حدث في الثالث من ربيع الأول مبايعة السلطان عثمان الثاني

 

في الثالث من ربيع الأول من سنة 1027=28/2/1618 بويع في إستانبول السلطان عثمان الثاني، عن سن يناهز 15 عاماً، وهو بذلك أصغر سلطان في تاريخ الدولة العثمانية، ولذلك يقول له الأتراك: عثمان جنك، أي الصغير.

 

ولد السلطان عثمان في إستانبول سنة 1012 = 1603، وهو أول سلطان عثماني يولد فيها، ووالده هو السلطان أحمد الأول باني المسجد المعروف، وأمه محظية يونانية الأصل اسمها ماريا اعتنقت الإسلام وتسمت بخديجة وكان لقبها السلطاني ماه فيروز، وكان عمرها عند ولادة ابنها عثمان 14 سنة، ومع صغر سنها، اهتمت كثيراً بتعليم ابنها البِكر عثمان، حتى قيل إنه تعلم اللغات التركية والعربية والفارسية واللاتينية والإيطالية، وكان يكتب الخط بالقاعدة الفارسية، وتوفيت والدته سنة 1030 في سلطنته، وكان مُدرِّسه منذ بلغ السابعة المولى عمر أفندي زاده الشهير بخواجه زاده، والمدرس بجامع أياصوفيا.

 

ومكث والده السلطان أحمد مدة 14 سنة في الحكم، ولما توفي، عن 27 عاماً، في 13 ذي القعدة 1026=12/11/1617، خلف أربعة من الذكور هم عثمان ومحمد ومراد وإبراهيم، وكانوا صغاراً أكبرهم عثمان في الرابعة عشرة، وحيث لم تكن في الدولة العثمانية قاعدة تقضي أن يخلف الابن أباه، فقد قرر أهل الحل والعقد، وعلى رأسهم آغا مصطفى كبير أغوات القصر والمفتى أسعد التبريزي، أن يجعلوا على عرش السلطنة العثمانية، أميراً أكبر، فجاءوا بمصطفى أخي السلطان أحمد، وعم الفتى عثمان، وكان عمره 25 عاماً.

 

وما لبث أن اتضح أن السلطان مصطفى كان ذات قدرات ذهنية محدودة، لا تجعله مهيئاً لمنصب الخلافة، فقد كان ينفق الأموال دون أية اعتبارات، وكثيراً ما ركب إلى أماكن بعيدة من غير موكب أو حراسة، وكان لا يأكل الأطعمة الدسمة، وإنما كان يأكل الكعك الناشف واللوز والبندق وأنواع الفواكه، وكان لا يدري من أحوال الملك إلا ما أُلقيَ إليه، وذلك إلى جانب أنه قضى طول عمره داخل الحريم السلطاني، ولم يمارس من إدارة الدولة وأمور المملكة شيئا، فقد كان السلطان محمد الثالث، المتوفى سنة 1012، كان قد أمر بأن يبقى أمراء بني عثمان في القصور، وأبطل التقليد الذي كان سارياً بأن يعينوا أمراء على البلدان والولايات فيتمرسوا بشؤون الدولة وأساليب الحكم.

 

ولما رأى أركان الدولة أن أمورها لا تنتظم بولاية السلطان مصطفى، دبروا خلعه بعد 100 يوم، وعزلوه في 3 من ربيع الأول سنة 1027= 1/2/1618، وأقاموا مكانه عثمان ابن السلطان أحمد ولقبوه بعثمان الثاني، وتلك أول مرة يتم فيها خلع سلطان عثماني.

 

وتصف كتب التاريخ كيف حصل انقلاب القصر وكيف أُتيَ بالسلطان الجديد من الحريم، فيقول المحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: وذهب مصطفى آغا إلى السلطان عثمان في مجلسه الذي هو فيه، وهو المحل الذي كان عمه مصطفى فيه في حياة أخيه السلطان أحمد، وفتح عليه الأبواب فحصل له رعب وتخوف من أن يكون عمه أرسله ليقتله، فقال له: لا تخف أنت صرت سلطاننا. فلم يصدق ذلك، فصار يحلف له، ولا زال يتلطف به إلى أن ألبسه ثياب الملك، وأدخله إلى قاعة العرش، وأجلسه على العرش، وقَبَّلَ يده، وصار يفتح أبواب القصر باباً باباً، ويُدخِل من كان داخل الأبواب للمبايعة، حتى لم يبق أحد بغير مبايعة، هذا كله والسلطان مصطفى نائم عند والدته، ثم أرسل مصطفى آغا للمفتي وقائم مقام الوزير فحضرا وبايعا، ثم ذهبوا إلى السلطان مصطفى قبل الفجر، فطلبوه من الداخل فخرج إليهم وقال: ما جاء بكم في هذا الوقت؟ فكان أول من تكلم شيخ الإسلام أسعد التبريزي، فقال له: إن أمر المملكة اختل، وإن الأعداء تسلطت علينا، ونحن نخشى ضياع الملك، وأنت لست بلائق للسلطنة. فأجابه: أنا ما طلبت منكم الملك، ولا أردته، وليس لي به مصلحة. فقالوا: لا نكتفي بقولك هذا، ولابد أن تذهب وتبايع ولد أخيك السلطان عثمان، فإنا قد أجلسناه على العرش. فقال: جعله الله مباركاً، وأنا ليس عندي مخالفة. وذهب وبايع السلطان عثمان، فقالوا: الآن نحضر جميع الوزراء وأركان الدولة، وأشهِدْ على نفسك بالخَلع، فقال لهم: أفعل ذلك. فأرسلوا أحضروا الوزراء وقاضي العسكر، وكتبوا عليه حجة بخلع نفسه وتولية السلطان عثمان، ونودي بذلك بين الناس وفي سائر أنحاء السلطنة.

 

ولما تولى السلطان عثمان الثاني عرش المملكة ظهر نضوجه السياسي في تقييمه للمخاطر الداخلية والخارجية التي تتهدد الدولة، فقد كان أول السلاطين الذين أدركوا هشاشة الوضع الداخلي، وضعف السلطنة بسبب مكايد رجال القصر وتلاعبهم بالسلاطين، وكذلك بسبب انحلال الجيش الإنكشاري وتدخله المستمر في أمور الحكومة، وما رافق ذلك من فساد في كل إدارات الدولة وطبقاتها.

 

وكان أول ما عمله السلطان أن بسط نفوذه على الديوان ورجاله، فأبعد آغا مصطفى والياً على مصر، وأتى بعلي باشا، المولود سنة 989، والذي كان والياً على دمياط وتونس من قبل، وكان آخر مناصبه رئاسة الأسطول، فرقاه إلى منصب الصدر الأعظم في سنة 1028=1619، وكان قد نجح في إدارته لمالية السلطنة ووفر الأموال في خزائنها بعدما خوت منها، كذلك أصدر عثمان الثاني أمرا بحصر اختصاصات المفتي في الشؤؤون الدينية، ونزع ما كان له من السلطة في تعيين وعزل الموظفين، وجعل وظيفته قاصرة على الإفتاء حتى يأمن شر دسائسه التي ربما تكون سببا في عزله كما كانت سبب عزل سلفه.

 

واتجه عثمان الثاني كذلك للإصلاح الاجتماعي، فمنع زراعة وبيع واستعمال التبغ، وأمر بإغلاق حانات الخمر ودار عليها بنفسه وقفل أبوابها وطرد أصحابها، وكانت معيشته بسيطة بعيدة عن فخامة وتعقيد أسلافه، فكانت ملابسه خفيفة وبسيطة مقارنة بملابس الخلفاء من قبله.

 

ولقيت هذه التغييرات والتنقلات معارضة قوية من مراكز النفوذ التي تضررت تضرراً بالغاً بوجود سلطان صاحب عزيمة ونظر وخطة، وإزاء هذه المقاومة ارتأى عثمان الثاني أن يقوي مركزه بأن يحيي التقليد العثماني السابق والقاضي بأن يقود السلطان شخصياً جيوشه في ساحات القتال، مثلما فعل أجداده العظام محمد الفاتح وسليمان القانوني. 

 

وعلى صعيد العلاقات الخارجية، كان أول ما واجهه السلطان من مشاكل مشكلة ورثها عن سابقه السلطان مصطفى، وكادت بسببها أن تنشب الحرب بين الدولة العثمانية وفرنسا، فقد كان أحد نبلاء بولندا مسجوناً لدى الدولة العثمانية، فساعده على الهروب كاتم أسرار السفارة الفرنسية، فقام القائمون على أمر السلطنة بسجن كاتم السر والمترجم والسفير، فاحتجت فرنسا على هذا التصرف وبدأت تؤلب القوى الأوروبية والشعوب المسيحية الواقعة داخل الدولة العثمانية، فاتجه السلطان عثمان الثاني لحل الأزمة وأمر باطلاق قنصل فرنسا وكاتبه ومترجمه، وأرسل مندوباً لملك فرنسا لويس الثالث عشر برسالة اعتذار عما حصل من الإهانة لسفيره.

 

وحقق السلطان إنجازاً آخر في الشرق مع الدولة الصفوية في إيران، فقد كانت الدولة العثمانية قد أبرمت قبل ست سنوات معاهدة معها تنازلت لها فيها عن أراض في عراق العجم والقوقاز، وهي المعاهدة التي تعرف بمعاهدة نصوح باشا، والتي حددت حدود إيران مع المشرق العربي، ولكن شاه إيران عباس الأول رفض الالتزام بالاتفاقية بعد ثلاث سنوات من توقيعها، فنشبت حرب بينه وبين الدولة العثمانية دامت 3 سنوات، ولما أصبح من الواضح أن الجيوش العثمانية ستهاجم أردبيل جنح الشاه للسلم ووقع في شوال 1027معاهدة جديدة مع الدولة العثمانية تعرف بمعاهدة سراب.

 

وفي تلك السنة؛ 1027=1618، نشبت في أوروبا الحرب التي سميت حرب الثلاثين سنة، والتي بدأت عندما أراد فرديناند الثاني، إمبراطور الإمبراطورية الألمانية المقدسة، وبصفته ملك بوهيميا، فرض الديانة الكاثوليكية على ممالكه، فثار عليه أشراف بوهيميا والنمسا من البروتستانت، وتوسع الأمر ليصبح سلسلة متصلة من الحروب بين الدول الأوروبية الطامعة والمطموع فيها، ولم يخض العثمانيون هذه الحروب، ولكنهم تعرضوا لها من خلال الإمارات التابعة لهم، مثل مولدافيا وترانسلفانيا والأفلاخ، وهي اليوم مولدوفا ووسط وجنوب رومانيا، والتي كانت تشكل منطقة عازلة بين الدولة العثمانية وبين الاتحاد البولندي الليتواني.

 

وكانت العلاقات بين الدولة العثمانية وبين جارتها بولندا في الشمال علاقات طيبة، ولكن ذلك تغير عندما غزا جيش بولندي مولدافيا في سنة 1027=1620 لمساعدة حاكمها المعزول، وفي الجوار كانت أسرة باثوري البروتستانية تحكم ترانسلفانيا، وخشي ملكها جابور بتلن أن يكون هو التالي، فاستنجد بالعثمانيين من تدخل بولندا الكاثوليكية في المنطقة، فشن السلطان حملة عسكرية حققت انتصاراً باهراً في معركة طوطورا Tutura وأخذ قلاعاً متعددة وغنائم وفيرة، وأخذ الجزية منهم عن ثلاث سنين، وعاد إلى مقر خلافته وقد تمكنت هيبته وقويت شوكته، وأنعم على العساكر إنعامات عظيمة.

 

وقبل أن يشرع السلطان عثمان الثاني في هذه الحملة أراد أن يوطد أركان ملكه ويقضي على مراكز القوى والتهديد الداخلية، خشية انقلاب يقع في غيابه، فأراد قتل أخيه الأمير محمد اتباعا للعادة الذميمة التي سار عليها كثير من السلاطين العثمانيين؛ كان إذا تولى السلطان منهم يأمر بقتل إخوته أو يحجزهم في السراي كي لا يكون منهم منازع له في الملك، قال محمد فريد وجدي في تاريخ الدولة العلية: وهي عادة مستقبحة جدا لما فيها من قتل أقرب الناس بلا ذنب أو جرم، إلا ما يخيله لهم الوهم من الخوف على الملك والاستئثار به، ولو أنهم استخدموا إخوتهم في المناصب العالية لا سيما قيادة الجيوش، لحفظوا هيبة الدولة وأخلصوا في خدمتها أكثر من المماليك أو الإفرنج الذين ربما اعتنقوا الدين الإسلامي ودخلوا في خدمة الدولة أعداءً في لباس أصدقاء لتنفيذ أغراض دولهم.

 

وأراد السلطان استصدار فتوى من مفتى السلطنة شيخ الإسلام أسعد أفندي التبريزي، المولود سنة 978 والمتوفى سنة 1034،  فرفض، فذهب إلى مفتى روم ايلي، وهو يلي شيخ الإسلام في المرتبة، فأفتاه بذلك، فأمر بقتله خنقاً بالوتر، ويقال إن محمد قال لأخيه السلطان: بالله عليك لا تدخل في دمي، ولا تجعلني خصمك يوم القيامة، وأنا أقنع منك برغيف. فما كان من جوابه إلا الأمر بخنقه فخنق، وكان آخر كلام قاله المقتول: سلَّطَ الله عليك من لا يرحمك. وأثار هذا المقتل المفجع استياء الرأي العام، وبذر كراهية السلطان عثمان في نفوس الناس، وبخاصة أن الأمير المقتول لم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره، وفي تلك الأيام اشتد البرد حتى جمد بحر مرمرة بين إستانبول وأُسكدار، ومرَّ على الجليد أناس من أسكدار إلى إستانبول، وهو أمرٌ لم يتفق في زمن من الأزمنة! وأعطب الصقيع المزروعات وارتفعت أسعار الطعام والمؤن ارتفاعاً لم يسبق له مثيل، وربطه كثير من الناس بمقتل الأمير.

 

وشجع السلطانَ عثمان انتصارُه في مولدافيا على بولندا أن يعلن الحرب علىها، فقد استمر تدخلها في شؤؤن الولايات العثمانية في البلقان، وكانت تشجع القوقازيين على التمرد والإغارة، وطمح السلطان في ضم بولندا إلى الولايات العثمانية ذات الاستقلال الذاتي، والوصول إلى بحر البلطيق، مطوقاً المملكة الروسية التي ابتدأت في القوة والظهور.

 

وأعد السلطان جيشاً تعداده مئة وعشرين ألف جندي - وتقدره المصادر العربية بستمئة ألف - لمحاربة مملكة بولندا، والتقت الجيوش بالقرب من بلدة شوكسيم  شمالي مولدافيا، وهي اليوم Khotyn في جنوبي أوكرانيا، وانضم إلى البولنديين التتار وفرسان القوزاق الأكرانيين، واستطاعوا، وهم أقل عدداً وعدة، إيقاف تقدم الجيش العثماني مدة شهر كامل حتى حلول فصل الخريف وتساقط الثلوج، وحاول العثمانيون اختراق الدفاعات عدة دفعات متوالية دون أن يحققوا انتصاراً يذكر، وذلك رغم مقتل القائد البولندي يان كارول تشودكيويز في المعارك، ثم بدأت قوات الإنكشارية في التذمر وطالبت بإيقاف القتال، وكان البولنديون كذلك يرغبون في الصلح بعد مقتل قائدهم، وهكذا عقد الطرفان هدنة خوتين في آخر عام سنة 1030 = أكتوبر سنة 1621، ثم وقعا معاهدة سلام في السنة التي تليها، وكان ذلك في الواقع فشلاً للدولة العثمانية، وقد خلَّد هذا الصمود والانتصار البولندي الكاتب الكرواتي إيفان جوندوليك Ivan Gundulic المتوفى سنة 1638 في ملحمته عثمان التي كتبها عام 1626.

 

وعاد السلطان إلى استانبول مع قناعة تامة أنه لم يحقق ما كان يتوخاه من انتصارات بسبب الإنكشارية وتحولهم من قوة مقاتلة إلى مرتزقة يطلبون الراحة ويخلدون إلى الكسل، وعزم على حلِّ هذه القوات المشكَّلة من الأرقاء الصغار في أقرب وقت، وأن يشكل جيشاً جديداً من أبناء السلطنة في الأناضول والشام ومصر، وطلب من وِلاته فيها الاستعداد لتجنيد الشبان فيها ليتم تنظيمهم وتدريبهم على القتال حتى إذا استكملوا ذلك استعان بهم على إبادة الإنكشارية.

 

وشرع عثمان الثاني فعلا في تنفيذ هذا المشروع، وغطى ذلك بإعلانه في رجب سنة 1031 عزمه على الحج، ليكون أول سلطان عثماني يؤدي هذه الفريضة، وأمر بالخيام والمضارب السلطانية أن تضرب في أُسكدار، وشعر كبار أهل الدولة بالخطر من أنه يبيت أمراً لا خير لهم فيه، وأنه إذا وصل بلاد الشام ومصر كان خارج تأثيرهم وسيطرتهم، فدخلوا عليه وأشاروا عليه بترك الرحيل، وخوفوه وقالوا: إنك غزوت الفرنج وقتلتهم وسبيتهم، وفي قلوبهم منك أمر عظيم، فنخاف إن سافرت وتركت قاعدة المملكة وعاصمتها إلى الحجاز أن تَثِبَ -  مع بُعْدِ المسافة - الفرنج على المملكة، ويصعب خروجهم منها، ثم إن هذا ليس من تقاليد آبائك وأجدادك. فلم يستجب لطلبهم وصمَّم على العزم إلى الحج، وحاول شيخ الإسلام أن يثني عزمه قائلاً: إن الجهاد أهم من الحج. ولكن السلطان رفض كل ذلك.

 

واجتمع جنود الجيش الأوسط في قلب استانبول مطالبين بقتل الصدر الأعظم ديلاور باشا والملا عمر أفندي معلم السلطان، لأنهما في نظرهم أثَّرا على السلطان عثمان الثاني، وجعلاه يفعل ما فعل، وترضية للجنود، أعلن السلطان تخليه عن الحج، ولكنه رفض أن يسلمهم الصدر الأعظم أو معلمه ليقتلوهم، فاستمروا في العصيان، وهاجموا في اليوم الثالث، 7 رجب سنة 1031، السرايا السلطانية، وأخرجوا عمه مصطفى ونادوا به سلطانا للمرة الثانية، وأجبروا من حضر من المشايخ أن يبايعوه.

 

وجرى ذلك دون علم السلطان عثمان الذي كان قد خرج متنكراً إلى منزل رئيس الإنكشارية وأمره بالذهاب إلى الثائرين واسترضائهم بوعدهم بشيء من العطايا المالية السلطانية، فلما ذهب إليهم ما كان منهم إلا أن قتلوه، وهجموا على بيت القائد وأخرجوا منه السلطان، وقادوه قهرا إلى ثكناتهم، موسعيه سبّاً وشتما وإهانة مما لم يسبق له مثيل، ثم نقلوه إلى قلعة يدي كوله في جنوب غرب إستانبول.

 

وصدر أمر بتعيين داوود باشا صهر السلطان مصطفى في منصب الصدر الأعظم، فكان من أول أعماله أن ذهب عصر ذلك اليوم إلى محبس السلطان وأمر بقتله خنقاً، فمات وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكانت مدة حكمه أربع سنين وأربعة اشهر.

 

وأصبحت الحكومة ألعوبة في أيدي الإنكشارية ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم، فعزلوا داوود باشا قاتل السلطان بعد بضع أيام، وصاروا يمنحون المناصب لمن يجزل إليهم العطايا، ولما بلغ خبر قتل السلطان إلى الولاة، وانتشرت بينهم أخبار الفوضى السائدة في الآستانة، أشهر والي طرابلس الشام استقلاله وطرد الإنكشارية من ولايته، ونهض والي أرضروم أباظة باشا يدعو للانتقام للسلطان عثمان من الإنكشارية، وسار إلى سيواس وأنقره واستولى عليهما، وقتل الإنكشارية وصادر أموالهم وإقطاعاتهم، وانضم إليه والِيا سيواس وسنجق قره شهر، واستمر أباظة باشا في حملته حتى استولى على بورصة، واستمرت هذه الاضطرابات الداخلية مدة 18 شهرا، تولى على إثرها كمانكش على باشا منصب الصدر الأعظم، فأشار بعزل السلطان مصطفى ثانيا لضعف عزيمته ووهن قواه العقلية، فعزلوه في آخر سنة 1032، وولوا مكانه السلطان مراد الرابع.

 

كان السلطان عثمان الثاني وسيم الشكل بهي الطلعة، له - رغم ما فعله بأخيه- أدب وحياء وعرفان، وفيه شجاعة وفروسية، وكان ينظم الشعر بالتركية، وتزوج من ابنة شيخ الإسلام المولى أسعد، ولم يتفق لأحد من السلاطين قبله أن تزوج بحُرَّة إلا لجده الأعلى وسَمِيِّه السلطان عثمان الأول، أما غيرهما فقد اقترنوا بمحظيات من حريم القصور.

 

كان السلطان عثمان ذا صلاح وتعطف وخشوع، وكان إمامه دمشقياً هو الشيخ القارئ يوسف بن أبي الفتح بن منصور بن عبد الرحمن السقيفي الدمشقي الحنفي، أعطاه الله تعالى ما لم يعطه لأقرانه من الذكاء وحسن الطبع ولطف الشعر وحلاوة المنطق وحسن الصوت، وولي في أول أمره خطابة السليمية بدمشق، ثم سافر إلى الروم وأقام بها مدة اشتهر بها أمره وشاع وملأ خبر فضله وحسن صوته الأسماع، فسمع به السلطان فاستدعاه، فوصل والسلطان يحاصر إحدى القلاع ففتحها في اليوم الثالث لوصوله، فاعتقد أن ذلك الفتح ببركة قدومه، وقدَّمه في المكانة، فلما قُتِلَ السلطان عثمان عاد إلى دمشق وباشر الخطابة في الجامع الأموي، ودرس في المدرسة السليمية يفتي ويدرس ويخطب إلى سنة 1044، ثم أصبح فيما بعد إمام السلطان مراد وأخيه السلطان إبراهيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين