حدث في الثاني والعشرين من ربيع الأخر وفاة السلطان محمود بن سبكتكين

 

صفحات خالدة من تاريخ الإسلام خطها شعب أفغانستان المؤمن

 

في الثاني والعشرين من ربيع الآخر من سنة 421 توفي في غَزْنَة بأفغانستان، عن 60 سنة، السلطان يمين الدولة محمود بن سُبُكتكين الغزنوي، صاحب خراسان وفاتح الهند. قال عنه المؤرخ عبد الغافر الفارسي: كان صادق النيّة في إعلاء كلمة الله تعالى، مظفّراً في غزواته، ما خلت سنة من سني ملكه، عن غزوة أو سفرة، وكان ذكيّاً، بعيد الغور، موفق الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء. وقال ياقوت الحموي عن بلده غزنة: وقد نُسِب إلى هذه المدينة من لا يعدُ ولا يُحصى من العلماء، وما زالت آهلة بأهل الدين ولزوم طريق أهل الشريعة والسلف الصالح.

 

ولد محمود سنة 361 وكان الابن الأكبر لوالده سبكتكين، الملقب ناصر الدولة والمكنّى أبا منصور، والذي صار في نحو سنة 367 أميراً على غزنة برغبة أهلها، وتقع غزنة في وسط جنوب أفغانستان، وذلك أنه كان قد جاءها في جملة أمراء وال لها يدعى ألب تكين، وكان سبكتكين حاجبه وعليه تدور أموره، وما لبث الوالي أن توفي، واحتاج الناس إلى من يتولى أمورهم، فاتفقوا على تأمير سبكتكين لما رأوا فيه من العقل والشهامة والصرامة، وأحسن هو السيرة فيهم، وجعل نفسهم كواحدهم في الحال والمال، وكانت الدولة السامانية هي القائمة في المنطقة فتصرف سبكتكين على أنه تابع لها.

 

ولما تمكن سبكتكين واشتد ساعد دولته، بدأ في التوسع التدريجي في أفغانستان وخراسان ثم بدأ في الإغارة على أطراف الهند، ومما فتحه في أفغانستان ناحية بُست، وضم إليه منها الشاعر الأديب أبا الفتح البستي، صاحب القصيدة المشهورة، وصار هو صاحب ديوانه والقائم بأموره، وتوفي سبكتكين سنة 387، وكان في مدينة بلخ، وهي اليوم مزار شريف في شمال شرق أفغانستان، فمرض وأمر بالعودة إلى غزنة، فأدركته المنية في طريق عودته.

 

وكان سبكتكين عادلاً خيِّراً، حسن الاعتقاد، فاضلاً عارفاً، له نظم ونثر، وخَطَبَ في بعض الجُمع، وكان يقول بعد الدعاء للخليفة، الآيات من سورة يوسف: رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

 

وكان أول منصب كبير تولاه الأمير محمود هو ولاية خراسان في سنة 384، فقد استعان الملك نوح بن منصور الساماني بوالده سبكتكين لمواجهة أيلك خان ملك ما وراء النهر، واسمه أبو نصر أحمد بن علي، والذي تحالف مع متمردين عليه، فسار إليه سبكتكين وهزمهم معه،  ومكافأة على ذلك جعل نوح الأمير الشاب محمود واليه على نيسابور وخراسان ، ولقبّه بيمين الدولة.

 

ولما توفي سُبُكتكين في سنة 387، نشب نزاع بين ولديه على ولاية العهد، فقد كان الأب قد جعل وليَّ عهده من بعده ولدَه الأوسط إسماعيل، وأوصى إليه بأمر أولاده وعياله، وجمع وجوه حجابه وقواده على طاعته ومتابعته، فلما تسلطن إسماعيل في غزنة، وتحكم ببيوت الأموال، كتب إليه أخوه محمود يذكره بقاعدة تقديم الكبير في الولاية، وقال له: إن أبي لم يستخلفك دوني إلا لكونك كنتَ عنده وأنا كنتُ بعيداً عنه، ولو أوقف الأمر على حضوري لفاتت مقاصده، ومن المصلحة أن نتقاسم الأموال بالميراث، وتكون أنت مكانك بغزنة وأنا بخراسان، وندبر الأمور ونتفق على المصالح كيلا يطمع فينا عدو، ومتى ظهر للناس اختلافنا قلت حرمتنا. فأبى إسماعيل أن يجيبه إلى طلبه، وكان فيه لين ورخاوة، فطمع فيه الجند وتشغبوا عليه وطالبوه بالأموال، فاستنفد في مرضاتهم الخزائن.

 

وتحرك محمود بجنوده إلى هَرَاة في شرقي أفغانستان، وجدد المحاولة مع أخيه فلم يلق منه إلا رفضاً أشد، فدعا محمود عمه بغراجق إلى موافقته فأجابه؛ وكان أخوه الآخر أبو المظفر نصر بن سبكتكين أميراً بناحية بُست في جنوب أفغانستان، فسار إليه وعرض عليه الانضمام إليه فوافق دون تردد، وسار محمود مع عمه وأخيه بجيش كبير إلى أخيه إسماعيل في غزنة، وحاصرها حصاراً شديداً حتى فتحها، وانحاز إسماعيل إلى قلعتها متحصناً بها، ثم تلطف في طلب الأمان من أخيه محمود فأمّنه، وتسلم منه مفاتيح الخزائن، وجعله محجوراً عليه في بعض الحصون مرفهاً موسعاً عليه، وكانت مدة حكمه سبعة أشهر.

 

وصدف في تلك السنة، سنة 387، أن توفي أمير خوارزم مأمون بن محمد، وخلفه ابنه علي، فراسل محمودَ بن سبكتكين، وخطب إليه أخته، فزوجه، واتفقت كلمتهما وصارا يداً واحدة، وصار الدعاء في الخطبة للسلطان محمود والملك مأمون، وبقيت العلاقة بين الدولتين وثيقة سنوات عديدة بفضل هذه المصاهرة وأخرى تلتها، حتى اغتالت الحاشية الملك مأمون في سنة 407، فغضب السلطان محمود وسار بجيشه إليهم والتقى بهم خارج خوارزم، وهزمهم هزيمة مبينة، وضم خوارزم إلى مملكته، ونقل جزءاً كبيراً من أهلها ليتوطنوا في الهند.

 

ورتب محمود في غزنة نواباً له لإدارتها ثم سار شمالاً إلى بلخ، ودخل في دور جديد من التوسع على حساب الدولة السامانية، التي كان موالياً لها منافحاً عنها أمام اثنين من المتمردين الطامعين، وبدأ خلافه معها عندما أخلف الملك منصور بن نوح الساماني وعده فجعل غيره والياً على خراسان، بعد أن كان واليها في حياة والده، فلما طلب منه ذلك اعتذر إليه وأمره أن يأخذ ترمذ وبلخ وهراة وبُست، وهو شريط يغطي شمال أفغانستان وجنوب غربيها اليوم، فلم يرض بذلك محمود وسار إلى نيسابور ودخلها بعد أن هرب واليها.

 

وأعد الملك منصور جيشاً ليسير به نحو نيسابور، فبادر محمود بالمسير نحوه وترقبه، ولكن الحاشية قامت في سنة 389 بخلع الملك منصور، وتنصيب أخيه عبد الملك وهو صغير، فضعفت أحوال الدولة واضطربت أمور الناس، فواتت الفرصة محمود فسار إليهم وجرت بينه وبينهم حروب انتصر فيها، وانتهت دولتهم  بعد قرابة 100 من قيامها، وتمَّ لمحمود ملك بلاد خراسان وأفغانستان، وتلقب بالسلطان، وهو أول من تلقب به في الإسلام، واعترف به الخليفة العباسي القادر بالله، وأرسل له من بغداد خلعة السلطنة، وأحسن محمود إلى أمراء خراسان الذين غلبهم، وجعل أخاه نصراً في مدينة نيسابور أميراً على خراسان.

 

واتجه محمود جنوباً إلى سجستان في جنوب أفغانستان، وكان عمه من قبل والياً على بوشنج وهراة فأخذها منه خلف بن أحمد ابن الليث الصفّار السجستاني، فلما حقق هذه الانتصارات رغب في استعادتها ، وسار إليها في سنة 390، فأرسل له الملك خلف ابنه طاهراً، فاشتبكا وقُتِل عم محمود في المعركة، فسار السلطان محمود إلى الملك خلف بن أحمد فحاصره وضايقه حتى نزل إليه بالأمان وصالحه، وعهد خلف بالأمر لابنه طاهر، الذي ما لبث أن استخف بوالده وخالف أوامره، فجلبه إليه بحيلة ثم قتله، وأدى ذلك إلى تمرد الجيش على خلف، ومراسلتهم للسلطان محمود، فسار إليه في سنة 394 وحاصره حتى استسلم، فبعثه مكرما إلى الجوزجان، ثم بعد أربع سنين نمى إلى علم السلطان أنه يكاتب ملك ما وراء النهر إيلك خان، فجعله في سجن في قرية غرديز قرب غزنة حتى وفاته سنة 399 عن 73 سنة، وكان خلف ملكاً صالحاً يحسن للعلماء والصلحاء ومحدِّثاً عالماً، جمع كبار العلماء في بلاده فصنفوا معه تفسيراً من أكبر تفاسير القرآن الكريم، اشتمل على أقوال من تقدم من المفسرين والقراء والنحاة والمحدثين، قال العتبي مؤرخ السلطان محمود بن سُبُكتكين: أنفق خلف على العلماء مدة اشتغالهم بمعونته على تصنيفه عشرين ألف دينار، ونسخته بنيسابور موجودة في مدرسة الصابونية، تستغرق عمر الكاتب وتستنفد حبر الناسخ.

 

وفي آخر سنة 391 قام السلطان محمود بغزوة في شمال الهند، استهدفت أراضي سلالة كابل شاهي الهندوسية، وقال عنها ابن الأثير في تاريخه: أحب أن يغزو الهند غزوةً تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين. وكانت سلالة كابل شاهي تحكم المنطقة الواقعة في شمال القارة الهندية من منتصف أفغانستان إلى كشمير، ودعيت كابل شاهي لأنها في السابق كانت تحكم أفغانستان من كابل، قبل أن يخرجها منها يعقوب بن الليث الصفار، وكان ملكها في عهد الغزنوي الملك جايا بالا، وتسميه المصادر العربية جيبال، فتصدى للسلطان محمود قرب مدينة بِشاور، ويسميها المؤرخون العرب برشور، ولكن محمود هزمه هزيمة منكرة، وغنم أموالاً طائلة، ووقع جايابالا في الأسر، ومنَّ عليه محمود بالفداء، فقتل نفسه خلاصاً من عار الهزيمة الذي لحق به.

 

وخَلَف جايا بالا ابنُه أندادا بالا الذي سعى في إنشاء تحالفات مع الممالك الهندية الأخرى ليتمكن من هزيمة محمود الغزنوي وإيقاف توسعه، فلما سمع بذلك السلطان محمود سار إليه والتقيا سنة 393 في معركة شاش، قرب مير بور على حدود كشمير مع الباكستان اليوم، وانجلت المعركة عن انتصار الغزنوي انتصاراً حاسماً مهد الطريق أمامه لبسط سلطانه على الهند.

 

وكان الطور التالي في التوسع هو التوجه شمالا نحو المناطق المسماة ما وراء النهر، وهي اليوم أُزبكستان، وكانت مناطق يسكنها قبائل السلاجقة الأتراك الأصل والكثيري العدد، وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان، وإذا قصدهم جيش لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز وتحصنوا بالرمال فلا يصل إليهم أحد، ويشنون الغارة تلو الغارة لمضايقة الجيش الغازي، فأعمل محمود الحيلة حتى جاء إليه رئيس السلاجقة فأمسكه وسجنه في بعض القلاع، وفرَّق أعوانه في خراسان وأقطعهم الأراضي ليزرعوها ويؤدوا خراجها، فدخلوا في طاعته واستقاموا عليها.

 

وفي سنة 397 هزم السلطان محمود قبائل الترك التي كانت مسيطرة على بلاد وراء النهر، وذلك إن ملكهم إيلك خان بعد خروجه من خراسان استعان بملك آخر من ملوك الترك وأعدا جيشاً عرمرماً للقضاء على السلطان محمود، الذي ما أن سمع بتحرك الجيش وعبوره النهر، حتى سار على جناح السرعة إلى بلخ، وحشد فيها كل ما استطاع حشده من قوات من البلدان والأعراق التي تعيش في أراضيه، والتقى الجيشان في معركة دامت يومين وتأرجحت نتيجتها ثم انكشف غبارها عن هزيمة الترك هزيمة منكرة ما عادوا بعدها يفكرون في التعرض للسلطان محمود.

 

وفي سنة 400 فتح محمود بن سبكتكين فتحاً عظيماً من الهند وأرسل للخليفة القادر بالله كتاباً أخبره فيه أنه غزا الكفار وكان في جيشهم ست مئة فيل فهزمهم، وخضعوا لسلطانه واعترفوا بسطوته، وعقدوا هدنة معه قدموا فيها مبلغاً سنوياً من المال، و2.000 رجل يخدمون في عسكر السلطان، وبذلك عادت حركة التجارة المعتادة بين خراسان وبين الهند.

 

وبعد هذا النصر اتجه محمود بن سبكتكين لإخضاع القبائل في جبال الغُور، وهي اليوم جبال هندكوش الغربية الواقعة شمال غزنة، والذين كانوا يقطعون الطريق معتصمين بالمضايق والقمم، فخاض معركة شديدة معهم وهزمهم فيها، وقتل رئيسهم نفسه إثر الهزيمة، وخضعت له المنطقة فأقام فيها الجوامع لنشر الإسلام بين أهلها، وأمن المسافرون والقوافل في الطريق إلى مرو وسمرقند .

 

وفي سنة 401 أصاب خراسان قحط شديد ولا سيما بنيسابور التي هلك فيها مئة ألف، وبرزت في هذا القحط شهامة وتدبير السلطان محمود، فقد أخرج الأموال من الخزائن، وأنفقها على توفير الطعام للأحياء، وفي تكفين ودفن الأموات، ولما راجعه أخوه في كثرة ما أنفقه على أهل غزنة عام القحط، قال: يا أخي، لو كانوا قوماً أجانب لكانت البشرية توجب مواساتهم، فكيف وهم إخواننا في الدين، وأصحابنا في الملك، وجيراننا في البلد؟ فأي عذر لنا مع سعة المال في تمييزهم عن العيال؟

 

وكانت الأسرة البويهية تحكم العراقين؛ عراق العرب وعراق العجم، وكان ملكها بهاء الدولة أحمد بن عضد الدولة قد أدرك قوة السلطان محمود فصار يداريه ويحافظ على العلاقات الطيبة معه، وفي سنة 403 توفي بهاء الدولة، واختلف ولداه سلطان الدولة وأبو الفوارس وتحاربا، فانهزم أبو الفوارس ولجأ إلى السلطان محمود في بُست، فوعده بالنصر، وسير معه جيشاً إلى كرمان فملكها، وكان سلطان الدولة في بغداد، فسار واستولى على بلاد فارس ودخل شيراز، فلما سمع سلطان الدولة عاد من أفغانستان إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوء حال، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، ورغم هزيمة حليفه زاد لجوء آل بويه إلى السلطان محمود من مكانته في خراسان وفارس.

 

وفي سنة 406 يذكر المؤرخون أن محمود بن سبكتكين غزا الهند على عادته، فضلَّ أدلاؤه الطريق، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر، فغرق كثير ممن معه، وخاض الماء بنفسه أياماً حتى تخلص وعاد إلى خراسان، ويبدو أن هذه الغزوة كانت نحو سومات على ساحل بحر العرب، والتي سيعود ويصل إليها بعد عشر سنوات في سنة 417.

 

وفي سنة 407 قام محمود بن سبكتكين بحملة في أعماق الهند وصلت إلى قِنَّوج شمالي دهلي، واعترفت بسلطانه الإمارات التي كانت على دربه من كشمير، وكان يضم إلى جيشه من جنودهم، فلما وصل قنوج استسلمت له دون قتال، وكانت عاصمة إمبراطورية تشمل شمال الهند، ويقول عنها الجغرافيون المسلمون: أفخر بلاد الهند اسماً وشأناً، وأعظمها صيتاً وأقدمها بنياناً.

 

وفي سنة 408 استنجد أمير بخارى قدر خان بالسلطان محمود، بعد أن تمرد على ملك الأتراك فيما وراء النهر أرسلان خان، فلباه وسار في جيشه، وجعل على نهر جيحون جسراً من السفن، وضبطه بالسلاسل، فعبر عليه، ولم يكن يُعرف ذلك هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان، ثم خشي محمود من غدره، فعاد إلى بلاده، فما كان من قدر خان وأرسلان خان إلا أن اصطلحا واتفقا على أن يحتلا بلاد السلطان محمود ويقتسماها، وجمعا جيوشهما وسارا إلى بلخ.

 

وبلغ الخبر إلى السلطان محمود، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان، ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا، ومن الطريف أن والي خوارزم أرسل للسلطان محمود رسولاً يهنئه بالنصرعقيب الوقعة، فقال له: من أين علمتم؟ فقال: من كثرة القلانس التي جاءت على الماء! ثم تصالح أرسلان خان مع السلطان محمود وزوَّج ابنته لمسعود ابن السلطان الذي جعله والياً على هراة.

 

وفي سنة 409 قام السلطان محمود بحملة من أكبر حملاته على الهند، هاجم فيها مدينة متهرا أو متهورا، وهي اليوم في ولاية أُترا برادِش شمالي أكرا، والتي يعتبرها الهندوس محل ولادة الإله كريشنا، وأرسل ابن سبكتكين إلى الخليفة القاهر العباسي في بغداد في أول سنة 410 كتاباً يخبره بالفتح، وقد أورده الإمام الذهبي، وننقله هنا لنلاحظ كيف حشد سبكتكين الجيوش الكبيرة في أمهات المدن قبل مسيره إلى الغزو، وإشارته للإله الهندوسي كريشنا:

 

إن كتاب العبد صدر من غزنة لنصف المحرم سنة عشر، والدينُ مخصوص بمزيد الإظهار، والشِّرك مقهور بجميع الأطراف والأقطار، وانتدب العبدُ لتنفيذ الأوامر وتابع الوقائع على كُفار السند والهند، فرتب بنواحي غزنة العبد محمداً مع خمسة عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل، وأنهض العبد مسعوداً مع عشرة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل، وشحن بلخ وطَخارستان بأرسلان الحاجب، مع اثني عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل، وضبط ولاية خوارزم بالتونْ تاش الحاجب مع عشرين ألف فارس وعشرين ألف راجل، وانتخب ثلاثين ألف فارس وعشرة آلاف راجل لصُحبة راية الإسلام، وانضم إليه جماهير المطوعة.

 

وخرج العبد من غزنة في جُمادى الأولى سنة تسعٍ بقلبٍ منشرح لطلب السعادة، ونفس مشتاقة إلى درك الشهادة، ففتح قلاعاً وحصوناً، وأسلم زهاء عشرين ألفاً من عُباد الوثن، وسلموا قدر ألف ألف من الوَرِق، ووقع الإحتواء على ثلاثين فيلاً، وبلغ عدد الهالكين منهم خمسين ألفاً، ووافى العبد مدينة لهم عاين زهاء ألف قصر مَشِيد، وألف بيت للأصنام، ومبلغ ما في الصنم ثمانية وتسعون ألف مثقال، وقلع من الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم، ولهم صنم معظم يؤرخون مدته بجهالتهم بثلاثمئة ألف عام. وقد بنوا حول تلك الأصنام المنصوبة زهاء عشرة آلاف بيت، فعني العبد بتخريب تلك المدينة اعتناءَ تاماَ، ونهبها المجاهدون بالإحراق، فلم يبقى منها إلا الرسوم، وحين وجَدَ الفراغ لاستيفاء الغنائم، حصَّل منها عشرين ألف ألف درهم، وأفرد خُمس الرقيق، فبلغ ثلاثةً وخمسين ألفاً، واستعرض ثلاثمئة وستة وخمسين فيلاً. ويقال إن الهندوس عرضوا عليه المال الوفير إن هو ترك الصنم وشأنه، فرفض وقال: إني فكرت في الأمر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إلى من أن يقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا. وإلى هذه الواقعة أشار محمد إقبال في قصيدته المعربة:

 

كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

 

لو كان غير المسلمين لحازها ... كنزاً وصاغ الحلي والدينارا

 

وكان الحج قد انقطع في سنتين 410 و411 بسبب اعتداءات البدو على الحجاج وانعدام الأمن، فقصد جماعةٌ من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين في سنة 412 وقالوا له: أنت أعظم ملوك الإسلام، وأثرك في الجهاد مشهور، والحج قد انقطع كما ترى، والتشاغل به واجبٌ، وقد كان الأمير بدر بن حسنويه، وفي أصحابك كثير أعظم منه، يسير الحاج بتدبيره وماله عشرين سنة، فاجعل لهذا الأمر حظاً من اهتمامك. فأمر قاضي قضاة خراسان أبا محمد الناصحي، عبد الله بن الحسين النيسابوري الحنفي، أن يسير بالحاج، وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سوى النفقة في الصدقات، ونادى في خراسان بالتأهب للحج، فاجتمع خلق عظيم، وساروا فمروا ببغداد وحدث بها الناصحي، فلما بلغوا فَيْد حصرهم العرب، فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار، فلم يقنعوا، وصمموا أن يهاجموا الحجيج وينهبوهم، وكان مقدمهم رجل يقال له حمار بن عُدي، فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه، وجال جولة يستعرض ويرهب بها، وكان في الركب شاب من سمرقند جيد الرمي، فرماه بسهم فقتله، وتفرق أصحابه مخذولين، وسلم الحاج فحجوا، وعادوا سالمين.

 

وفي سنة 412 توفي الأمير أبو المظفّر نصر بن سُبُكتِكين، وكان الأخ الثقة لمحمود بن سبكتكين، وكان نصر أميراً صالحاً، عالماً صحب الأئمة، وسمع الحديث من الحاكم أبي عبد الله، وكان والي أخيه على نيسابور، وبنى بها المدرسة السَّعِيدية ووقف عليها الأوقاف، ومن مستحسن الاستطراد أن نذكر عنه أنه التقى بالإمام الحافظ المحدث أبي عبد الرحمن النيسابوري، محمد بن الحسين السلمي النيسابوري، الذي كان في طريقة إلى الحج وروى ذلك فقال: ورأينا في طريق همذان أميرا، فاجتمعت به، فقال: لابد من كتابة كتاب حقائق التفسير. فنُسخ له في يوم، فُرِّق على خمسة وثمانين ناسخا، ففرغوه إلى العصر، وأمر لي بفرس جواد ومئة دينار وثياب كثيرة، فقلت: قد نغصت علي، وأفزعتني، وأفزعت الحاج، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ترويع المسلم، فإن أردت أن يبارك لك في الكتاب، فاقض لي حاجتي. قال: وما هي؟ قلت: أن تعفيني من هذه الصلة، فإني لا أقبل ذلك. ففرقها في نقباء الرفقة، وبعث من خفرنا، وكان الأمير نصر بن سبكتكين صاحب الجيش عالما، فلما رأى ذلك التفسير، أعجبه، وأمر بنسخه في عشر مجلدات، وكتابة الآيات بماء الذهب، ثم قالوا: تأتي، حتى يسمع الأمير الكتاب. فقلت: لا آتيه البتة. ثم جاؤوا خلفي إلى الخانقاه، فاختفيت، ثم بعث بالمجلد الأول، وكتبت له بالاجازة.

 

وكان خلفاء الدولة الفاطمية في مصر يرسلون دعاتهم في البلاد يستميلون الناس إليهم، وكان الحاكم بأمر الله لما بلغه استظهار محمود بن سبكتكين أرسل إليه رسالة مع خلع فاخرة يدعوه إلى طاعته، وأن يخطب باسمه بتلك البلاد، فخرق محمود كتاب الحاكم وبصق فيه، فلما كان زمن ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أعاد الكرة وأرسل إلى محمود بن سبكتكين بكتاب وهدايا وخلع، يطلب منه الطاعة والدعاء، فطرد محمود الرسول خائباً، وأرسل قاضيه أبا العباس أحمد بن محمد الرشيدي إلى الخليفة العباسي القادر بالله ومعه الخلع والكتاب وقد خرقه وبصق فيه، مع رسالة ابتدأها محمود بقوله عن نفسه: عبد مولانا أمير المؤمنين وصنيعته محمود بن سبكتكين، وذكر فيها إرسال الظاهر هذه الخلع إليه، وأنه سيرها إلى الخليفة ليتصرف فيها بما يرى، ويقول: أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضاً. فأُحرِقت الخلعُ على أعين الناس فخرج منها 4500 درهم فضة، تُصدِّق بها على ضعفاء بني هاشم.

 

وفي سنة 414 توغل محمود بن سبكتكين في بلاد الهند، وقال في رسالته للخليفة مخبراًعن هذه الغزوة: أتيتُ قلعةً ليس لها في الدنيا نظير، وما الظن بقلعة تسع خمسمئة فيل وعشرين ألف دابة، وتقوم لهؤلاء بالعُلُوفة! وأعان الله حتى طلبوا الأمان، فأمنَّت ملكهم وأقررته على ولايته بخراج ضُرب عليه، وأنفذ هدايا كثيرة وفيلة، ومن ذلك طائر على شكل القُمري إذا حضر على الخِوان وكان فيه شيء مسموم دمعت عينُهُ وجرى منها ماء وتحجر، ويُحك فيطلى بما تحلل من دمعه المتحجر الجراحات الكبار فيلحمها، فقبلت هديته، وانقلب العبد بنعمة من الله وفضل.

 

وفي سنة 417 قام السلطان محمود بغزوة أخرى استهدفت معبد سومنات، الواقع اليوم في جتوبي غربي كُجُرات على ساحل بحر العرب، وكتب إلى الخليفة كتاباً قال فيه: إن سكان الهند افتُتِنوا بهذا الصنم، وكانوا يأتونه من كل فج عيق، فيتقربون إليه بالأموال، ورُتِب له ألف رجل للخدمة، وثلاثمئة يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمئة يغنون على باب الصنم، ولقد كان العبد يتمنى قلع هذا الصنم، ويتعرف الأحوال، فتوصف له المفاوز إليه وقلة الماء وكثرة الرمال، فاستخار العبدُ اللهَ في الانتداب لهذا الواجب طلباً للأجر، ونهض في شعبان سنة 416 في ثلاثين ألف فارس سوى المطوعة، ففرق في المطوعة خمسين ألف دينار معونةً، وقضى الله بالوصول إلى بلد الصنم، وأعان حتى ملك البلد، وقُلِع الوثن، وأوقدت عليه النار حتى تقطع، وقُتل خمسون ألفاً من أهل البلد.

 

وتعتبر المصادر الهندوسية هذه الرواية مبالغاً فيها، وأن الأضرار التي وقعت بالمعبد كانت قليلة جداً، وحجتها في ذلك أن مؤرخي الهندوس في تلك الفترة يتحدثون عن وقائع الحج لسومنات بعد سنتين من هذا التاريخ وكأنه حج عادي، دون أن يذكروا شيئاً عن تدمير الصنم وتخريب البلد، وإن صح هذا فلعل ما ورد في الرسالة من مبالغات كتاب الديوان.

 

قال البيروني في كتابه تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: سوم هو القمر ونات الصاحب، فهو صاحب القمر، وقد قلع الأمير محمود رضي الله عنه في سنة 416 حجره، وكسر أعلاه وحمله على غلافه الذهبي المرصع المكلل الى مستقره بغزنة، فبعضه مطروح في ميدانها، وبعضه على باب جامعها يمسح به الأقدام من التراب. وقال النويري في نهاية الأرب: سومنات حجر طوله خمسة أذرع، ثلاثة مدوَّرة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس هو بصورة مصّورة.

 

وفي سنة 420 انتزع محمود بن سبكتكين من البويهيين مدينة الري، طهران اليوم، فقد كان صاحبها مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، متشاغلاً بالنساء، ومطالعة الكتب ونسخها، وكانت والدته تدبر مملكته، فلما توفيت طمع جنده فيه، واختلت أحواله، فكتب إلى محمود يشكو إليه الحال ويستعينه على جنده، فأرسل محمود عسكراً بقيادة حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة. فلما وصل العسكر إلى الري ركب مجد الدولة يلتقيهم، فقبضوا عليه، وجاء السلطان محمود فدخلها، ووجد فيها من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمئة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى، وأحضر مجد الدولة البويهي، وقال له: أما قرأت شاهنامه، وهو تاريخ الفرس، وتاريخ الطبري، وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال: ما حالُك حال من قرأها! أما لعبت بالشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهاً يدخل على شاه؟ قال: لا. قال: فما حملك على أن سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك؟ ثم سيره إلى خراسان مقبوضاً، ثم اتجه شمالاً فملك قزوين وقلاعها، وتابع ابنه مسعود التوسع في هذه المنطقة وفي أذربيجان.

 

ولما ملك محمود بن سبكتكين الريّ كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لرئيسهم رستم بن علي الديلمي من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة، ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي. وصلب محمود من أصحابه الباطنية خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والتنجيم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مئة حِمل.

 

تمرض السلطان محمود مدة نحو سنتين، ولكنه بقي لصرامته متماسكاً لا يظهر ضعفاً، ولم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته، وكان يجلس للناس بُكرة وعشية، فأشار عليه الأطباء بالراحة، فقال: أتريدون أن أعتزل الإمارة؟ فلم يزل كذلك حتى توفي قاعداً.

 

وبعد وفاته تكرر مع ولديه ما حدث بينه وبين أخيه، ذلك أنه لما حضره الموت أوصى بالملك لابنه جلال الدولة محمد، وهو ببلخ، وكان أصغر من ابنه مسعود، وذلك لأنه كان معرِضاً عن مسعود الذي لم يكن ينفذ أوامر والده، فلما توفي أرسل أعيان الدولة إلى محمد يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك، ويستدعونه، ويحثونه على السرعة، ويخوفونه من أخيه مسعود، فسار إلى غزنة فور أن وصله الخبر، فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يوماً، فاجتمعت العساكر على طاعته، وفرق فيهم الأموال فأسرف في ذلك.

 

وكان ابنه مسعود بأصبهان، فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر، فحين فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم فقتلوه، وقتلوا من معه من الجند، فعاد إليها مسعود وحصرها، وفتحها عنوة، وقتل فيها فأكثر، وصادر أهلها، وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك، وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئاً، وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان وأصبهان وغيرها، ويطلب منه الموافقة، وأن يقدِّمه في الخطبة على نفسه، فأجابه محمد جواباً فيه مراوغة، فسار مسعود من أصبهان إلى الري، فأحسن إلى أهلها، وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك.

 

وحشد محمد عسكره وسار ليحارب أخاه مسعود، ولم يصغ لنصيحة ألتون طاش أمير خوارزم الذي كان من كبار أصحاب والده والذي نصحه بإجابة أخيه إلى ما طلبه، ولم يتأمل في أن كثيرين في عسكره يميلون إلى مسعود لكبره وشجاعته، ولتمرسه بقيادة الجيوش وفتح البلاد، وكان محمد ملتهياً بالشراب واللعب عن تدبير المملكة، وبعد بضعة أيام من مسيره ثار به الجند وقيدوه وحبسوه، فتسلم مسعود الأمور وقضى على كل من يخشى تهديده، وبذلك عظُم سلطانُه وخيف جانبه.

 

وتابع مسعود سيرة أبيه في غزو الهند، وكان يرسل بعد كل غزوة أخبارها إلى الخليفة في بغداد، وكان ملكاً مستنيراً عالماً، ألف له أبو الريحان البيروني الخوارزمي، محمد بن أحمد المولود سنة 362 والمتوفى سنة 440، كتاب القانون المسعودي، في الهيئة والنجوم والجغرافيا، وألف كتاب: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. والذي يتحدث عن الهند بعد فتوحات آل سبكتكين لها، وكان مسعود لا يبني لنفسه منزلاً حتى يبني لله مسجداً أو مدرسة، وقتل مسعود في سنة 432، قتله أمراؤه بعد أن ظهر عليه بنو سلجوق وضعف أمره وأقاموا مكانه ابنه مودود، وكانت سنه 9 سنوات، ومات مودود في سنة 441، فأقام أهل الدولة محله ابنه الصغير ثم خلعوه.

 

كان محمود بن سبكتكين مقصد كبار الأدباء والعلماء، وأُثر عنه وعن ابنه محمد شعر فارسي، ومن شعرائه: العنصري والأسدي، والعسجدي، والفردوسي الذي قدم له الشاهنامه، فلم يعطه محمود ماأراد فغاضبه وهجاه، وقد ألف شرف الملك من شعراء محمود كتابا في الديوان بالفارسية سماه كتاب الأصطفا، وكتب البيروني له كتاب التفهم في النجوم بالفارسية والعربية.

 

وقد أفردت سيرة السلطان محمود بن سبكتكين في مؤلفات، أولها كتاب اليمينى فى سيرة السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين، الذي ألفه كاتب رسائل السلطان؛ محمد بن عبد الجبارالعُتبي، المتوفى سنة 427، وهو كتاب يغلب عليه البيان والبلاغة ويزخر بالمديح، ولذا فمعلوماته التاريخية ليست كثيرة التفاصيل أو غزيرة الفائدة، وكذلك ألف الكاتب في ديوان الإنشاء أبو الفضل محمد بن الحسين البيهقي، المتوفى سنة 470، كتاباً من 30 مجلداً سماه: الناصري، أرخ فيه لدولة السلطان محمود يوماً يوماً، وجاء بعد قرنين القاضي الأكرم الوزير جمال الدين علي بن يوسف القفطي، المولود سنة 568 والمتوفى سنة 646، فألف كتاباً في تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه.

 

كان السلطان محمود بن سبكتكين يقرب الصلحاء ويحترمهم، وبتعهدهم بالصلات، وكان يزورهم وينصت لقولهم وموعظتهم، وكان إذا دخل عليه الواعظ النيسابوري الصالح عثمان الخركوشي، يقوم ويلتقيه، وكان محمود قد فرض على نيسابور مالاً يأخذه منهم على أقساط، فقال له الخركوشي: قد ضاق صدري، كيف قد صرت تُكدي الناس؟! فقال: وكيف؟ قال: بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء، وهذه كِدية. فأمر بإلغاء القسط.

 

وكان والده سبكتكين كرّامياً، على مذهب محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255، والذي قال إن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فمن شهد أن لا إله إلا الله بلسانه فإنه يكون مؤمنا ولو كان مكذبا بقلبه، وهو مذهب فاسد كما هو واضح، ولكنه آنذاك انتشر في تلك البلاد انتشاراً واسعاً بسبب الجهل أولاً، وبسبب كون صاحبه من العباد الزهاد، وأن أتباعه قاموا بالدعوة إلى الإسلام بين غير المسلمين، ورغم أن بعض المصادر تلمح إلى أن محمود بن سبكتكين كان كرامياً كذلك، إلا أننا نميل لكونه من أهل السنة والجماعة، ذلك أن ذات المصادر تذكر أنه في سنة 408 أمر الخليفة القادر بالله بمنع المعتزلة والشيعة الرافضة من الدعوة إلى مذاهبهم، وبعث إلى السلطان محمود بن سبكتكين، يأمره ببثّ السنة بخراسان، ففعل ذلك، واستخرج من بيت الكتب في الري كتب علم الكلام وأمر بإحراقها، وقتل جماعة من أهل البدع والرفض، ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والجهمية والمشبّهة، وأمر بلعنهم على المنبر، وتذكر كذلك أنه لما استولى السلطان محمود على مدينة الريّ منع الوعاظ فيها من الوعظ واستثنى أبا حاتم أحمد بن الحسن الرازي الملقب خاموش، والذي كان مقدم أهل السنة بالري، وأمر السلطان ألا يُسمح لأحد بالوعظ حتى يمتحنه أبو حاتم.

 

وقد أورد بعض المؤرخين أن محمود بن سبكتكين أمر بدس السُّم للإمام أبي بكر ابن فُورك فمات بسبب ذلك في سنة 407، وذلك لما بلغه عنه أنه يقول إن رسالة النبوة قد انقطعت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموت، وفي ذلك قال السُبكي في طبقات الشافعية: أكذوبة سمجة ظاهرة الكذب من جهات متعددة، منها أن ابن فورك لا يعتقد ما نُقِل عنه، بل يكفر قائله، فكيف يعترف على نفسه بما هو كفر! وإذا لم يعترف، فكيف يأمر السلطان بقتله! والمسألة المشار إليها مكذوبة قديما على الإمام أبي الحسن الأشعري نفسه. وقد قال بعض المؤرخين إن الكرامية افتروا ذلك على ابن فورك لأنه تصدى لهم وناظرهم، وقمع بدعتهم، فوشوا به إلى السلطان على أمل أن يبطش به، فلما سأله ونفى ذلك تابعوا كيدهم ورتبوا من يدس له السم.

 

كذلك أورد عدد من كبار المؤرخين، مثل ابن خلكان والإمام الذهبي، قصة طويلة مفادها أن السلطان كان حنفي المذهب ثم تحول إلى المذهب الشافعي عندما صلى أمامه أبو بكر القفال الشاشي ركعيتن على المذهب الشافعي وركعتين في هيئة مستهجنة على المذهب الحنفي، والعجب أنهم أوردوها دون تأمل في صحتها أو انتقاد لمضمونها الركيك، وكان شرف تمحيصها لابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، حيث قال: وما حكاه ابن خلكان من قصة القفال في صلاة الحنفية بين يدي ابن سبكتكين ليس لها صحة، يعرف ذلك من له أدنى ذوق من وجوه عديدة، فإن محموداً المذكور كان قد قرأ في ابتداء أمره وبرع في الفقه والخلاف وصار معدوداً من العلماء، وصنف كتاباً في فقه الحنفية قبل سلطنته بمدة سنين، وذلك قبل أن يشتهر القفال، فمن يكون بهذه المثابة لا يحتاج إلى من يعرفه الصلاة على المذاهب الأربعة بل ولا غيرها، وأصاغر الفقهاء من طلبة العلم يعرفون الخلاف في مثل هذه المسألة... وإنما محمود بن سبكتكين رجل من المسلمين لا يزيد في الحنفية ولا ينقص من الشافعية ... فهذا كله موضوع على القفال من أهل التحامل والتعصب، فنعوذ بالله من الاستخفاف بالعلماء والوقوع في حقهم، ونسأل الله السلامة في الدين.

 

كانت الدولة الغزنوية دولة جهاد متصل وحروب لا تنقطع، ودامت قرابة 213 سنة حتى سنة 599، وكان آخر ملوكها خسروشاه بن بهرام بن شاه بن مسعود بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين، وانقرضت على يد دولة جهاد أخرى أكملت مسيرتها هي الدولة الغورية، التي أسلمت قبائلها على يد السلطان محمود كما أشرنا سابقاً، وفي نكاية لا تخفى بالهندوس، أطلقت الباكستان اسم الغزنوي على أحد صواريخها الاستراتيجية قصيرة المدى، احتفاء بهذا الغازي المسلم.

 

صفحات خالدة من تاريخ الإسلام خطها شعب أفغانستان المؤمن، أوجزت في سردها وإن أطلت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين