حدث في الخامس والعشرين من صفر وفاة سيف الدولة الحمداني

 

 

في الخامس والعشرين من صفر من عام 356 توفي في حلب، عن 53 سنة، سيف الدولة الحمداني، علي بن عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث التغلبي الوائلي، الأمير الفارس والأديب الشاعر، قال الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر: كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجُههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، وكان غرة الزمان، وعماد الإسلام... وغزواته تدرك من طاغية الروم الثار، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار.

 

ولد سيف الدولة في ميافارقين بديار بكر في 17 ذي الحجة سنة 303، وسبب ولادته هناك أن الجزيرة وهذه المناطق التي يقال لها ديار ربيعة، كانت إمارات لبني حمدان، وكان والده أبو الهيجاء عبد الله أميراً عليها، وهنا يجدر أن نتحدث عن صعود بني حمدان على يد عم ووالد سيف الدولة: الحسين وعبد الله، وفقاً لتسلسل الأحداث ومع ملاحظة أن سيرة بعضهم دخلت في بعض، وأعتذر مسبقاً عن الإطالة التي اقتضاها استيفاء الموضوع.

 

كان عم سيف الدولة الحسين بن حمدان أول من ظهر أمره من ملوك بني حمدان ، كان أميراً شجاعاً مقداماً انتدبه الخليفة العباسي المعتضد بالله سنة 283 لقتال هارون بن عبد الله الخارجي، فقصده وأسره، فارتفعت منزلته عند المعتضد، وتوفي المعتضد سنة 289، عن 47 سنة، وتولى الخلافة بعده ابنه عليّ الذي تلقب بالمكتفي بالله، وكلف المكتفي في سنة 293 الحسين بن حمدان برد اعتداءات القرامطة على أواسط العراق، وكذلك ولّى على الموصل وأعمالها والدَ سيف الدولة: أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان، وكان بعض الأكراد قد أفسدوا في نواحيها فتعقبهم حتى كبح جماحهم وردهم إلى الطاعة.

 

ومات المكتفي آخر سنة 295، عن 33 سنة، ودبر الوزير العباس بن الحسن تنصيب أخيه جعفر خليفة محله، ولقبوه بالمقتدر بالله، وكان عمره 13 سنة، ثم استصغر الوزير الخليفة واتفق مع جماعة من القواد والكتاب والقضاة على خلع المقتدر، واتفقوا مع عبد الله بن المعتز أن ينصبوه خليفة، وكان الحسين بن حمدان معهم، ثم رجع الوزير عن ذلك لما رأى أمره مستوثقاً له مع المقتدر، وولد صغير يدبره خيرٌ له من كبير ذي رأي مستقل، فلما أعلم الوزير المتآمرين برجوعه عن تعيين ابن المعتز، وثب عليه الحسين بن حمدان فقتله، وأراد قتل المقتدر فلم يصادفه، وبايع المتآمرون عبد الله بن المعتز، ولكن قواد المقتدر وحاشيته وغلمانه، وهم صنائع جده وأخيه، رفضوا تنصيب المعتز وقاتلوه وهزموه، وعاد المقتدر إلى سدة الخلافة في اليوم التالي.

 

وهرب الحسين بأهله إلى الموصل، فأمر المقتدر أخاه أبا الهيجاء والد سيف الدولة أن يقبض عل أخيه، فسار وراءه وأدركه، واقتتلوا مرتين سجالاً، ثم طلب الحسين الأمان من المقتدر فأمنه، فعاد إلى بغداد، فولاه قُم وكاشان في فارس، فيما يشبه النفي، ثم رضي عنه وولاه ديار ربيعة وهي الجزيرة الفراتية.

 

وفي سنة 301 امتنع والد سيف الدولة عبد الله بن حمدان على الخليفة المقتدر، فسير إليه جيشاً إلى الموصل يرأسه أحد قواده المدعو مؤنس المظفر، فاستأمن إليه أبو الهيجاء من تلقاء نفسه، وورد معه إلى بغداد حيث خلع المقتدر عليه وأعاده إلى ولاية الموصل في السنة التالية، ولكن أخاه الحسين، عم سيف الدولة، خرج عن الطاعة في سنة 303، واجتمع له في الجزيرة الفراتية نحو عشرين ألف مقاتل، ولكن هذا الجيش لم يلبث أن تفرق عنه، فقُبِض عليه وحمل إلى بغداد سنة 303، فحبسه المقتدر ثم قتله سنة 306، ولما وقعت الواقعة، توجس المقتدر خيفة من جميع إخوة الحسين ومنهم أبو الهيجاء والد سيف الدولة، فأمر بسجنهم في دار الخليفة حيث مكثوا في الحبس إلى سنة 305، وانتهز الروم البيزنطيون فرصة خلو الحدود من الأمراء وانشغال الجيش ببني حمدان فهاجموا الثغور الإسلامية دون أن يجدوا من يصدهم.

 

وفي سنة 307 بدأت الأمور تعود إلى سابق عهدها بالنسبة لبني حمدان، فقد قلد الخليفة المقتدر ديارَ ربيعة عم سيف الدولة الآخر: إبراهيم بن حمدان، وفي السنة التي تليها قلد الخليفة المقتدر طريقَ خراسان والدِّينور لوالد سيف الدولة عبد الله بن حمدان، فبقي في بغداد وأرسل ابنه الأكبر الحسن إلى الموصل، وفي سنة 309 عزل الخليفة المقتدر إبراهيم بن حمدان عن ديار ربيعة وقلدها أخاه الأصغر داود بن حمدان، وكان داود من أشجع إخوانه.

 

وفي سنة 314 عاث جماعات الأكراد والبدو الفساد بأرض الموصل وطريق خُراسان، فأمر أبو الهيجاء ابنه الحسن بجمع الرجال ومواجهتهم، ففعل ونكّل ببعضهم، فعادوا إلى الطاعة لّما رأوا قوّته، وكفّوا عن الفساد والشر، وصارت له مكانة بذلك، وأصبح بنو حمدان من المقربين من الخليفة المقتدر إلى درجة أنهم في سنة 315 وقعت وحشة بين المقتدر وأكبر قواده مؤنس المظفر، فسعى في تقريب الطرفين والد سيف الدولة عبد الله بن حمدان وإخوته.

 

وكان القرامطة قد انتهزوا الفوضى والفراغ والضعف الذي أوهن الدولة العباسية، فبدأوا في مهاجمة البلدان واحتلالها، وقصدوا في سنة 315 مدينة هيت في جيش من ثمانين ألف، ولكن المقتدر كان قد سير إليها قبلهم سعيد بن حمدان في 2700 مقاتل، فقاتلهم وهزمهم فعادوا عنها، واطمأن أهل بغداد بهذا النصر المبين، ولكن القرامطة اتجهوا شمالاً ثم غرباً، حتى وصلوا قريباً من حدود بيزنطة واحتلوا سنجار والرحبة والرقة، وهاجم البيزنطيون مدن الثغور فهزموا أهل طرسوس وقتلوا عدداً منهم في أول الأمر، ثم كر عليهم أهل طرطوس وهزموهم.

 

وعاد البيزنطيون في سنة 316 فهاجموا شرق الأناضول واستولوا على خلاط وأرزَن، وجاء أعيان تلك البلاد إلى بغداد يستغيثون بالخليفة، وأنى له أن يغيثهم، فقد كان الخليفة في موقف لا يحسد عليه، وفي أول سنة 317 قام القائد مؤنس المظفر بعزل الخليفة المقتدر وتعيين أخيه محمد الذي تلقب بالقاهر بالله، وكان ساعد مؤنس الأيمن في ذلك أبا سيف الدولة أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان، ولما خلع الخليفة نفسه مكرهاً من الخلافة، قال له أبو الهيجاء معاتباً: يا سيّدي يعزّ عليّ أن أراك على هذه الحال، وقد كنتُ أخافها عليك، وأحذَرُها، وأنصح لك، وأحذّرك عاقبة القبول من الخدم والنساء، فتؤثر أقوالهم على قولي، وكأنّي كنتُ أرى هذا، وبعد، فنحن عبيدك وخدمك. ودمعت عيناه وعينا المقتدر.

 

وفشلت المحاولة بعد خمسة أيام وعاد المقتدر إلى العرش، وقُتِل رؤساء المؤامرة ومنهم والد سيف الدولة أبو الهيجاء، الذي أظهر شهامة وشجاعة بني حمدان، ذلك إنه لما فشلت المحاولة كان في صحبة الخليفة القاهر فأراد أن يخرج من الدار، فتعلق به القاهر وقال: أنا في ذمامك؛ فقال: والله لا أسلّمك أبداً! وأخذ بيد القاهر وقال: قم بنا نخرج جميعاً، وأدعو أصحابي وعشيرتي فيقاتلون معك ودونك.

 

ولما قاما ليخرجا، وجدا الأبواب مغلقة، ورأيا جموعاً كثيرة، فقال أبو الهيجاء للقاهر: قف حتّى أعود إليك. ونزع سواده وثيابه، وأخذ جبّة صوف لغلام هناك، فلبسها ومشى نحو الباب، فوجده مغلقاً والناس من ورائه، فعاد أدراجه، فهاجمه عشرة من الخدم بالسلاح، فحمل عليهم وسيفه بيده والجبّة الصوف بيده الأخرى، فانجفلوا بين يديه وهو يلحقهم، فرموه بالنشاب، فعاد عنهم، وانفرد عنه الخليفة القاهر ومشى إلى آخر البستان فاختفى فيه، ودخل أبو الهيجاء إلى كوخ خشبي في البستان، وتقدّم الخدم إلى ذلك البيت، فخرج إليهم أبو الهيجاء، فولّوا هاربين، ثم رموه بالسهام فسقط، فقصده بعضُهم فضربه بالسيف وقطعوا رأسه فحمله بعضهم ومشى وهو معه.

 

وأما الخليفة المقتدر فكان أول ما فعله بعد أن فشل خلعه وجلس في مجلس الخلافة، أن سأل عن أخيه القاهر وعن ابن حَمدان، فقيل: هما حيّان. فكتب لهما أماناً بخطّه، وأمر خادماً أن يسرع بكتاب الأمان لئلاّ يحدث على أبي الهيجاء حادث، فمضى بالخطّ إليه، فلقيه الخادم الآخر ومعه رأسه، فعاد معه، فلمّا رآه المقتدر وأُخبر بقتله، قال: إنا لله وإنّا إليه راجعون! مَن قتله؟ فقال الخدم: ما نعرف قاتله. وعظُم على المقتدر قتل أبي الهيجاء، وقال: ما كان يدخل عليّ ويسلّيني، ويُذهب عنّي الغمّ هذه الأيام غيره.

 

وكان الخليفة أضعف من أن يعاقب مؤنس الذي تزعم الانقلاب عليه، فتركه على مضض دون منصب رسمي في الدولة، وبسبب هذا الضعف وما تولد عنه من الفتن ضعفت ثغور الجزيرة الفراتية عن دفع الروم البيزنطيين، وجاءت رسل أهل مَلَطْية وميّافارقين وآمِد وأررضروم وغيرها إلى الخليفة ببغداد يذكرون عجزهم، ويطلبون إمدادهم ببعض العساكر لتمنع عنهم، وإلا فيستأذنون في تسليمها لملك الروم، فلم يحصلوا على جواب مفيد فعادوا.

 

وفي أول سنة 318 قلَّد الخليفة المقتدر الموصل وأعمالها لأخي سيف الدولة الأكبر الحسن بن عبد الله بن حمدان، ثم ما لبث أن نقله منها إلى ولاية ديار ربيعة، ونَصِيبين، وسِنجار، والخابور، ورأس عين، ومعها من ديار بكر، ميّافَارقين وأرزن، وولّى الموصل وديار ربيعة لسعيد بن حمدان عم سيف الدولة وشرط عليه غزو الروم، وأن يستنقذ مَلَطْية منهم، وكان أهلها قد ضعفوا، فصالحوا الروم، وسلّموا مفاتيح البلد إليهم.

 

وكان سعيد عند ظن المقتدر ففي سنة 319 سارت عساكر الروم إلى سُمَيساط فحاصروها، فاستصرخ أهلها بسعيد بن حَمدان، فلمّا جاءه رسولهم تجهّز وسار إليهم مسرعاً، فوصل وقد كاد الروم يفتحونها، فلمّا قاربهم هربوا منه، وسار سعيد إلى مَلَطية وبها جمع من الروم والأرمن، فلمّا أحسّوا بمسيره خرجوا منها، وخافوا أن يأتيهم في عسكره من خارج المدينة، ويثور أهلها بهم فيهلكوا، ففارقوها، ودخلها سعيد ثم استخلف عليها أميراً، وعاد عنها، فدخل بلاد الروم غازياً وعاد بعد ذلك ظافراً منصورا.

 

وفي سنة 320 ارتاب القائد مؤنس في تحركات يقوم بها وزير الخليفة المقتدر، وقدر أنها تستهدف القضاء عليه، فخرج إلى الموصل في أنصاره ومماليكه، وكتب إلى رؤساء قبائل البدو يستدعيهم، ويبذل لهم الأموال والخِلع، وزعم في كتابه أنّ الخليفة قد ولاّه الموصل وديار ربيعة، وكتب وزير الخليفة إلى سعيد بن حمدان وأخيه الأصغر داود، يأمرهم بمحاربة مؤنس وصده عن الموصل، والتقى الطرفان قرب الموصل؛ بنو حمدان في 30.000 ومؤنس في 800 فارس، فانهزم بنو حمدان ولم يقتل منهم سوى داود، ومن المؤلم أنه كان ربيب مؤنس، وخرج كارهاً أو مكرهاً لقتاله، فأصابه سهم في عينه فقتله.

 

واحتل مؤنس الموصل ثم انحدر بجنوده إلى بغداد، وخرج الخليفة لمقاتلتهم، فقُتِلَ في غياب مؤنس ودون علمه، فلما جاءه الخبر استنكر ذلك استنكاراً شديداً، وبكى ولطم وجهه ورأسه، وقال: يا مفسدون! ما هكذا أوصيتُكم؛ والله لنُقتَلنّ كلّنا! وكان ما فعله مؤنس سبباً لجرأة أمراء الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بال، وانخرقت هيبة الخلافة، واستقلَّ كثير من الولاة بما كانوا يلون.

 

وشاور مؤنس كبار من حوله في تنصيب ابن المقتدر محل والده، وقال: هو تربيتي، وهو صبيّ عاقل، وفيه دِين وكرم، ووفاء بما يقول، وإذا جلس في الخلافة نضمن سكون جدّته، والدة المقتدر، وإخوته، وغلمان أبيه. فاعترض أحدهم، وقال: بعد الكدّ والتعب استرحنا من خليفة له أمّ، وخالة، وخدم يدبّرونه، فنعود إلى تلك الحال! والله لا نرضى إلاّ برجل كامل، يدبّر نفسه، ويدبّرنا. فاختاروا أخا المقتدر محمّد بن المعتضد، ولقّبوه القاهر بالله، وجرى ذلك على كُره من مؤنس، الذي كان يتوجس منه خيفة.

 

ولم يخب حدس مؤنس ، فمن أجل أن يملأ الخزائن الفارغة صادر الخليفة الجديد القاهر بالله والدة المقتدر وعذبها ألوان العذاب، وتعقب أولاد المقتدر وسجنهم، وكلها أمور ما حدثت من قبل، فكرهه الناس،ثم بدأت الحاشية تنسج المكايد بعضها لبعض والخليفة القاهر يكيد لهم جميعاً، وانتهت الأمور بالقبض على مؤنس وكبار جماعته وقتلهم واستتبت الأمور للقاهر، ولكنه كان مكاراً بطاشاً لا أمان له، أساء معاملة حاشيته وكبار المملكة، فتآمروا عليه وعزلوه في سنة 322 بعد 18 شهراً من توليته، وسملوا عينيه، وأقاموا محله أحمد بن المقتدر، المولود سنة 297، الذي تلقب بالراضي بالله.

 

وفي سنة 323 ولّى الراضي على الموصل وديار ربيعة بالله سعيدَ بن حمدان، وهو والد الشاعر أبي فراس الحمداني، وكان عليها ابن أخيه الحسن بن عبد الله، أخو سيف الدولة، وكان التعيين سرياً لتمكين سعيد من دخول الموصل وتسلمها بخديعة ابن أخيه، ولكن ابن الأخ علم بما يدبر له فقتل عمه، فاستاء الراضي بالله وسير إلى الموصل عسكراً لقتاله، فهرب الحسن من الموصل، ثم أعمل الحيلة حتى أعاد الجيش إلى بغداد، فلما خرج منه هاجم الموصل واستولى عليها، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، فأجابه إلى ذلك واستقرّت البلاد له، وعين الحسن أخاه سيف الدولة نائباً له على ميافارقين وديار بكر، وهذا أول منصب في الإمارة لسيف الدولة، وكان عمره 20 سنة.

 

وهاجم البيزنطيون في سنة 324 آمد، وهي اليوم ديار بكر، وسميساط قرب أضنة، فسار إليهم سيف الدولة وهزمهم، ثم عاد إلى أرزَن،  وكان حاكمها قد عصى على بنى حمدان، فحاصره سيف الدولة إلى أن التمس منه الأمان ونزل على حكمه فأمنه، ونظر سيف الدولة في مصالح ميافارقين، ورمم ما كان تهدم من سورها، وعمر بها مواضع كثيرة، ظاهرا وباطنا.

 

ولم تستقر الأمور للخليفة الراضي، فقد خرج عليه في كل مكان أمراء ومتغلبون، منهم آل بويه الذين كانوا في أول صعودهم وتوسعهم من فارس إلى العراق، ولم يبق للخليفة سلطان إلا على بغداد وأعمالها، وفي آخر سنة 326 استولى بجكم الديلمي على بغداد، فلم يملك الخليفة الراضي بالله إلا أن يخلع عليه ويجعله أمير الأمراء.

 

وفي سنة 327 امتنع الحسن بن حمدان من تأدية ما عليه من الأموال لخزانة الخلافة، فسار الراضي بالله وبجكم الديلمي إلى الموصل وديار ربيعة، والتقوا في معركة قرب الموصل، وكانت الدائرة على ابن حمدان فهرب إلى نصيبين، وتبعه بجكم فهرب منها إلى ديار بكر، وفي هذه الأثناءخرجت بغداد من يد الخليفة، واستولى عليها محمد بن رائق أحد كبار قواده، فعاد الراضي وبجكم بسبب ذلك، وكان ابن حمدان قد راسلهم في طلب الصلح فأجابوه بسبب ذلك، ثم صالحوا محمد بن رائق على أن يوليه الخليفة الشام، فسار إليها وملك حمص والشام وسار إلى العريش يريد أن ينتزع مصر من حكامها الإخشيديين، ودارت بينه وبينهم معركتان، وانتهت الأمور بينهما على أن تكون الرملة وما وراءها إلى مصر للإخشيد، وباقي الشام لمحمد بن رائق، ويحمل إليه الإخشيد عن الرملة كل سنة مئة وأربعين ألف دينار.  

 

وتوفي الراضي بالله سنة 329 عن 32 سنة، وأمر بجكم الديلمي، أمير العراق الفعلي، أن يجتمع أهل الحل والعقد ويختاروا خليفة، فاختاروا إبراهيم بن المقتدر وتلقب بالمتقي لله، وطلب المتقي من محمد بن رائق أن يترك الشام وينضم إليه في صورة وزير ففعل، وقُتل بجكم في أثناء ذلك، فصار الأمر والنهي في بغداد لابن رائق.

 

وظهر متمرد آخر في الأهواز هو أبو عبد الله أحمد بن محمد البريدي، والتقى الطرفان في منتصف سنة 330 في معركة انجلت عن هزيمة جانب الخليفة وابن رائق، واستولى البريدي على بغداد، وكان المتقي لله قد أرسل إلى الحسن بن حمدان يستمده على البريدي، فأرسل الحسن أخاه سيف الدولة نجدةً له في جيش كثيف، فلقي المتقي وابن رائق بتكريت وقد انهزما، فخدم سيف الدولة المتقي خدمة عظيمة، وسار معه إلى الموصل، وسار أخوه منها ليلتقي بابن رائق وزير الخليفة المتقى، فلما التقيا صاح ابن حمدان بأصحابه: اقتلوه ! فقتلوه، وألقوه في دجلة، ولما بلغ الإخشيد في مصر مقتلُ ابن رائق عاد واسترد دمشق. 

 

وأرسل الحسن بن حمدان إلى الخليفة المتقي يعتذر ويقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله، ففعل به ما فعل. فرد عليه المتقي رداً جميلاً، وأمره بالمسير إليه، فسار إلى المتقي لله، فخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه علي ولقبه سيف الدولة، وعاد الخليفة إلى بغداد مع ناصر الدولة، وبقي سيف الدولة في واسط مع جيشه خشية أن يشن البريدي هجوماً آخر، ومرة أخرى استغل الروم البيزنطيون هذه الأحداث فشنوا الغارات حتى وصلوا قرب حلب، وأسروا الآلاف ثم عادوا.

 

وفي سنة 331 زاد نفوذ ناصر الدولة فقد زوج ابتته علوية بإسحاق ابن الخليفة المتقي، وبدأ يمارس على الخليفة وصاية ويتحكم في مصاريفه، وصار هو الذي يقبض ما يجبى إليه من الأموال، وفي منتصف السنة شن المتمرد البريدي غارة على سيف الدولة في واسط، فانهزم سيف الدولة إلى أخيه ناصر الدولة وكان في لمدائن، فأمرهم ناصر الدولة بالعودة وأضاف إليهم من كان عنده من الجيش، فعاودوا القتال، وهزموا البريدي فانسحب إلى واسط، ولم يقدر سيف الدولة على اتباعه إليها لما في أصحابه من الوهن والجراح. 

 

ثم بعد شهر ثار جماعة من الأتراك في جيش سيف الدولة عليه، وأرادوا أن يقتلوه في الليل، وقُتِل جماعة من أصحابه، فهرب من معسكره إلى أخيه ناصر الدولة في بغداد، وأرسل سيف الدولة إلى المتقي لله يطلب منه مالاً ليقاتل الأتراك في حال قصدوا بغداد، فأنفذ إليه أربع مئة ألف درهم، ففرقها في أصحابه، وظهر من كان مستخفياً منهم ببغداد وخرجوا إليه، ولكن سيف الدولة لما علم أن القائد التركي توزون قصد بغداد، رحل عنها ودخلها توزون الذي خلع عليه المتقي لله، وجعله أمير الأمراء.

 

وفي سنة 332 طلب الخليفة المتقي من ناصر الدولة إنفاذ جيش إليه يتقوى به على توزون، فوعده بذلك ناصر الدولة وأعد جيشاً كبيراً، وخرج المتقي في حرمه وأهله ووزيره وبعض أعيان بغداد إلى تكريت، فلاقاهم به الحسين بن سعيد بن حمدان ابن عم ناصر الدولة، ثم جاء سيف الدولة إلى المتقي لله بتكريت برسالة مفادها أن يصعد معه إلى الموصل، فاستاء المتقي وأرسل إلى ناصر الدولة ويقول له: ما على هذا عاهدتموني، لم يكن الشرط معك إلا أن تنحدر إلينا. فانحدر ناصر الدولة إلى تكريت، وركب المتقي إليه، فلقيه بنفسه، وأكرمه، واستقر الخليفة في الموصل.

 

وسار توزون نحو تكريت، فالتقى مع بني حمدان فاقتتلوا ثلاثة أيام انهزموا وانسحبوا إلى الموصل، فتبعهم توزون إلى الموصل، فرحل سيف الدولة وأخوه ناصر الدولة والمتقي لله ومن معهم من الموصل إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، وأقام الخليفة المتقي عند بني حمدان في الرقة.

 

ومات البريدي مريضاً في سنة 332، ولم تعد حركته تشكل خطراً، وراسل الخليفة المتقي لله القائد التركي توزون، يخبره برغبته في العودة إلى بغداد، بعد أن رأى من بني حمدان تضجراً به، فحلف توزون للمتقي والوزير بالأمان، وأشهدوا على ذلك القضاة والمشايخ، وترك المتقي سيف الدولة في الرقة وذهب  إلى بغداد في أول سنة 333، ولكن عهود توزون كانت على رمل تذروه دراج الرياح، فقد قبض على المتقى وسمله، وجعل محله المستكفي بالله؛ عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد.

 

أما سيف الدولة فبعد رحيل الخليفة سار من الرقة إلى حلب ونازلها، فسلمها أميرها الإخشيدي وسار إلى مصر، ثم سار سيف الدولة إلى حمص فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج، صاحب الشام ومصر، مع مولاه كافور، واقتتلوا، فانهزم عسكر الإخشيد وكافور، فأمر سيف الدولة غلمانه ألا يقتلوا أحداً منهم، وأسر منهم نحو 4000 أسير، ما لبث أن أطلقهم وأكرمهم فمضوا يلهجون بشكره وكرمه.

 

وملك سيف الدولة مدينة حمص، وسار إلى دمشق فحصرها، فلم يفتحها أهلها له فرجع إلى حلب، وانتهز البيزنطيون انشغال سيف الدولة بتوسيع ملكه، فهاجموا مرعش وضواحي أنطاكية، فخرج إليهم سيف الدولة وهاجمهم على حين غرة، فظفر بهم وهزمهم، ثم بلغه في الشتاء أن إحدى المدن البيزنطية قد تهدم بعض سورها، فاغتنم الفرصة وسار إليها خلافاً للعادة التي جرت أن يصير الغزو في الصيف، وقتل وسبى، ولكن أُصيب بعض جيشه.

 

وفي سنة 334 استولى البويهيون على بغداد وخلع معزُّ الدولة أحمدُ بن بويه الخليفةَ المستكفي، وجعل محله المطيع لله الفضل بن المقتدر، واضمحل أمر الخلافة إلى أقل حد، ولكن تلك السنة كانت سنة خير على سيف الدولة الحمداني، فقد اشتبك مع الإخشيد في معركة خفيفة، ثم تصالحا في ربيع الأول على أن تبقى حلب لسيف الدولة وتبقي دمشق للإخشيديين، وتزوج سيف الدولة بفاطمة بنت الإخشيد توطيداً لهذا الاتفاق الذي أرسى دعائم ملكه، وما لبث الإخشيد أن توفى عن 66 سنة في دمشق في آخر سنة 334 ، وولت الحاشية بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، وكان عمره 15 سنة، وغلب على الأمر كافور الخادم الأسود، فجاء سيف الدولة إلى دمشق، فملكها وأقام بها، ولكنه لم يبق بها إلا سنة ونيف، فقد تغير عليه أهل دمشق لما علموا نيته في مصادرة أراضي الغوطة لخزينة الدولة، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم في سنة 336 في جيش كبير هزم سيف الدولة مرتين، وانسحب سيف الدولة إلى حلب، فتبعه كافور إليها، فانسحب منها إلى الجزيرة الفراتية، واستولى كافور على حلب، ثم تصالحا على الاتفاق السابق.

 

وكان من باكورة أعمال سيف الدولة في سنة 335 أن قام بفداء الأسرى المسلمين من الروم البيزنطيين، وذلك بمبادلة من لدى المسلمين بمن عند الروم، وفي سنة 337 غزا سيف الدولة البيزنطيين في المناطق الحدودية، وتصدى الروم له وهزموه وأخذوا منه مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس.

 

وعاد سيف الدولة في سنة 339، فغزا بلاد الروم في جيش كبير بلغ عدده 30.000 جندي، وفتح حصوناً كثيراً، وأوغل فيها حتى وصل صاروخان، وسبى وغنم، فلما أراد الخروج منها، أخذ الروم عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين أسراً وقتلاً، واسترد الروم الغنائم والسبي، وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم، ونجا سيف الدولة على ظهر فرسه، وعرفه الروم فطلبوه، ولزّوه إلى جبل عظيم، وتحته واد، فخاف أن يأسروه إن وقف أو رجع، فضرب فرسه بالمهماز نحو الوادي، لكي يقتل نفسه ولا يأسروه، فوقع الفرس قائماً، وسميت هذه الغزوة غزوة المصيبة، وأخذ لسيف الدولة من الآلات والأموال ما لا يحصى، وفقد مما كان معه في صحبته خمسة آلاف ورقة بخط الخطاط العظيم أبي عبد الله بن مقلة رحمه الله، وكان منقطعاً إلى بني حمدان.

 

و في هذه الغزوة قال شاعر سيف الدولة أبو الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة وينعى تخاذل جيشه:

 

غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا

 

أهل الحفيظة إلاّ أن تجرّبهم ... وفي التّجارب بعد الغيّ ما يزع

 

بالجيش تمتنع السّادات كلّهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع

 

من كان فوق محلّ الشّمس موضعه ... فليس يرفعه شيءٌ ولا يضع

 

ثم يقول إن موعد الثأر من هذه الواقعة قريب وشيك:

 

الدّهر معتذرٌ والسّيف منتظرٌ ... وأرضهم لك مُصطافٌ ومرتبع

 

وما حمدتُك في هولٍ ثبتّ له ... حتى بلوتك والأبطال تمتصع

 

فقد يُظَنُّ شجاعاً من به خَرَقٌ ... وقد يُعدّ جباناً من به زَمَع

 

إنّ السّلاح جميع النّاس تحمله ... وليس كلّ ذوات المخلب السّبُع

 

وعاد سيف الدولة إلى حلب يرمم أمور دولته، وأرسل البيزنطيون إليه في طلب الهدنة، فرفض وتهددهم، ثم جهز جيشاً دخل بلاد الروم من ناحية حرّان، فغنموا وأسروا خلقاً، وأوعز إلى  أهل طرسوس فغزوا في البر والبحر، وحاول الروم حصار آمد، ديار بكر اليوم، فسار سيف الدولة من حلب إلى آمد، فحاربهم، وانصرف سالماً.

 

وعاد الروم في سنة 341 فهاجموا مدينة سَروج، وسبوا أهلها، وغنموا أموالهم وأخربوا المساجد، ثم خرجوا عنها فقصدها سيف الدولة وعمرها وحصنها، وبقيت في يده، وفي سنة 342 رحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر، لتعدي البدو بها، فنزل حران وأخذ رهائن من بني عقيل وقشير والعجلان، ثم قرر وهو هناك غزو الروم، رداً على مهاجمتهم لسَروج، وهي غزوة على غير العادة فقد كان الوقت شتاء، فعبر الفرات وشن الغارة على أرض وملطية، ولما أراد العودة تبعه أرمن من جيش البيزنطيين، فعطف عليهم وقتل كثيراً منهم، ورجع إلى ملطية ثم إلى سميساط، فورد عليه بها من أخبره أن البيزنطيين بقيادة القائد بارداس فوكاس، وتدعوه المصادر العربية ابن الفُقاس، وتسميه كذلك الدُمستق، وهو تعريب لكلمة يونانية تعني قائد الجيش، قد شنوا الغارة على مناطقه من جهة أخرى، فأسرع إليهم حتى أدركهم راجعين على جيحان فهزمهم وأسر قسطنطين بن نقفور، وجُرح نقفور في المعركة، وقال أبو الطيب يصف قرار سيف الدولة الآني ومسيره في الليل: 

 

لياليَّ بعد الظّاعنين شُكول ... طِوالٌ وليل العاشقين طويل

 

يُبِنَّ ليَّ البدرَ الذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل

 

وما عشتُ من بعد الأحبّة سلوةً ... ولكنّني للنّائبات حمول

 

وما قبل سيف الدّولة اثّار عاشقٌ ... ولا طُلبِت عند الظّلام ذحول

 

وما هي إلا خطرةٌ عرضت له ... بحرّان لبّتها قناً ونصول

 

همامٌ إذا ما همّ أمضى همومه ... بأرعن، وطء الموت فيه ثقيل

 

على قلب قسطنطين منه تعجّبٌ ... وإن كان في السّاقين منه كبول

 

لعلّك يوماً يا دمستق عائدٌ ... فكم هاربٍ ممّا إليه يؤول

 

نجوت بإحدى مهجتيك جريحةً ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل

 

أتسلم للخُطّيّة ابنك هارباً ... ويسكن في الدّنيا إليك خليل!!؟

 

أغرّكم طول الجيوش وعرضها ؟! ... عليٌّ شروبٌ للجيوش أكول

 

وإنّا لنلقي الحادثات بأنفسٍ ... كثير الرّزايا عندهنّ قليل

 

يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراضٌ لنا وعقول

 

وعلى إثر هذه الهزيمة المنكرة عزل الإمبراطور قسطنطين الثاني القائد بارداس فوكاس، وعهد بقيادة جيوش المشرق إلى ابنه نِقفور فوكاس، وكان نقفور معروفاً بشراسته ودمويته في القتال، وبذلك دخلت حروب المسلمين مع البيزنطيين في طور جديد وأشد.

 

وعاد سيف الدولة بعد ستة أشهر فغزا بلاد الروم البيزنطيين في أول سنة 343، فقتل وأسر، وسبى وغنم، وسار نحو ثغر الحدث لبنائه وكان أهله أسلموه بالأمان إلى البيزنطيين سنة 337، فلما وصله بدأ في يومه فخط الأساس، وحفر أوله بيده، وعلم الروم بذلك فجاءه بعد 5 أيام نقفور فوكاس في جيش كبير من الروم والأرمن والروس والبلغار والخزر، وكانوا كلهم يتبعون الدولة البيزنطية باعتبارها حامية الكنيسة الأرثوذكسية، ووقعت معركة بعد 3 أيام، دامت بضعة ساعات حسمها سيف الدولة حين حمل بنفسه على نقفور في نحو خمسمئة من غلمانه، كان قد أعدهم لمثل هذه الهجمات التي تزيح الجيوش، فانهزم الروم، وقُتِل منهم نحو 3000 جندي، وأُسِرَ كثير من قادتهم وأشرافهم، منهم البطريق ثيودور الأعور، زوج ابنة نقفور، وأقام سيف الدولة على قلعة الحدث إلى أن بناها، ووضع بيده آخر شرافة منها في 14 رجب سنة 343، وترك الأسلحة التي غنمها من البيزنطيين في الحدث تقوية لأهلها، وقال أبو الطيب في ذلك قصيدته المشهورة، وأنشده إياها بعد الوقعة بالحدث:

 

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارُها ... وتصغر في عين العظيم العظائم

يكلّف سيف الدولة الجيشَ همَّه ... وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم

ويطلب عند الناسَ ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدّعيه الضّراغم

هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أيّ السّاقيين الغمائم

سقتها الغمام الغُرّ قبل نزوله ... فلمّا دنا منها سقتها الجماجم

وكيف ترجّي الرّوم والرّوس هدمها ... وذا الطّعن آساسٌ لها ودعائم!

أتوك يجرّون الحديد كأنّهم ... سروا بجيادٍ ما لهنّ قوائم

تجمّع فيه كلّ لسنٍ وأمّةٍ ... فما يفهم الحدّاث إلاّ التّراجم

وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كَلمى هزيمةً ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم

ضممت جناحيهم على القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادم

ولست مليكاً هازماً لنظيره ... ولكنّك التوحيد للشّرك هازم

 

وأعاد سيف الدولة الكرّة في منتصف سنة 345 فجمع جيوشه وغزا بلاد البيزنطيين، حتى بلغ ملاطية وصاروخان، وفتح عدة حصون، وأسر عدداً من كبار قواد البيزنطيين وأمرائهم، ورجع إلى أضنة فأقام بها، حتى جاءه أمير طرسوس، فخلع عليه، وأعطاه شيئاً كثيراً، ولما عاد سيف الدولة إلى حلب فك قيود الأسارى وأحسن عليهم، ورداً على غارة سيف الدولة شن الروم البيزنطيون حملة على ميافارقين، وأحرقوا غلالها، وسبوا أهلها ونهبوا أموالهم، وعادوا.

 

وفي سنة 347 واجه سيف الدولة مشكلة مع البويهيين بسبب أخيه الأكبر ناصر الدول، فقد كان معز الدولة البويهي حاكم العراق الفعلي قد اتفق مع ناصر الدولة أن يحمل له من الموصل ألفي ألف درهم كل سنة، ولكنه أخرَّ حمل المال في سنة 347، فسار إليه معز الدولة إلى الموصل في منتصف السنة، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، واستولى معز الدولة على الموصل.

 

وكان من عادة ناصر الدولة الحمداني إذا قصده أحدٌ ليستولى على الموصل أن يسير عنها ويستصحب معه جميع الكتاب والوكلاء، ومن يعرف أبواب المال ومنافع السلطان، وكان يأمر قبائل العرب بالإغارة على العلاَّفة ومن يحمل الميرة، فيبقى المهاجم محصوراً مضيقاً عليه، وفعل ذات الشيء مع معز الدولة، فضاقت الأقوات عليه، وبلغ معز الدولة أن بنصيبين من الغلات السلطانية شيئاً كثيراً، فسار إليها من الموصل، ولكنه في الطريق اشتبك مع أولاد ناصر الدولة الذين أوقعوا به، ولما وصل معز الدولة إلى نصيبين، فارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، ففارقه أصحابه وعادوا إلى معز الدولة مستأمنين، فلما رأى ناصر الدولة ذلك سار إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فلما وصل خرج إليه ولقيه، وبالغ في إكرامه، وأجلسه على السرير وجلس دونه إعظاماً له، وخدمه بنفسه، حتى إنه نزع خفه بيديه، وكان سيف الدولة يجل أخاه الكبير كثيراً، وجرت بينهما يوماً وحشة فكتب إليه سيف الدولة:

 

لست أجفو وإن جفيتَ ولا أترك حقاً عليَّ في كل حال

 

إنما أنت والدٌ، والأب الجافي يجازى بالصبر والإحتمال

 

وتباحث سيف الدولة مع معز الدولة في الصلح، فأجابه إلى ذلك بعد مفاوضات انجلت في أول سنة 348 عن أن يضمن سيف الدولة خراج الموصل الذي زاد إلى 2.900.000 درهم من 2.000.000، ولم يكن من عادة معز الدولة الصلح والتساهل، ولكنه جنح إليه هنا لنجاح أسلوب الحمدانيين في قتال من هاجمهم، فقد كان أتباع ناصر الدولة في الموصل والجزيرة، يغيرون غارات خاطفة قصيرة على جيش معز الدولة فيقتلون ويأسرون ويقطعون الميرة عنهم، فضاقت الأموال على معز الدولة، وتقاعس الناس في حمل الخراج، واحتجوا بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم، وطلبوا الحماية من البدو التابعين لناصر الدولة، فلما وردت رسالة سيف الدولة على معز الدولة يطلب الصلح وجد فيها مخرجاً مناسباً، وأجابه إلى ما طلبه من الصلح، ثم انحدر إلى بغداد.

 

وعاد الروم البيزنطيون فغزوا في هذه السنة؛ سنة 348، طرسوس والرها، وهي أورفا اليوم، فقتلوا وسبوا وغنموا، وعادوا سالمين، فقام سيف الدولة في السنة القادمة سنة 349، فغزا بلاد الروم في جمع كثير، وانتصر عليهم في عدة مواقع، وفتح عدة حصون، وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئاً كثيراً، وبلغ إلى خرشنة، وتربص الروم طريق عودته في المضايق، فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس: إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك، فلا تقدر على العود منه، والرأي أن ترجع معنا من طريق طرسوس. فلم يقبل منهم، وكان معجباً برأيه لا يحب أن يشاور أحداً لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره، فعاد في الدرب الذي دخل منه، فهاجمه الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم، وأخذوا أثقاله، ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليهم قتلاً وأسراً، وتخلص هو في ثلاثمئة رجل بعد جهد ومشقة. قال ابن الأثير في الكامل: وهذا من سوء رأي كل من يجهِّلُ آراء الناس العقلاء.

 

وتشجع الروم بما حققوه من انتصارات فبدأوا في السنة التالية؛ سنة 350، في مهاجمة القوافل المسلمة التي تمر قريباً من مناطق الحدود، وأصبحت أوضاع الحدود غير مستقرة على الإطلاق، نتيجة للهجمات المتبادلة بين الروم وبين المسلمين، وكانت السنة التالية؛ سنة 351، سنة كوارث على سيف الدولة والمسلمين، فقد هاجم نقفور وجيشه حصن عين زربة، واستولوا عليه وعلى 54 حصناً من حوله، وقنلوا عدداً كبيراً من أهله وطردوا الباقي، وأشاعوا أنهم باقون في المنطقة.

 

ولم تكن تلك النهاية! فقد قاد القائد نقفور، والذي سيصبح إمبراطوراً فيما بعد، قوة من البيزنطيين هاجمت حلب على حين غرة في ذي القعدة سنة 351، وعلم سيف الدولة من عيونه بقدوم البيزنطيين، وأدرك بخبرته حرج الموقف لبُعد جيشه المرابط في عين زربة، فخرج إلى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم: عساكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب أن تغلقوا أبواب المدينة، وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري، وأعود إليكم وأكون من ظاهر البلد، وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء. فأبى عامة الحلبيين وغوغاؤهم، وقالوا: لا تحرمنا الجهاد، أيها الأمير، وقد كان فينا من يعجز عن المسير إلى بلد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة. فلما رأى إصرارهم قال لهم: اثبتوا فإني معكم.

 

وقاتل سيف الدولة الروم في قلة بمن تهيأ له من جنوده، ووقعت المعركة في سفح بانقوسا بحلب، وكانت كما توقع معركة دامية غير متكافئة، قُتِل فيها أكثر جنوده، واستُشهد فيها كل أولاد عمه داود بن حمدان، وانهزم سيف الدولة في نفر يسير، وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب، فوجد فيها ثلاثمئة ألف درهم، وألف

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين