حدث في الحادي عشر من صفر

وفاة الإمام ابن دقيق العيد 

 

في الحادي عشر من صفر من سنة 702، توفي في القاهرة، عن 77 سنة، شيخ الإسلام الفقيه المحدث الأصولي تقي الدين أبو الفتح ابن دقيق العيد، محمد بن علي بن وهب بن مطيع القُشيري القُوصي المنفلوطي. وسبب لقب دقيق العيد، أنَّ جده لبس في يوم عيد طيلساناً شديد البياض، فقال بعضهم: كأنّه دقيق العيد! فلُقِّب به، رحمه الله تعالى.

 

والقوصي نسبة إلى قوص بلدة بصعيد مصر بين الأقصر وقنا، كانت في ذلك العصر عامرة بالعلماء والصلحاء، وقد ألف في تراجمهم وأخبارهم أحد تلامذة ابن دقيق العيد وهو الشيخ الأديب كمال الدين الأدفوي، جعفر بن ثعلب، المولود سنة 685 والمتوفى سنة 748، ألف كتاباً ماتعاً أسماه: الطالع السعيد الجامع لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد. ألفه بإشارة من شيخه أثير الدين أبي حيان النحوي الأندلسي، وقصره على تراجم النابغين من إقليم قوص وما يتبعه من البلدان والقرى، وذكر فيه معاهد العلم في الصعيد: ست عشرة مدرسة بقوص، وثلاثا بأسوان، واثنتين بإسنا، وواحدة بالأُقصر، وأخرى بأرمنت، واثنتين بقنا، وواحدة في هُو، وأخرى بقَمُولْة.

 

ولد ابن دقيق العيد بناحية ينبع 25 من شعبان سنة 625 حيث كان والده متوجهاً للحج من قوص إلى مكة المكرمة، ولذلك ريما كتب بخطه الثَّبَجي، ويقال إن والده حمله على يديه وطاف به حول الكعبة، وسأل الله له العلم والعمل، وكان والده، مجد الدين علي، شيخ أهل الصعيد، وكان جامعاً لفنون من العلم، فقيهاً في مذهبي المالكي والشافعي والأصول، موصوفاً بالصلاح والتأله، معظماً في النفوس، يمشي بنفسه في قضاء حوائج الناس، وتوفي الوالد سنة 667 عن 85 سنة، وأم ابن دقيق العيد هي حفيدة الفقيه الأصولي تقي الدين المقترح، مظفر بن عبد الله، المولود سنة 560 والمتوفى سنة 612.

 

سمع ابن دقيق العيد الحديث من مسند الديار المصرية المحدث المعمر أبي الحسن بن المقير، علي بن الحسين، المولود ببغداد سنة 545 والمتوفى بالقاهرة سنة 643، ومن مسند الإسكندرية الفقيه المحدث عبد الوهاب بن ظافر ابن رواج الإسكندراني، المولود سنة 554 والمتوفى سنة 648، ولكنه لم يحدث عنهما لأنه داخله شك في كيفية التحمل عنهما، وجاءه أحد تلاميذه بجزء سمعه ابن دقيق العيد من ابن رواج، وعليه خطه، وطالبه بأن يقرأه عليه، فقال له ابن دقيق العيد: حتى أنظر فيه. فلما عاد إليه قال له: هو خطي، لكن ما أحقق سماعه ولا أذكره. ولم يحدث به، وهذه غاية الورع والتقوى منه، رحمه الله.

 

وأخذ ابن دقيق العيد الحديث عن الرشيد العطار، رشيد الدين يحيى بن علي القرشي الأموي النابلسي المصري المالكي، المحدث الحافظ شيخ محدثي الديار المصرية، والمولود بالقاهرة سنة 584 والمتوفى فيها سنة 662، وأخذ عن المحدث الحافظ المؤرخ زكي الدين المنذري، عبد العظيم بن عبد القوي، المولود بمصر سنة 581 والمتوفى بها سنة 656، قال عنه الذهبي: وما كان في زمانه أحفظ منه.

 

وأخذ ابن دقيق العيد كذلك عن الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وذلك بعد قدومه القاهرة خارجاً من دمشق في سنة 638 بعد أن أنكر على الملك الصالح إسماعيل تسليمه حصن الشقيف للفرنج، وتوفي العز ابن عبد السلام سنة 660 في القاهرة، وكان تلميذه ابن دقيق العيد هو الذي لقبه بسلطان العلماء، لأنه كان لا يثني في خطبته على الملوك بل كان يدعو لهم.

 

ورحل ابن دقيق العيد إلى دمشق فسمع من المحدث المعمر أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي الحنبلي، المولود سنة 575 والمتوفى سنة 668، وسمع من شيخ المشيخة النورية بدمشق زين الدين النابلسي، خالد بن يوسف، المولود بنابلس سنة 5858 والمتوفى بدمشق سنة 663، وكان النابلسي ظريفاً حلو النادرة والمزاح، كان مرة بحضرة الملك الناصر الأيوبي، فأنشد شاعر قصيدة يمدحه فيها، فقلع زين الدين سراويله وخلعه على الشاعر، فضحك الناصر وقال: ما حملك على هذا؟  فقال: لم يكن معي ما أستغني عنه غيره! فعجب منه ووصله. 

 

درس ابن دقيق العيد المذهب المالكي أولاً في مدينته قوص، ثم اختار مذهب الإمام الشافعي، ومال إليه، فاشتغل به وتبحر فيه حتى بلغ فيه الغاية دراية ورواية، وحفظاً واستدلالاً، وتقليداً واستقلالاً، حتى قيل إنه مجدد القرن السابع، وقال عنه أستاذه العز ابن عبد السلام: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفيها: ابن دقيق العيد بقوص وابن المنير بالإسكندرية. وقال القاضي تقي الدين بن شكر: أجمع المالكية والشافعية على أن أفضل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القَرافي، وناصر الدين ابن المنير وابن دقيق العيد. وابن المنير هو العلامة ناصر الدين أحمد بن محمد المولود سنة 620 والمتوفى سنة 683، وكان أحد الأئمة المتبحرين في العلوم من التفسير والفقه والأصلين والنظر والعربية والبلاغة والأنساب. أما القرافي فهو الإمام الأصولي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن شيخ المالكية في عصره، وأحد أعلام الفقه وأصول الفقه، توفي سنة 684.

 

وقد بقي ابن دقيق العيد شطراً كبيراً من حياته في قوص، ولا ندري بالتحديد متى ترك الصعيد وجاء إلى القاهرة، ويبدو أنه بقي زمناً ليس بالقصير، وأن حياته فيها كانت ضيقة متقشفة، ذلك أن له أبيات تدل على ذلك، يرد فيها على من نصحوه بالذهاب إلى القاهرة، منها:

 

يقولون لي هلا نهضت إلى العُلا ... فما لذَّ عيش الصابر المتقنع

 

وهلا شددت العيس حتى تحلها ... بِمصْر إلى ذاك الجناب المرفع

 

ففيها من الأعيان مَن فيضُ كَفه ... إذا شاء روى سيلُه كل بلقع

 

وفيها قُضَاة ليس يخفى عليهم ... تعين كَون الْعلم غير مضيع

 

وفيها شيوخ الدّين والفضل والأُلى ... يشير إليهم بالعلى كل أصْبع

 

وفيهَا وفيهَا، والمهانة ذلة ... فَقُمْ وَاسْعَ واقصد باب رزقك واقرع

 

فقلتُ نعم أسعى إذا شِئْتُ أن أُرى ... ذليلا مهانا مستخَفَّا بموضعي

 

وأسعى إذا ما لذ لي طول موقفي ... على باب محجوب اللقاء مُـمَنَّع

 

وأسعى إذا كان النفاق طريقتي ... أروح وأغدو في ثياب التصنع

 

بيد أننا نعرف أنه في سنة 680 كان في القاهرة، إذ فيها تولى التدريس في المدرسة الناصرية قرب ضريح الإمام الشافعي بالقرافة، وذلك بعد وفاة القاضي تقي الدين محمد بن رزين الحموي، وهي المدرسة التي بناها السلطان صلاح الدين الأيوبي، ونعرف أنه تولى بعدها مشيخة دار الحديث الكاملية في مصر.

 

وكان ممن يدرِّس معيداً في المدرسة الناصرية الإمامُ الأصولي شمس الدين الأصفهاني، محمد بن محمود، المولود بأصفهان سنة 610، والمتوفى بالقاهرة سنة 688، وكان فريد عصره في علم أصول الفقه، وكان من قبل قاضياً في قوص وله درس فيها حضره ابن دقيق العيد، فلما ولي التدريسَ في المدرسة الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، صعب على الأصفهاني ذلك لكونه تلميذه، فعزل نفسه وقال: بطن الأرض خير من ظاهرها.  قال السبكي معلقاً على ذلك: ونحن نقيم عذره من جهة مشيخته وقِدم هجرته، وإلا فحقيق به وبأمثاله الاستفادة من إمام الأئمة تقي الدين.

 

وبقي ابن دقيق العيد على صلة بالصعيد، ورحل في سنة 690 رحلة خالصة لزيارة الشيخ بهاء الدين القفطي، أستاذه وشيخ الصعيد ومن نشر السُّنة في إسنا بعد التشيع، والمتوفى بإسنا سنة 697 وقد قارب المئة عام، وكان يقول عنه: لولا وجود بهاء الدين بالصعيد لوقع أهله في الحرج لعدم من يفتيهم.

 

ولما صار ابن دقيق العيد أهلاً للتدريس والأخذ عنه توافد عليه الطلبة من كل قطر، وكان معروفاً بشفقته على طلبة العلم وبكثرة بره لهم، وكان متواضعاً معهم ومع الصالحين، كان إذا زار بعض المشايخ فبلغ إلى بابه نزل عن البغلة، ونزع الطيلسان والعمامة، ودخل عليه بطاقية على رأسه.

 

وممن درس على ابن دقيق العيد، الإمامُ العلامة المحدث الحافظ الأديب البارع فتح الدين ابن سيد الناس، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، اليعمري الأندلسي المصري، المولود بمصر سنة 671 والمتوفى بها سنة 734، وصاحب كتاب عيون الأثر في السيرة النبوية، لازم ابن دقيق العيد وتخرج عليه، وكان معيد درسه، وكان ابن دقيق العيد يحبه ويثني عليه، ويركن إلى نقله لإتقانه وضبطه، قال القاضي عماد الدين إسماعيل ابن القيسراني: كان الشيخ تقي الدين إذا حضرنا درسه وتكلم، فإذا جاء ذكر أحد من الصحابة أو أحد من رجال الحديث، قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح؟ فيأخذ فتح الدين في الكلام، ويسرد والناس كلهم سكوت، والشيخ مصغ إلى ما يقوله.

 

وممن أخذ عن ابن دقيق العيد؛ الإمام الذهبي في زيارته الأولى لمصر سنة 695، وكان ابن دقيق العيد شديد التحري في الإسماع، فلما دخل عليه الإمام الذهبي، سأله: من أين جئتَ؟ قال: من الشام. قال: بم تُعرف؟ قال: بالذهبي. قال: من أبو طاهر الذهبي؟ فقال له: المخلِّص. فقال: أحسنت! من أبو محمد الهلالي؟ قال: سفيان بن عيينة. قال: أحسنت، اقرأ. ومكَّنه من القراءة عليه حينئذ إذ رآه عارفا بالأسماء. والمخلص الذي سأل عنه الإمام هو محمد بن عبد الرحمن بن العباس، المعروف بالمخلَّص الذهبي البغدادي، المولود سنة 305 والمتوفى سنة 393، والذي كان مسند بغداد في عصره.

 

وأعجب الإمام الذهبي إعجاباً كبيراً بابن دقيق العيد، وقال عنه في كتابه تذكرة الحفاظ: الإمام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ العلامة شيخ الإسلام، سمعت من لفظه عشرين حديثا وأملى علينا حديثا. ووصفه في سير أعلام النبلاء: كان رأساً في العلم والعمل، عديم النظير. بل وقال: إنه المجدد الذي جاء على رأس سنة سبع مئة. وقال الإمام الذهبي: ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية، والمزي، فابن دقيق العيد أعرفهم بالعلل وفقه الحديث، والدمياطي أعرفهم بالأنساب، وابن تيمية أحفظهم للمتون، والمزي أعرفهم بالرجال. وهذه شهادة جليلة من ناقد دقيق منصف.

 

ولم يقتصر الأخذ عن ابن دقيق العيد على أهل المشرق، بل أخذ عنه كثير من أهل أفريقية والمغرب والأندلس، ومن هؤلاء أبو عبد الله ابن رشيد الفهري السبتي، محمد بن عمر المولود سنة 657 بسبتة في المغرب والمتوفى بفاس سنة 721، والذي حج سنة 685 ولقي ابن دقيق العيد في مصر واستفاد منه كثيراً، ولما عاد إلى المغرب سكن في غرناطة سنوات يشرح فيها البخاري. وجاء إلى مصر في طريق الحج الفقيه النحوي التاريخي اللغوي أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري اللَبْلي، نسبة إلى لبلة بالأندلس، فقصد ابن دقيق العيد فلما دخل عليه حياه وقال له: خيرَ مَقْدَم. ثم سأله ابن دقيق العيد بعد حين: بم انتصبت خير مقدم؟ فقال له اللبلي: على المصدر، وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها، وقد ذكره سيبويه. واستفاض اللبلي في الكلام فإنه كان يحفظ أكثر سيبويه، فأكرمه القاضي وعظمه.

 

وكان من علماء القاهرة في تلك الأيام الشيخ الإمام العلامة أبو الحسن الباجي، المولود سنة 631 بباجة والمتوفى بالقاهرة سنة 714، والذي درس بالشام، ثم ولي قضاء الكرك، ثم دخل القاهرة، وصار أحد نواب القاضي، ثم ترك ذلك ولزمه الطلبة للاشتغال عليه، وكان أعلم أهل الأرض بمذهب الأشعري، وكان ابن دقيق العيد كثير التعظيم له، فإنه حضر درس ابن دقيق العيد فمر في الدرس شيء من كلام الغزالي في الوسيط، فقال الباجي: يَرِدُ على هذه العبارة خمسةُ عشر سؤالا، ثم سردها فقال له ابن دقيق العيد: كم سنك؟ قال: كذا، قال: وهذا العلم كله حصل لك في هذا السن! وكان من عادة ابن دقيق العيد ألا يخاطب أحداً حتى السلطان إلا بقوله: يا إنسان. غير اثنين أحدهما الباجي، يقول له: يا إمام. وكان ابن دقيق العيد يقول عن الباجي: يُطلَق عليه عالم.

 

وممن لازم ابن دقيق العيد الإمام علاء الدين القونوي، علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي التبريزي، المولود سنة 668 والمتوفى سنة 729، لازمه في مصر زمناً طويلاً، يحضر عنده بالليل، وكتب له ابن دقيق العيد بخطه على نسخته من  مختصر ابن الحاجب: باحثتُ صاحب هذا الكتاب فوجدته يطلق اسم الفاضل عليه استحقاقاً.

 

والتقى ابن دقيق العيد سنة 700 بابن تيمية، وقال له: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك. وأثنى عليه قائلا: رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد، ويدع ما يريد.

 

وكان حكم اليمن قد صار مع بني رسول التركمانيين منذ أن أسس دولتهم سنة 626 الملك المنصور عمر بن علي، وكان ملك اليمن منهم في تلك الحقبة الملك المؤيد داود، المتوفى سنة 721، وكان من علماء الملوك، فقيهاً أديباً، تحول إلى المذهب الشافعي من المذهب الحنفي، ولديه مكتبة نفيسة تضم مئة ألف مجلد، وكان يتعهد الإمام ابن دقيق العيد بالهدايا ويرسل له في كل سنة 200 دينار، وكانت بداية العلاقة على يد أحد تجار الهند الذي اجتمع مرة بابن دقيق العيد فرآه بحاجة للمال، فقال له: يا سيدنا، ما تكتب ورقة لصاحب اليمن؟ اكتبها وأنا أقضي فيها الشغل. فكتب ورقة لطيفة فيها:

 

تجادل أرباب الفضائل إذ رأوا ... بضاعتهم موكوسة الحظ في الثمن

 

وقالوا عرضناها فلم نُلِفِ طالباً ... ولا من له في مثلها نظرٌ حسن

 

ولم يبق إلا رفضُها واطراحها ... فقلت لهم: لا تعجلوا، السوقُ باليمن

 

وأرسلها إليه، فأرسل له الملك المؤيد مئتي دينار، واستمر يرسلها إلى أن مات.

 

وسبب ضيق يد ابن دقيق العيد رحمه الله واحتياجه للقرض مرات كثيرة في حياته، هو كثرة إقباله على التسري، فقد كان يشتري الجواري ثم يبيعهن، وكان كذلك له اعتقاد في الكيمياء، وهو اصطلاح عنى في ذلك الوقت تحويل المعادن الخسيسة كالرصاص إلى معدن ثمين كالذهب أو الفضة، وكان هناك محتالون يدعون معرفة سر هذا التحويل ويستخلصون الأموال بوعودهم الزائفة الكاذبة.

 

وكان ابن دقيق العيد على جلالة قدره وقلة كلامه صاحب مباسطة ومزاح مع بعض أحبابه، وكان يحب الشعر وينظمه وله في البلاغة ذوق رفيع، قال ابن سيد الناس: كان مجلسه ممتعاً، إذا فُتح له باب انقضت تلك الليلة في تلك المادة حتى في شعر المتأخرين والعصريين. وكان الشيخ يمازح بلديه سديد الدين الكيزاني القوصي، المولود بقوص سنة 624 والمتوفى سنة 715، وينشد إذا رآه:

 

بين السديد والسداد سد ... كسدِّ ذي القرنين أو أشدُّ

 

ومن نصائح ابن دقيق العيد للشاعر ابن معتوق الشيباني النصيبي ثم القوصي، محمد بن محمد،  المتوفى بقوص سنة 707، وكان رزقه من شعره، يمدح الأعيان، قال الشاعر: لما دخلت إلى قوص قال لي ابن دقيق العيد: أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته معه، فلا تَهْج أحداً. فلم أهج أحداً.

 

كان ابن دقيق العيد جمّاعة للكتب، يغار على كتبه ولا يمكن أحداً من النظر فيها، واتفق أنه اشترى كتباً من تركة، فجاء أمين المحكمة يطالبه بسداد ثمنها فلم يكن معه، فشكاه  إلى القاضي بدر الدين ابن جماعة، فتوسط بينه وبين أمين المحكمة أن يكون مرتبه من المدرسة الكاملية في وفاء دَينه، وقال له القاضي: يا شيخ تقي الدين، أنا أغار من هذه الاستدانة. فقال: ما يوقعني فيها إلا محبة الكتب. 

 

 وفي سنة 695 توفي قاضي الديار المصرية الشافعي تقي الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب الشافعي، المعروف بابن بنت الأعز، فأجمع الأمراء والأكابر عند الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري أن خير من يصلح لهذا المنصب هو تقي الدين ابن دقيق العيد، وعرّفوا دينه وعلمه، وقال له الشيخ ضياء الدين المعبدي، وكان شيخاً ظريفاً كريماً وجيهاً: أدلك على محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن ادهم؟قد عُرض عليه القضاء قبل ذلك مرارا فلم يقبل. فوافق السلطان على الاختيار، وذهب إليه الشيخ ضياء الدين مع بعض الأمراء وسألوه فامتنع، فحلف المعبدي بطلاق زوجته إن لم يقبل ابن دقيق العيد القضاء، وقالوا له: إن لم تفعل، ولًّوا فلانا أو فلانا. لرجلين لا يصلحان للقضاء، فرأى أن القبول واجب عليه حينئذ فأجابهم، وهو أول من لبس الصوف من القضاة في السلطنة، وكانت القضاة يُخلع عليهم الحرير، فامتنع الشيخ من لبس الخلعة، وأمر بتغييرها إلى الصوف، وصارت عادة لمن بعده.

 

وسأل أحد أولاد الشيخ والده: يا سيدي كيف قبلتَ الولاية في هذا الوقت، وقد كنت تأباها؟ فقال له: يا ولدي، وجب ذلك عليَّ من وجوه، أحدها: أنه ليس لي شيء يكفيني للعيال، والثاني: عندي كتب العلم فأحتاج أن أبيع الكتاب الذي يساوي مئة بخمسين درهما، والثالث: لم يبق لتولية القضاء من هو أحق مني بالولاية، فتعين عليَّ. ومن شعر تقي الدين ابن دقيق العيد في فقره:

 

لعمري لقد قاسيت بالفقر شدَّة ... وقعت به في حيرتي وشتاتي

 

فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالضر خفت مماتي

 

فأعظِم به من نَازل بمُلِمَّة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي

 

ولما ولي ابن دقيق العيد القضاء كتب كتاباً بخطه لسائر نوابه يحذرهم وينذرهم ويخوفهم من الله، ونسخة الكتاب:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الفقير إلى الله محمد بن علي 

 

?أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?

 

هذه المكاتبة إلى، فلان، وفقه الله لقبول النصيحة، وأتاه لما يقربه قصدا صالحا، ونية صحيحة، أصدرناها إليه، بعد حمد الله الذي ?يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ?، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكره بأيام الله ? وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?، وتحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا، فما أحد سواه مغبون...

 

والمقتضي لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يوجب الرب على المربوب، ومن أُنسهم بهذه الدار وهم يُزعجون عنها، ومن علمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود، وهم لا يتحققون منها، ولا سيما القضاة الذين تحملوا أعباء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهمم نحيفة، والله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى مع ذلك أمنا ولا قرارا، ولا راحة، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصَر همَّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فغاية مطلبه الحياة والمنزلة في قلوب الناس، وتحسين الزي والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر خيبة حاله، ولا ركاكة مقصده، فهذا لا كلام معه، فإنك لا تسمع الموتى، وما أنت بمسمع من في القبور.

 

فاتق الله الذي يراك حين تقوم؛ واقصُرْ أملَك عليه، فالمحروم من أمله غير مرحوم، وما أنا وأنتم أيها النفر، إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل: ليتنا لم نُخلق! فقال: قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفي عنكم من ذلك فتأملوا كلام النبوة: القضاة ثلاثة. وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقاً عليه: لا تتأمرن على اثنين، ولا تلين مال يتيم. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...

 

وهذه أحوال لا توجد في كتاب السَلَم ولا الإجارة ولا الجنايات، نعم! إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينك الهجوع، ومما يعينك على الأمر الذي دعوت إليه، ويزودك في سيرك إلى الغرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالفكر والتدبير، وأناة تجعلها مُعدًّة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صدأه، صعب تلافيه، وأعرَضَ عنه من هو أعلم بما فيه، فاجعل أكبر همومك الاستعداد للمعاد والتهيؤ لجواب الملك الجواد، فهو يقول ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ?...

 

هذه نصيحتي إليك، وحجتي بين يدي الله، إن فرَّطتَ، عليك، اسأل الله لي ولك، قلبا واعيا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة، بمنه وكرمه.

 

وباشر ابن دقيق العيد القضاء بنزاهة وعفة وقيام في الحق وصلابة في الحكم، وانتزع في أيام ولايته كثيرا من الأوقاف كانت أخرجت إقطاعات، وكان إذا تخاصم إليه أحد من أهل الدولة بالغ في التشدد والتثبت، فإن سمع ما يكرهه عزل نفسه، فعل ذلك مرارا، حتى مع الأمير منكوتمر أكبر أمراء الدولة، ولم يدخل عليه شيء فيما يتعلق بالقضاء، إلا أن جماعة من حاشيته كادوه في توليته الحكم لمن لا يصلح، وكانوا إذا اعتنوا بشخص عرَّفوه موضع الدرس، فإذا حضر مع الشيخ أخذ في الكلام معه فيعجبه ويصفه بالفضل، ويسأل عنه فيصفونه بزيادة على ذلك، وأنه يحتاج إلى ما يعينه على القيام بأوده، وكان الشيخ يحب أهل العلم ويكرمهم ويتفضل عليهم، فيسألونه أن يوظفه في جهة معينة فيوليه.

 

ومنع ابن دقيق العيد نوابه من ضرب الناس من المستورين بالسوط، قال النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب: وأما في عصرنا هذا فقد كان شيخنا الإمام العلامة القدوة، مفتي الفرق، بقية المجتهدين، تقي الدين القشيري المعروف بابن دقيق العيد منع نوابه من أن يضربوا بالدُّرة في أثناء ولايته قاضي القضاة بالديار المصرية، وقال: إنه عار يلحق ولد الولد. وكان سبب منعه لذلك أن بعض نوابه عزَّر بعض أعيان البلد التي هو ينوب بها بالدرة في المسجد الجامع، وقال له عقيب ضربه: قد ألحقتُك بأبيك وجدِّك! ففارق ذلك الرجل بلاده ووطنه؛ فلما اتصل الخبر بقاضي القضاة شقَّ عليه، ومنع نوابه من الضرب بالدرة.

 

واختار ابن دقيق العيد نواباً له في القضاء على شاكلته في التصون والعلم، منهم الفقيه العلامة الزاهد نجم الدين البالسي، محمد بن عقيل، المولود سنة 640 والمتوفى بمصر سنة 729، ومنهم العلامة شمس الدين ابن عدلان، محمد بن أحمد بن لاحق، المتوفى بالطاعون في مصر سنة 749 عن بضع وثمانين سنة، وكان من أفقه الناس في زمنه من الشافعية ودارت عليه الفتيا.

 

ومن إصلاحات ابن دقيق العيد أن جعل في المحكمة خزانة يضم لها أموال القُصَّر، وتسمى المودَع الحُكمي، وقرر أن من مات وله وارث إن كان كبيراً قبض حصته، وإن كان صغيراً جعل المال في المودع، وإن كان للميت وصي خاص ومعه عدول، يندبهم القاضي لينضبط أصل المال على كل تقدير .

 

واستناب ابن دقيق العيد ابنه محب الدين علي، اتباعاً لتقليد أضحى عريقاً بين قضاة الدولة المملوكية، ويبدو أن الابن أخطأ في بعض التصرفات، أو أن بعض الناس أشاعوا حوله، بل وحول والده، شائعات السوء، فلما بلغه كلامهم، تأثر وعزل نفسه في أوائل سنة 697،  فاسترضاه رجال الدولة، وأوصوه ألا يستنيب ابنه، ففعل وعاد للقضاء بعد أيام.

 

وكان نائب السلطنة الأمير سيف الدين منكوتمر قد انتهز الفرصة ليشنع على الشيخ الذي وقف له بالمرصاد في بعض المناسبات، فكتب كتاباً بهذه التهم إلى الشيخ الجليل، فرد عليه بخطاب طويل رد فيه التهم واحدة واحدة، ثم قال في آخره: فكتب الأمير إلي كتاباً يُكتَبُ إلى من ليس عنده من الدين شيء، ولو كان الأمير عرف مني ارتكاب الكبائر الموبقات ما زاد على ما فعل، وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر نبيه بالمباهلة والملاعنة في الدين، فقال لأهل الكتاب ?فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ?، فنتمثلُ أمر الله لرسوله ونقول: اللهم يا شديد البطش، يا جبار يا قهار يا حكيم، يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، يا قوي يا عزيز، قد نُسِبتُ إلى أكل الحرام من مال المدارس الغائبة، وإلى أمور أنت عالم بسرها، فإن كان ذلك في علمك صحيحاً، فاجعل لعنتك ولعنة ملائكتك والناس أجمعين عليَّ، وإن لم يكن صحيحاً فاجعلها على من افترى عليَّ بها، وإن كان الولدُ قد فعل ما قيل من أخذ البراطيل فاجعلها عليه، وإن لم يكن فاجعلها على من افترى عليه. فهذا إنصاف وامتثال لما أمر الله به ورسوله، وربك بالمرصاد، والشكوى إلى الله الحكم العدل.

 

وفي سنة 699 سقطت دمشق بيد الجيش المغولي الذي قاده غازان، بعد أن تخلى عنها الملك الناصر وعاد إلى القاهرة ليتصدى لمؤامرة دبرت لخلعه، وبدأ بعد استقرت أموره في الإعداد لجيش يسير به إلى الشام ويواجه المغول، ولإعطاء صورة عن تعبئة الجيش أنقل هنا ما ذكره المقريزي في السلوك مع شيء من التصرف: ثم أخذ السلطان الناصر في التجهيز للمسير إلى الشام ثانياً... وجمعوا صنّاع السلاح للعمل، وأخذ الوزير في جمع الأموال للنفقة، وكتب إلى أعمال مصر بطلب الخيل والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري، فبلغ القوس الذي كان يساوي ثلاثمئة درهم إلى ألف درهم، وأُخذت خيول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية، وطلبت الجمال والهجن والسلاح ونحو ذلك، فأبيع ما كان بمئة؛ بسبعمئة وبألف، ونودي بحضور الأجناد البطالين، فحضر خلق كثير من الصنائعية، ونزلوا أسماءهم في البطالين... واستخدم جماعة من الأمراء الغزاة المطوعة احتساباً.

 

وطلب الملك الناصر من مجد الدين عيسى بن الخشاب محتسب القاهرة أن يأخذ فتوى الفقهاء بأخذ المال من الرعية للنفقة على العساكر، فأحضر الفتوى التي أصدرها الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في أيام الملك المظفر قطز، أن يؤخذ من كل إنسان دينار، فأمره الأمير سلار بأن يأخذ عليها خط الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، فأبى الشيخ أن يكتب بذلك، فشق هذا على سلار واستدعاه وقد حضر عنده الأمراء، وشكا إليه قلة المال وأن الضرورة دعت إلى أخذ مال الرعية لأجل دفع العدو، واحتج عليه ابن الخشاب بفتوى العز ابن عبد السلام، فنظر إليه ابن دقيق العيد وتبسم وقال: يا فقيه، تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال: لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم، ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهباً ولا لزوجته وأولاده مصاغاً ولا غيره. فلما سمعوا هذا من الشيخ العز ابن عبد السلام قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حُليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى! ويا فقيه، أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير من الأمراء له مال جزيل، وفيهم من يجهز بناته بالجواهر واللآلئ، ويعمل الإناء الذي يٌستنجي منه في الخلاء من فضة، ويرصع قباقيب زوجته بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل؟! ثم قام ناهضاً وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب، وكان الشيخ قصد بهذا تسميع الأمير سلار والأمير بيبرس، وكان كل منهما قد جهز ابنته بما لا يوصف ولا يضبط.

 

وفي منتصف سنة 700 وقعت فتنة في القاهرة بين المسلمين وبين أهل الذمة، حركها وزير مغربي مر بالقاهرة في طريقه إلى الحج، فرأى موكباً لأحد كبار موظفي الديوان من الأقباط وكأنه أحد أمراء الدولة، والناس يسألونه ويتضرّعون إليه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه، فغضب وكلم الأمراء أن يرحموا المسلمين بما نالهم من قسوة النصارى، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله وتسليط عدوّهم عليهم من تمكين النصارى، وأن الواجب إلزامهم الصَغَار، وحمْلَهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم ودَيَّان اليهود، وحضر القضاة الأربعة، وأُلزم بطرك النصارى طائفته بلبس العمائم الزرق وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من ركوب الخيل والبغال، ثم اتبعه ديان اليهود فالتزم كذلك، ومنعوا جميعاً من الخدمة في ديوان السلطان ودواوين الأمراء حتى يُسلموا، وأراد المغربيّ أن يقرر القضاة الأربعة هدم الكنائس، فلم يمكنه قاضي القضاة تقيّ الدين ابن دقيق العيد من ذلك، وكتب خطه بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلا ما استجد بناؤه، فغلقت عدّة كنائس بالقاهرة ومصر مدّة أيام، وتسلطت الغوغاء على النصارى واليهود، ومن رأوه بغير الزيّ المفروض ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك، فاختفي كثير منهم، وألجأت الضرورة عدة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أَنَفَة، وبقيت الكنائس في مصر مغلقة مدة سنة، حتى راسل في ذلك ملوك الفرنج، وأرسل ملك برشلونة فريدريك الثالث في سنة 703 هدية جليلة زائدة عن عادته، عمّ بها جميع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان، وكتب يسأل في فتح الكنائس، فاتفق رأي الأمراء على فتح كنيسة حارة زويلة لليعاقبة، وفتح كنيسة البندقانيين من القاهرة.

 

وفي سنة 701 توفي الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله وكان قد عهد لابنه سليمان بالخلافة، وكان سليمان لم يبلغ 20 سنة لأنه ولد سنة 684، وكان له أخ أكبر منه نازعه في أمر الخلافة، فتوقف الملك الناصر محمد بن قلاوون في أن يمضي وصية والده، حتى سأل الشيخ ابن دقيق العيد، وهو قاضي القضاة يومئذ: هل يصلح للخلافة أم لا؟ فقال الشيخ تقي الدين: نعم يصلح. والطريف أن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان في سن سليمان إذ ولد كذلك سنة 684.

 

مرض ابن دقيق العيد في أواخر سنة 701، وتوقف عن الدرس، وخرج من القاهرة إلى بستان في ظاهرها فأقام به قرابة شهرين حتى وفاته رحمه الله تعالى، وبعد وفاته أمر السلطان أن يخلفه في القضاء قاضي القضاة بدمشق الإمام بدر الدين الكناني، الكناني الحموي، المولود سنة 639 والمتوفى سنة 733.

 

ورثاه شرف الدين محمد بن محمد بن عيسى القوصي بقوله:

سيطول بعدك في الطلول وقوفي ... أروي الثرى من مدمعي المذروف

أبكي على فقد العلوم بأسرها ... والمكرمات بناظر مطروف

أمحمد بن علي بن وهب دعوةٌ ... من قلبِ مشجون الفؤاد أسيف

يا طالبي المعروف، أين مسيركم ... مات الفتى المعروف بالمعروف!

المشترى العليا بأغلى قيمة ... من غير ما بخس ولا تطفيف

ما عنَّف الجلساء قط، ونفسه ... لم يُخلِها يوما من التعنيف

يا مرشد الفتيا إذا ما أشكلت ... طرقُ الصواب، ومنجدَ الملهوف

أفنيت عمرك في تقى وعبادة ... وإفادة للعلم أو تصنيف

أمنِتْ أحاديثُ الرسول به من ... التبديل والتحريف والتصحيف

ومضى وما كُتبت عليه كبيرة ... من يوم حل بساحة التكليف

 

كان ابن دقيق العيد ساكناً وقوراً، قليل الكلام كثير التفكر، قال: ما تكلمت بكلمة، ولا فعلت فعلا، إلا أعددت له جوابا بين يدي الله تعالى. وقال رحمه الله: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف عليها المحدثون والحكام. يعني القضاة. وكان كثير الورع والمحاسبة لنفسه، قال تلميذه تاج الدين الدشناوي: خلوت به مرة، فقال لي: فزتَ برؤية الشيخ زكي الدين المنذري! فقلت له: وبرؤيتك. فقال: كان الشيخ زكي الدين أدين مني. وسكت ساعة ثم قال: غير أني أعلم منه. وزكي الدين المنذري هو الحافظ عبد العظيم المنذري شيخ ابن دقيق العيد الذي سبق ذكره، والذي توفي سنة 656، ورآه الدشناوي وهو دون العاشرة، إذ ولد سنة 646.

 

وكان ابن دقيق العيد متسامحاً رصيناً لا يدخل في مهاترات لا طائل من ورائها، وقع فيه الشيخ أبو حيان النحوي، محمد بن يوسف الغرناظي النفزي، المولود بغرناطة سنة 654 والمتوفى بالقاهرة سنة 745، وكان من كبار العلماء بالتفسير والعربية والحديث، فلم يدخل معه في عداوة أو مهاترة، ولذلك قصة يستحسن إيرادها، فقد كان الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد قد نزل عن تدريس مدرسة لولده، فحضر الشيخ أبو حيان درس قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز، وكان موضوعه تفسير الآية الكريمة من سورة الأنعام ?قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ?، فبرز أبو حيان من الحلقة وقال: يا مولانا قاضي القضاة، قدَّموا أولادهم! قدموا أولادهم! يكرر ذلك، فقال قاضي القضاة: ما معنى هذا؟ قال: ابن دقيق العيد نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانية. ولما قيل ذلك لابن دقيق العيد قال: أما أبو حيان ففيه دعابة أهل الأندلس ومجونهم، وأما أنت يا قاضي القضاة، فيُبدَّل القرآن في حضرتك، وما تنكر هذا الأمر؟!

 

ولم يحقد ابن دقيق العيد على قاضي القضاة ابن بنت الأعز بل وقف إلى جانبه في محنة شديدة تعرض لها، وقام بما يرضي الله ورسوله، ذلك إن الوزير شمس الدين ابن السلعوس كاد لابن بنت الأعز حتى عزله،  ثم سعى في عمل محاضر تثبت كفره، وأخذ توقيع جماعة من العلماء على المحاضر، ولم يبق إلا توقيع ابن دقيق العيد، فأرسل إليه المحاضر مع نقيب وقال: يا مولانا، الساعة تضع خطك على هذه المحاضر. فأخذها ابن دقيق العيد وشرع يتأملها واحداً بعد واحد، والنقباء يتواتر ورودهم بالحث والطلب والإزعاج، وأن الوزير في انتظار ذلك، والسلطان قد حث في الطلب، وابن دقيق العيد هادئ لا ينزعج، وكلما فرغ محضراً دفعه إلى الآخر، ثم قال: ما أكتب فيها شيئاً! قالوا: يا سيدي، لأجل السلطان والوزير. فقال: أنا ما أدخل في إراقة دم مسلم. فاقترح أحد الحضور: اكتب خطك بذلك وبما يخلِّصه. فقال: يا فقيه ما عقلي عقلك، هم ما يدخلون إلى السلطان ويقولون قد كتب فلان بما يخالف الباقين، وإنما يقولون قد كتب الجماعة، وهذا خط ابن دقيق العيد. فأكون أنا السبب الأقوى في قتله. فبطلت مكيدة الوزير بهذا الموقف الحكيم الحازم، وسلم قاضي القضاة من الموت.

 

ولئلا يتبادر إلى الذهن أن مكانة قاضي القضاة هي السبب في موقف ابن دقيق العيد، نورد قصة تبين تسامحه حتى مع الصغار، قال برهان الدين إبراهيم المصري الحنفي الطبيب وكان قد استوطن قوص سنين: كنت أباشر وقفاً فأخذه مني شمس الدين محمد بن أخي الشيخ ابن دقيق العيد،  وولاه لآخر، فعزَّ عليَّ، ونظمت أبياتاً في الشيخ فبلغته، فإذ أنا أمشي مرة خلفه وإذا به قد التفت إلي وقال: يا فقيه، بلغني أنك هجوتني؟ فسكتُّ، فقال: أنشدني، وألح علي، فأنشدته الأبيات وهي:

 

ولِيتَ فولّى الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تُظهِرُ

رَكنتَ إلى الدنيا وعاشرتَ أهلها! ... ولو كان عن جبرٍ؛ لقد كنت تعذر

 

فسكت زماناً وقال

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين