الجزيرة، فما كان من إيوانيدس إلا أن أصدر أوامره للقيام بانقلاب يطيح بمكاريوس، وذلك بعد أسبوعين من رسالة مكاريوس.

 

وهرب مكاريوس من الجزيرة عند وقوع الانقلاب، ووصفه بعد 4 أيام في خطاب له أمام مجلس الأمن الدولى بأنه: غزو دبرته حكومة الطغمة العسكرية في اليونان وانتهكت به سلام قبرص الداخلي. وبعد ساعات من خطابه كانت القوات التركية قد بدأت في النزول في قبرص مستندة إلى حقها المنصوص عليه في معاهدة تأسيس الجمهورية القبرصية، وجرى التدخل التركي في ظل حكومة السيد بولنت أجاويد وبإشراف مباشر من نائبه البروفسور نجم الدين إربكان، فقد كان أجاويد يحضر جلسات مجلس الأمن في نيويورك، ونجحت القوات التركية في السيطرة على المناطق التي يسكنها أو يغلب عليها القبارصة الأتراك، ثم وسعت منطقة سيطرتها في الشمال الشرقي لتبلغ حوالي ثلث أراضي الجزيرة، وأسست جمهورية قبرص التركية عليها، وعاصمتها لفكوشا، أي نيقوسيا التركية، ولم تعترف بهذه الجمهورية دولة باستثناء تركيا.

 

وسقطت الحكومة العسكرية في اليونان نتيجة التدخل التركي الناجح، وسقطت معها الحكومة العميلة لها في قبرص، وعاد مكاريوس بعد شهور ليحاول دون جدوى توحيد الجزيرة، ووافته منيته في أواخر سنة 1977، ولا تزال الجزيرة على حالها مقسمة رغم المحاولات والمبادرات الكثيرة، وذلك بسبب تصلب القبارصة اليونانيين الذين رفضوا في استفتاء جرى في أول سنة 1425=2004 توحيد الجزيرة، ومع هذا لقوا من أوروبا الحنو والتشجيع المعنوي والدعم المادي فدخلت دولتهم في الاتحاد الأوروبي بعد رفضهم توحيد الجزيرة بشهر.

 

نعود للحديث عن قبرص في التاريخ الإسلامي، فنقول إنها كانت تحت حكم الدولة البيزنطية في القسطنطينية عندما غزاها المسلمون لأول مرة في سنة 27 أو 28 في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد قام واليه على الشام معاوية بن أبي سفيان بتشكيل حملة بحرية غزت قبرص من الشام وانضمت إليها حملة بحرية أخرى من مصر قادها واليها عبد الله بن أبي السرح، وشارك في الغزوة جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وأبو الدرداء، ويبدو أن الحملة استعانت بأقباط مصر استعانة كبيرة، ذلك أن معاوية رضي الله عنه قام في الناس قبل أن يتفرقوا إلى أجنادهم، فقال: إنا قاسموا غنائمكم على ثلاثة أسهم: سهمٌ للسفن فإنها مراكبكم، وسهمٌ للقبط، فإنكم لم يكن لكم حيلة إلا بهم، وسهم لكم.  فاعترض أبو ذر على هذه القسمة فأعادها معاوية على المسلمين.

 

وشارك في هذه الغزوة عبادة بن الصامت، وامرأته أم حرام بنت ملحان، خالة أنس بن مالك رضي الله عنهم، فسقطت عن دابة لها فاندق عنقها وماتت ودفنت في قبرص، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نام في بيتها وقت قيلولة، فاستيقظ وهو يضحك، فسألته؟ فقال : ناس من أمتي عُرِضوا علي غزاةً في سبيل الله، يركبون ثَبَج البحر، ملوكا على الأسِرة، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم.

 

وعادت هذه الحملة بالسبي والأموال، وصالحت أهل قبرص على سبعة آلاف دينار يؤدونها كل سنة، وكان أهل قبرص يؤدون للروم مثلها، فاتفقوا ألا يمنعهم المسلمون من ذلك، وليس على المسلمين منعهم ممن أرادهم من ورائهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم، ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم، فقبلوا ذلك منهم، وعادوا عنهم.

 

وفي سنة 32 أعان أهل قبرص الروم على غزو المسلمين بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية في سنة 33 في 500 مركب ففتحها عنوة، فقتل وسبى، ثم أقرهم على صلحهم، وبعث إليهم 12.000 من المسلمين فبنوا المساجد، وبنى بها مدينة، وكانت هذه بداية الوجود الإسلامي في قبرص، ولكن يزيد بعد وفاة أبيه معاوية أمر بعودة هؤلاء المسلمين وهدم المدينة.

 

وبقيت العلاقة بين الدولة الإسلامية وبين قبرص مبنية على صلح معاوية، فلما ولى الخلافة عبد الملك بن مروان سنة 86 زاد عليهم ما يؤدونه ألف دينار، واستمر ذلك إلى خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99  فحط الزيادة عنهم، فلما ولى هشام بن عبد الملك سنة 105ردها، واستمر ذلك حتى سقوط الخلافة الأموية وخلافة أبى جعفر المنصور فقال: نحن أحق من أنصفهم ولم نتكثر بظلمهم. فردهم إلى صلح معاوية.

 

ولما ولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك الخلافة في سنة 125 أجلى بعض سكان قبرص إلى الشام لأمر اتهمهم به، فأنكر العلماء عليه ذلك فردهم إلى بلدهم.

 

وولى هارون الرشيد في أول ولايته ابن عمه عبد الملك بن صالح بن على بن عبد الله بن عباس على الثغور، وذلك في سنة 171، فأحدث أهل قبرص حَدَثاً، فأراد نقض صلحهم، فاستشار كبار الفقهاء وكتب إلى الليث بن سعد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وموسى بن أعين، وإسماعيل بن عياش، ويحيى بن حمزة، وأبى إسحاق الفزارى، ومخلد بن الحسين في أمرهم فأجابوه، ونورد هنا جانباً مستفيضاً من أجوبتهم رحمهم الله لما في ذلك من الفائدة التاريخية والفقهية:

 

كتب الليث بن سعد: إن أهل قبرس قوم لم نزل نتهمهم بغش أهل الاسلام ومناصحة أعداء الله الروم، وقد قال الله تعالى في سورة الأنفال: ?وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ?، ولم يقل لا تنبذ إليهم حتى تستيقن خيانتهم. وإنى أرى أن تنبذ إليهم، ويُنظروا سنة يأتمرون، فمن أحب اللحاق ببلاد المسلمين على أن يكون ذمة يؤدي الخراج قبلتَ ذلك، ومن أرأد أن ينتحي إلى بلاد الروم فعل، ومن أراد المقام بقبرس على الحرب أقام، فكانوا عدوا يُقاتلون ويُغزون، فإن في إنظار سنة قطعا لحجتهم ووفاء بعدهم.

 

وكتب مالك بن أنس: إن أمان أهل قبرس كان قديما متظاهرا من الولاة لهم، وذلك لأنهم رأوا أن إقرارهم على حالهم ذل وصَغار لهم، وقوة للمسلمين عليهم بما يأخذون من جزيتهم، ويصيبون به من الفرصة في عدوهم، ولم أجد أحدا من الولاة نقض صلحهم ولا أخرجهم عن بلدهم، وأنا أرى أن لا تعجل بنقض عهدهم ومنابذتهم حتى تتجه الحجة عليهم، فإن الله يقول في سورة التوبة: ?فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ?، فإن هم لم يستقيموا بعد ذلك ويَدَعوا غشهم ورأيتَ أن الغدر ثابت منهم؛ أوقعتَ بهم، فكان ذلك بعد الإعذار فرُزقت النصر، وكان بهم الذل والخزى إن شاء الله تعالى.

 

وكتب سفيان بن عيينة: إنا لا نعلم النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قوما فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم غير أهل مكة، فإنه منَّ عليهم، وكان نقضهم أنهم نصروا حلفاءهم على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، وكان فيما أخذ على أهل نجران أن لا يأكلوا الربا، فحكم فيهم عمر رحمه الله حين أكلوه بإجلائهم، فإجماع القوم أنه من نقض عهدا فلا ذمة له.

 

وكتب موسى بن أعيَن: قد كان يكون مثل هذا فيما خلا، فيعمل الولاة فيه النظرة، ولم أر أحدا ممن مضى نقض أهل قبرس ولا غيرها، ولعل عامتهم وجماعتهم لم يمالئوا على ما كان من خاصتهم، وأنا أرى الوفاء لهم والتمام على شرطهم، وإن كان منهم الذى كان. وقد سمعتُ الاوزاعي يقول في قوم صالحوا المسلمين ثم أخبروا المشركين بعورتهم ودلوهم عليها: إنهم إن كانوا ذمة فقد نقضوا عهدهم وخرجوا من ذمتهم، فإن شاء الوالى قتل وصلب، وإن كانوا صلحا لم يدخلوا في ذمة المسلمين، نبذ إليهم الوالى على سواء ?وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ?.

 

وكتب اسماعيل بن عياش: أهل قبرس أذلاء مقهورون يغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم، فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم، وقد كتب حبيب ابن مسلمة لاهل تفليس في عهده أنه إن عرض للمسلمين شغل عنكم وقهركم عدوكم، فإن ذلك غير ناقض عهدكم بعد أن تفوا للمسلمين. وأنا أرى أن يُقروا على عهدهم وذمتهم، فإن الوليد بن يزيد قد كان أجلاهم إلى الشام فاستفظع ذلك المسلمون واستعظمه الفقهاء، فلما ولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك ردهم إلى قبرس، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله ورأوه عدلا .

 

وكتب يحيى بن حمزة: ... وترْكُ أهل قبرس على صلحهم والاستعانة بما يؤدون على أمور المسلمين أفضل، وكل أهل عهد لا يقاتل المسلمون من ورائهم ويجرى عليهم أحكامهم في دارهم فليسوا بذمة، ولكنهم أهل فِدية يُكفُّ عنهم ما كفوا، ويُوفى لهم بعهدهم ما وفوا ورضوا، ويقبل عفوهم ما أدوا، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه كره أن يُصالح أحدٌ من العدو على شئ معلوم إلا أن يكون المسلمون مضطرين إلى صلحهم، لانه لا يدرى هل صلحهم نفع وعز للمسلمين.

 

وبعد ذلك بقرابة 20 سنة، وفي خلافة الرشيد كذلك، عمل أهل قبرص أمراً عده المسلمون نقضاً للعهد، فأمر الرشيد حميد بن معيوف الهمداني فغزاهم في سنة 190، فهدم وأحرق وسبى من أهلها 17.000 بما فيهم أسقف قبرص، ثم إنهم استقاموا للمسلمين فأمر الرشيد برد من أسر منهم فرُدوا.

 

وبقيت جزيرة قبرص على هذه الحال تؤدي الفدية، ثم تنقض العهد فيتعرض لها المسلمون بالغزو إلى أيام الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكاس الذي تولى العرش سنة 352 وتوفي سنة 358، والذي قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدِّهم شوكة، وأكثرِّهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يده قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا. وشن نقفور حملات قوية على الثغور في شمال بلاد الشام وعلى حلب، وكانت بينه وبين سيف الدولة منازلات وجولات مريرة، وكان من السهل عليه أن يجعل قبرص تحت سلطانه ولم تعد تؤدي أية فدية للدولة الإسلامية.

 

ومَثلُها مثل كثير من المناطق المسيحية في الشرق، تعرضت قبرص في إبان الحروب الصليبية لهجمات من الصليبيين أنفسهم، فقد كانت روح المغامرة والجشع تتحكم في كثير من أفعال الصليبين، ولم يشفع لقبرص أن العلاقات بين الفرنج والإمبراطور البيزنطي كانت جيدة جداً، فهاجمها في سنة 551 رينولد ملك أنطاكية مع أمير أرمني من كيليكا، فعاثوا فيها سلباً ونهباً وقتلاً وتخريباً مدة 3 أسابيع، وكان ذلك في دولة نور الدين زنكي.

 

ثم استولى على قبرص ملك إنكلترا ريتشارد المعروف بقلب الأسد، وذلك عند مشاركته في الحملة الصليبية الثالثة في سنة 587، فقد أدت عاصفة إلى جنوح بعض سفنه إلى الجزيرة قرب ليماسول، وتذرع بأن أهل الجزيرة أساؤوا استقبال أخته ملكة صقلية وزوجها ملك نافارا، فغدر بملكها إسحاق كومّينُس واحتلها وأساء معاملة أهلها، ثم باعها إلى فرسان المعبد الذين يسميهم العرب: الداوية.

 

وكان فرسان المعبد قوماً معروفين بالشدة والغلظة لا يمتون للمسيح وتعاليمه إلا بظاهر الإسم، وكانوا يتبعون الكنيسة الكاثوليكية فأرهقوا كاهل السكان الأرثوذكس بالضرائب والسخرة، حتى طفح بهم الكيل، فانتهز القبارصة فرصة هزيمة الصليبيين في فلسطين على يد صلاح الدين، وثاروا على فرسان المعبد في سنة 588 الذي قمعوا الثورة بكل وحشية، ولم يستطع فرسان المعبد أداء الثمن المتفق عليه، فأخذها منهم ريتشارد وباعها للملك غي دي لوزينان ملك القدس السابق الذي جاء قبرص بعد أن فتح صلاح الدين القدس.

 

وأقام غي دي لوزينان في قبرص مملكة محل التي خسرها في فلسطين، وتعامل هو ومن جاء بعده من ملوك لوزينان مع أهل الجزيرة تعامل السيد مع عبيده، واستدعوا النبلاء من فرنسا ومنحوهم الإقطاعات بما فيها من مزارعين، وكانت قبرص في ذلك الحين بلداً غنية في مواردها تربى فيها الأغنام بكميات كبيرة، وتنتج الملح بكميات كبيرة تدر على ملكها الذي كان يحتكره أموالاً وفيرة جداً، وعمل آل لوزينان على تحويل سكان الجزيرة إلى الكاثوليكية من الأرثوذكسية، مما زاد في كراهية الناس لهم، ولكن بمرور السنين بدأ آل لوزينان يتساهلون مع الكنيسة الأرثوذكسية ويستعينون بالقبارصة في أمور الدولة.

 

وبعد انتهاء الحروب الصليبية بدأت التجارة بين قبرص والبلاد العربية تتحرك وذلك بفضل التجار البنادقة، قال صالح بن يحيى، المتوفى نحو 850، في كتابه تاريخ بيروت: ثم بعد ذلك صار بعض مراكب الفرنج إلى بيروت بالمتاجر قليلا قليلا، وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرس فيرسل صاحب قبرس بضائعهم في شينيتين كانتا له إلى بيروت نقلة بعد أخرى، وكان للقبارسة كُنُسٌ ببيروت وجماعة تجار ساكنين ولهم خانات وحمَّامين، ثم بطل ذلك، وتكاثر حضور مراكب طوائف الفرنج.

 

ومع ذلك بقي ملوك لوزينان على عدائهم للدول الإسلامية المجاورة، وبقيت قبرص قاعدة تنطلق منها جيوش الفرنج للإغارة على سواحل الدولة الأيوبية ومن بعدها الدولة المملوكية، وفيها أمضى الملك لويس التاسع ملك فرنسا فصل الشتاء قبل أن يغزو دمياط بأسطوله سنة 646.

 

وبقيت العلاقات بين قبرص والمسلمين تغلب عليها الإغارة والنهب، ويقوم بها هذا الطرف ثم يتلوه الطرف الآخر، وعلى سبيل المثال أعد الملك المملوكي الناصر محمد بن قلاوون في سنة 702 حملة بحرية هاجمت قبرص وملكوا قلعتها وأخذوا جميع ما فيها من حواصل وسلاح، وأسروا تجاراً كانوا فيها ومعهم بضائعهم، ثم هدها المسلمون إلى أن صارت دكاً دكاً، وكانت أهم قلعة في الجزيرة ويسميها الفرنج عكا الصغيرة.

 

وفي المقابل نجد أنه في أيام الملك بيتر الأول هاجم الفرنج طرابلس في سنة 765  في أسطول بلغ 200 سفينة فنهبوا أسواقها وقتلوا أهلها قبل أن يهزموهم ويضطروهم للرحيل، وفي السنة التالية هاجم أسطول قبرصي مكون من 70 سفينة الإسكندرية في سنة 766، وسقطت المدينة لاستهانة مدافعيها بالخطر الداهم، واستباحها جنوده قتلاً ونهباً وحرقاً مدة تسعة أيام، قبل أن ينسحب ويعود إلى قبرص أمام الجيش القادم من القاهرة.

 

وفي سنة 827 أمر السلطان المملوكي الملك الأشرف برسباي بإعداد مركبين للإغارة على قبرص وأرسل فيهما 600 مقاتل، هاجموا ميناء فَماغوستا، ويسميه العرب الماغوصة، ونهبوا المنطقة ثم عادوا، ثم كرر ذلك في سنة 828 فأرسل حملة بحرية هاجمت قبرص واحتلت ميناء ليماسول، ويسميه العرب اللمسون، فنهبوا وقتلوا وأسروا ثم عادوا بعد قرابة أسبوعين.

 

واستنجد ملك قبرص جينوس بن جاك، بالفرنج فأنجدوه، وجاءته أكبر نجدة من ملك كتالونيا في أسبانيا الذي أرسل ابن أخيه، وبدأ جينوس يخطط لمهاجمة الإسكندرية انتقاماً من الهجمات المملوكية، وعلم بذلك السلطان فأعد في سنة 829 أسطولاً  من  200 قطعة مختلفة الحجم، هاجمت الجزيرة واحتلت ليماسول، وحاصرت نيقوسيا، ويسميها العرب الأفقسية، تعريباً لاسمها اليوناني لِفكوسيا، وكانت تحت سيطرة البنادقة الذين صالحوا الجيش المملوكي، وأخبروه أن جانوس قد أعد جيشاً من 5.000 فارس و7.000 راجل، فراسله المسلمون أن يدخل تحت طاعة السلطان برسباي  ليؤمنوه على نفسه وجنده وبلده، ولكنه قتل الرسول وأحرقه، فهاجمه المسلمون براً وبحراً وأسروه وأخذوه للقاهرة، وقد ذكرنا تفاصيل ذلك في أحداث الحادي والعشرين من ربيع الأول من سنة 831، ومن يومها أضحت قبرص تؤدي الجزية للسلطان المملوكي في القاهرة، وتخبره بأخبار الحملات الصليبية المتوجهة نحو بلاده، وأضاف السلطان إلى ألقابه: ملك قبرص.

 

وفي أيام المماليك ازدهرت التجارة مع الهند وصارت مصر صلة الوصل بين تجار الكارم القادمين من الهند بالتوابل والحرير والنفائس وبين تجار البندقية وجنوة القادمين إلى مصر ليعودوا منها بهذه البضائع، وبسبب ذلك صارت للجزيرة أهمية جديدة بسبب موقعها، فقامت جنوة باحتلال ميناء فماغوستا واتخذته مرسى لسفنها التجارية، ولتضمن استباب الأمر سجنت الملك وأسرته في جنوة، وحذت البندقية حذوها في ليماسول، وفي سنة 877 تحولت الجزيرة لتصبح تابعة لجمهورية البندقية.

 

وسبب ذلك أن الملك القبرصي جيمس الثاني بعد أن عاد للحكم وطرد الجنويين بمساعدة عسكرية من الدولة المملوكية في مصر، أراد أن يوطد صلاته مع البندقية لتدعمه في نزاعه مع الجنويين، فتزوج في سنة 876 بنبيلة شابة من البندقية تدعى كاترينا كورنارو، وتوفي الملك بعد زواجه بقليل فانتقل الملك إلى ابنه الذي ولد بعد وفاته، ولكن أسقف نيقوسيا استولى على الجزيرة بمساعدة حلفائه من نابولي في إيطاليا، وسجن الملكة كاترينا، فتدخلت البندقية وأعادت الملكة وابنها، ولكن الولد توفي بعد شهور لتتولى والدته العرش، وبدأ نفوذ جمهورية البندقية في الزيادة وتسلط رجالها على أمور الحكم، إلى أن أقنعوها في نهاية الأمر بالتخلي عن الجزيرة لجمهورية البندقية في سنة 894، فعادت إلى البندقية التي استقبلتها بالتكريم ومنحتها إمارة مدينة صغيرة في إيطاليا.

 

وبعد سقوط دولة المماليك وانضمام مصر إلى الدولة العثمانية، حافظت البندقية على علاقات جيدة مع السلطان لضمان تجارتها القائمة بين قبرص وبين مصر، وأمضت البندقية معاهدات تجارية مع الدولة العثمانية شملت دفع مبالغ لقاء عدم الاعتداء على موانئها وتجارتها في قبرص وغيرها من الجزر.

 

وفي سنة 978=1570 استولى العثمانيون في عهد السلطان سليم الثاني على قبرص، حيت أرسل الصدر الأعظم محمد باشا صقللي حملة بحرية في بحر اليونان والبحر الأدرياتيكي استولت على بعض موانئها، وشكل حملة مكونة من 100.000 جندي لفتح جزيرة قبرص، فاستولت على ليماسول ثم نيقوسيا ثم حاصرت فَماجوستا وفتحتها بعد قرابة سنة، وأصبحت الجزيرة عملياً في قبضة العثمانيين، وكان العثمانيون متسامحين جداً في اتفاق الاستسلام الذي عقدوه مع حامية فماجوستا، ولكن قام بعض البنادقة بقتل حجاج مسلمين كانوا محتجزين في ثكنة فماجوستا، فكان رد الفعل العثماني قاسياً جداً، فقد قطعوا رؤوس 5 من قادة البنادقة ثم أتوا بالحاكم العام مارك أنطونيو براجادين الذي أمر بقتل المسلمين فسلخوه حياً ثم حشوا جلده تبناً وساروا به في موانئ الأناضول.

 

واستنجد البنادقة بالقوى الأوروبية لتكوين تحالف يواجه العثمانيين، واستطاعوا إنشاء تحالف ضم البابا بيوس الخامس الذي جمع بين السلطة الدينية والقوة الدنيوية فقد كانت له دولة ذات سطوة وعساكر، وضم كذلك الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا، وضم من إيطاليا جمهورية جنوا ودوقيات توسكانيا وسافويا وأوربينو وبارما، وفرسان القديس يوحنا من مالطة، وأسموا هذا التحالف: العصبة المقدسة.

 

ووقعت معركة كبيرة بين أسطول العصبة المقدسة وبين الأسطول العثماني في خليج ليبانتو باليونان، وذلك في 17 جمادى الأولى سنة 979= 7/11/1571، وانجلت المعركة عن خسارة فادحة للأسطول العثماني، إلا أنها لم توقف التوسع العثماني في البحر المتوسط، وبقيت الجزيرة في يد الدولة العثمانية، ولم يطل الأمر حتى وقعت البندقية اتفاقاً مع الدولة العثمانية في 3 ذي القعدة سنة 980=7/3/1573 تنازلت فيه رسمياً عن جزيرة قبرص.

 

وفي الجملة كان زوال الحكم البندقي خسارة كبيرة للجزيرة التي شهدت في عهد البندقية أكثر أيامها ازدهاراً ورخاءً، وما لبثت قبرص أن فقدت أهميتها كمحور في تجارة البحر المتوسط، وذلك لأن التجارة الأوروبية مع الهند والشرق تحولت إلى الدوران حول أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، وكان رواد هذه التجارة البرتغاليين والإسبان والهولنديين وتخلفت عن ريادتها أو اللحاق بها الدولة العثمانية التي خالت أنها في غنى عن عن أرباح هذه التجارة بما كانت تدره ممالكها الشاسعة.

 

وبعد فتح العثمانيين لجزيرة كريت ضعف مركز الجزيرة أكثر، وتحولت من ولاية إلى سنجق في ولاية جزاير البحر الأبيض؛ إيالت جزاير بحر سفيد، وتقلب وصفها الإداري بين ولاية وسنجق ومتصرفية ومتسلمية، ونعمت بفترات منحتها فيها الدولة العثمانية استقلالاً شبه ذاتي، كما شهدت الجزيرة  أزمنة تراوحت بين الشدة وبين الرخاء وفقاً لمزاج الوالي وشخصيته، ولم يمنع ذلك أن يكون لقبرص نصيب مما أنشأه العثمانيون في ولاياتهم من المرافق والمنشآت العامة الاقتصادية والزراعية، إلى جانب القلاع والحصون والمساجد والمدارس والتكايا.

 

واستوطن الجزيرة عدد قليل من الأتراك تدريجياً، وزاد عدد مسلميها بفضل اعتناق كثير من القبارصة للإسلام، وهي ظاهرة تشبه ما حدث في البوسنة، وحافظت الدولة العثمانية على مكانة أسقف نيقوسيا واعتبرته رئيس القبارصة اليونان ومرجعهم لديها، فأضحى مع مرور الزمن رئيس القبارصة الأرثوذكس الديني وزعيمهم السياسي، وكان إلى جانب الأسقف مساعد سمي بالترجمان، يختاره الأسقف من غير القساوسة، وينوب عنه في كثير من القضايا.

 

واستمرت جزيرة قبرص تحت الحكم العثماني 300 سنة ونيف، أضحت في نهايتها ولاية صغيرة من الولايات العثمانية الشاسعة، وأصبحت في أواخر أيام الدولة العثمانية منفى للمغضوب عليهم في استانبول، ولم تعد لها أهميتها السابقة، فقدمتها الدولة العثمانية عربوناً لتحالفها مع بريطانيا كما رأينا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين