حدث في الرابع من صفر دفن الملك الظاهر جقمق

 

في الرابع من صفر من سنة 857 دفن في القاهرة، وقد تجاوز 80 سنة، السلطان المملوكي الملك الظاهر جقمق بعد أن بقي في السلطنة مدة 15 سنة، والذي وصفه المؤرخ ابن إياس فقال: كان ملكا عظيما جليلا، ديِّنا متواضعا كريما، هدأت البلاد في أيامه من الفتن.

ويعود أصل الملك الظاهر جقمق إلى بلاد الشركس، وكانت تجارة الرقيق تجارة رائجة في دولة المماليك، ولها متعهديها الذين يجلبون الرقيق من بلاد القوقاز والقِرِم، وهي تجارة الله أعلم بشرعيتها، وإن كانت فيما يبدو تحقق مصالح لأهل المسترقين في تحسين معيشة أولادهم، ويدل على ذلك أننا لم نقرأ اعتراضاً عليها أو تظلماً منها فيما نقله المؤرخون من أخبار دولة المماليك على كثرتها وتنوعها، وقد جاء أحد متعهدي الرقيق، ويقال له الجالب، ويدعى الخواجا كَزْلك، بجقمق في نحو سنة 793 من بلاد الشركس إلى مصر، وكان عمره قد تجاوز 16 سنة، فاشتراه الأمير علي ابن الأمير الكبير إينال، فصار أستاذه وفقاً للتقاليد المملوكية، فرباه وعلمه، ثم أرسله في خدمة والدته للحج.

وكان لجقمق أخ أكبر منه قد سبقه إلى مصر اسمه جاركس المصارع، وسمي بذلك لأنه انتهت إليه الرئاسة في فن المصارعة شرقاً وغرباً، وكان قد ترقى في طبقات المماليك حتى صار من أعيان المماليك الخاصين بالملك الظاهر برقوق، الذي تولى الحكم للمرة سنة 793، فلما وصل الأخوان إلى بعضهما البعض، كلم جاركس الملك الظاهر برقوق ليأخذ أخاه جقمق من أستاذه الأمير علي، فطلبه الملك الظاهر منه وضمه لأخيه جاركس تحت يده في طبقة الزمام، أي الدور السلطانية، ثم بعد ذلك بفترة يسيرة أعتقه الملك الظاهر برقوق، وجعله من جملة الأمراء، ثم ضمه إلى أمراء المماليك الخاصين، ويطلق على واحدهم: خاصكي، ويقول كثير من المؤرخين: إن أستاذ جقمق الأول؛ الأمير علي كان قد أعتقه قبل أن يضمه السلطان برقوق، ولكنه سكت عن ذلك لينال جقمق الحظوة في خدمة السلطان.

وتوفي الملك الظاهر برقوق سنة 801 ، وتولى بعده ابنه الملك الناصر فرج وهو في العاشرة، فرقى جقمق إلى وظيفة الساقي، وهو المسؤول عن مد سماط السلطان وسقي المشروب بعد رفع السماط، ثم رقاه الملك الناصر بعد ذلك إلى أمير عشرة.

وكان أخوه جاركس المصارع يترقى بمرور السنين، حتى صار أمير آخور، أي: المسؤول عن الاصطبلات السلطانية وما حوته من خيل وبغال ودواب وجمال وأثاث، وغير ذلك، ثم جعله السلطان نائباً على حلب، ولكنه لم يباشر العمل فيها، وفي سنة 810 توجَّه الملك الناصر فرج إلى الشام على رأس قوة عسكرية، فلما وصل إلى دمشق قبض على نائبها الأمير شيخ المحمودي والأتابك يشبك الشعباني، وكان الأمير جاركس قد تأخر عن الخدمة في ذلك اليوم، فلما بلغه الخبر فر من ساعته إلى جهة حلب، ثم هرب الأميران السجينان ومعهما أمير قلعة دمشق، وهاجم الأمراء الثلاثة دمشق بعد شهر، ففر من كان بها من الأمراء، وملكها شيخ وأقام بها، وعنده يشبك وجاركس، ولكن التمرد انتهى في معركة قتل فيها الأميران يشبك وجاركس، ويذكر المؤرخون المعاصرون أن الأمير جاركس كان شجاعاً مقداماً، رأسا في المصارعة، معدوداً من نوادر الدنيا، مع الخلق الحسن، وصباحة الوجه، وكان طوالا جسيماً، وكان - مع شدته وعظيم قواه - هينا ليناً، بشوشاً لطيفاً، حلو المحاضرة، كريماً.

وبسبب تمرد أخيه أمر الملك الناصر بسجن برقوق، وبقي في السجن فترة حتى شفع فيه الأمير تغري بردي والأمير جمال الدين الأستادار، فأطلقه الملك الناصر، فبقي على الهامش، ولم تدم الأمور بعدها طويلاً للملك الناصر فرج، فقد خشي من أمراء أبيه وأمعن في قتلهم فتمردوا عليه في بلاد الشام، فسار إليهم وقاتلهم، فهزموه وسجنوه في قلعة دمشق، ثم أثبتوا عليه الكفر وقتلوه في القلعة سنة 815، وولى الأمراء الخليفة المستعين بالله السلطنة، على أن يكون الأمير شيخ أتابك العسكر ومدبر المملكة، ولكن ذلك لم يدم طويلاً فقد خلعه الأمير شيخ وتولى السلطنة في نفس السنة،  وتلقب بالملك المؤيد.

وقرب الملك المؤيد الأمير جقمق، وجعله أمير طبلخانة أي أميراً يحق له أن يكون له موكب فيه طبول وأبواق، وجعله خازنداراً، أي مشرفاً على بيت المال، ودامت سلطنة الملك المؤيد شيخ حتى وفاته سنة 824، وأبى مماليكه إلا أن يسلطنوا ابنه وهو رضيع لم يبلغ من العمر عامين، فأطاعهم الأمراء ولقبوه بالملك المظفر، وتولى الأمير ططر إدارة المملكة وتزوج أم المظفر، وكان من جملة الترقيات التي واكبت الملك الجديد أن صار الأمير جقمق أمير مئة ومقدم ألف ومقره الديار المصرية.

وجرت بعض الاضطرابات في الشام اقتضت أن يسير لقمعها الأمير ططر مع الملك الصغير ووالدته، وكان الأمير جقمق أحد كبار الأمراء الذين لم يصطحبهم ططر إلى الشام بل أمرهم بالبقاء في القاهرة، وفي دمشق خلع الأمير ططر الملك المظفر وطلق أمه، ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الظاهر، ولما عاد إلى القاهرة زاد في وظائف الأمير جقمق بأن جعله نائب السلطان في قلعة الجبل بالقاهرة.

ومات الملك الظاهر ططر بعد 3 أشهر وأيام من ملكه، وخلفه ابنه محمد الذي تلقب بالملك الصالح، وكان عمره 12 سنة، وتولى الأمير برسباي تدبير الملك، ثم خلع برسباي الملك الصالح بعد أسابيع ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الأشرف، فأطاعه الأمراء وهدأت البلاد في أيامه، وفي أول عهد الملك برسباي جعل الأمير جقمق في منصب أمير آخور، مسؤولاً عن الاصطبلات السلطانية، وذلك في أول سنة 826،  ومسؤولاً كذلك عن نظر الخانقاة الصلاحية، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 837 حين رقاه الملك الأشرف برسباي إلى منصب أمير مجلس، وهو المسؤول عن مجلس السلطان، ثم جعله السلطان أمير سلاح، أي المسؤول عن خزائن السلاح تجهيزاً وتخزيناً وتوزيعاً، ثم رقاه الملك الأشرف في أول سنة 839 وجعله أتابك الديار المصرية، أي كبير الأمراء فيها، وسار في سنة 839 على رأس جيش إلى منطقة ديار بكر في تركيا التي كان صاحبها الأمير عثمان بن طرغي على حرب مع الدولة المملوكية.

وتوفي الملك الأشرف برسباي سنة 841، بعد أن حكم مصر مدة 25 سنة، وعهد من بعده بالملك لابنه يوسف البالغ من العمر 14 سنة، وجعل الأمير الأتابك جقمق بمثابة الوصي على العرش، ولكن ذلك لم يدم سوى 3 أشهر وخمسة أيام، قبل أن يتسلطن جقمق في حركة تمرد طالما شهدت دول المماليك أمثالها.

فقد انتهزت مجموعة من أطراف مماليك الملك الأشرف حداثة سن الملك، وصاروا يأمرون في الدولة وينهون، فعظم ذلك على أعيان الأمراء الآخرين، وخافوا أن يأتي يوم يبدأ فيه هؤلاء بالقضاء عليهم، ولم يظهر الأمير الأتابك جقمق أي تمرد أو عصيان، بل كان سامعاً لهم مطيعا لأمرهم، وما لبث هؤلاء أن اختلفوا وتفرقت كلمتهم، وانضمت فرقة منهم إلى الأتابك جقمق، وما لبث كبار المماليك الأشرفية أن انحازوا إليه كذلك، فصار له قوة بهم إلى جانب تأييد الأمراء الكبار الآخرين، وطالبوه جميعاً بالقضاء على هؤلاء المماليك الذين أساءوا التصرف ولم يعرفوا حقوق كبار الأمراء.

وآل الأمر بين الفريقين إلى القتال بوتيرة خفيفة نسبية، ودام ذلك 3 أيام، والملك العزيز مقيم بالقصر الأبلق من قلعة الجبل، والأتابك جقمق يظهر الطاعة له، ويقول: إن خلافه إنما هو مع بعض مماليك السلطان الذين أساءوا التصرف وأثاروا غضب الأمراء، وجرت محاولات للوساطة والصلح أثمرت عن أن يسلم السلطان إلى الأتابك جقمق أربعة من أمراء الخاصة، فأرسلهم إليه فقبض عليهم جقمق، ثم ركب فرسه فوراً في جموع مؤيديه حتى صار تحت القلعة، فنزل عن فرسه وقبل الأرض للملك العزيز، ثم ركب وعاد إلى داره، وهدأت الأمور.

وفاجأ الأتابك جقمق الجميع بأن أفرج بعد أيام عن الأمراء الأربعة وخلع عليهم، وأعادهم إلى الملك العزيز، ثم طلع الأتابك جقمق إلى الإسطبل السلطاني وأمر بنزول المماليك الأشرفية من القلعة إلى القاهرة بعد أن حلفوا له وحلف لهم، وهكذا أضحى الملك العزيز دون قوة تدافع عنه.

ولما عاد بعد أيام عدد من كبار الأمراء كانوا في الشام، انضموا للأتابك جقمق، وانقطعوا عن الطلوع إلى الملك العزيز في القلعة، وبعدها قام جقمق بسجن عدد من أمراء المماليك الذين كانوا يوالون السلطان أو يخشى من معارضتهم لسلطنته، ثم جرى في 19 ربيع الأول سنة 842 خلع الملك العزيز، في مجلس حضره الخليفة العباسي المعتضد بالله والقضاة الأربع، وكبار الأمراء وأعيان الدولة، ثم تكلم بعض من حضر من الأمراء فقال: السلطان الملك العزيز صغير، والأحوال ضائعة، ولا بد من سلطان ينظر في مصالح المسلمين، وينفرد بالكلمة في الممالك، فقال الأتابك جقمق: هذا لا يتم إلا برضى الجماعة. فصاح الجميع بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير، ومد الخليفة يده فبايعه، ثم بايعه القضاة والأمراء على مراتبهم، وتلقب بالملك الظاهر، ثم قام من فوره ولبس الخلعة من الخليفة وتقلد سيفه، ثم ركب فرس المراسم المعد لهذه المناسبة، وتوجه إلى القصر الكبير من قلعة الجبل، والأمراء مشاة بين يديه، وجلس على تخت الملك، وقبل الأمراء الأرض بين يديه، ووفقاً للتقاليد رسم بأن ينادى أنه سيمنح المماليك السلطانية بمناسبة توليه لكل مملوك مئة دينار.

وبعد شهر من تولي الملك الظاهر جقمق الحكم قام كبير الأمراء الأتابك قرقماس، ويقال له كذلك قرقماش، بمحاولة تمرد فاشلة مكنت الملك الظاهر جقمق من توطيد سلطانه، فقد جمع قرقماس حوله عدداً من الأنصار وصاروا يتحينون الفرصة للوثوب على السلطان، وبلغ خبر ذلك إلى السلطان فلم يصدقه، وفشلت المحاولة لأن صغار المماليك فرضوا على قرقماس الاستعجال بها، فجرت ولما يعد لها إعداداً كافيا، فانهزم قرقماس في المواجهة رغم كثرة من انضم إليه في البداية، وصموده المرة تلو الأخرى، فقد انضم الأمراء للسلطان أميراً فأميراً، ورجمت العامة جنود قرقماس بالحجارة من فوق الأسطحة، فقد كانوا يكرهونه لتكبره وجبروته وعسفه، وكان إذا عاقب يضرب ألف ضربة أو أزيد، وبهزيمته واختفائه ثم القبض عليه، استراح الملك الظاهر جقمق من أكبر خطر كان يتهدد ملكه.

ولم تكن حركة قرقماس آخر متاعب الظاهر جقمق، بل عصى عليه بعد شهور الأمير تغري برمش نائب حلب، وكان هذا خطراً شديداً على الملك الذي تسلم العرش حديثاً، فقد كان تغري برمش تركمانياً له عصبة حول حلب، وانضمت إليه جماعة كبيرة من التركمان، وكانت تحت يده أموال حلب، وكان داهية مكاراً، ولذا فقد حسب له الملك الظاهر جقمق ألف حساب، إذ كان القضاء عليه من الصعوبة بمكان.

ثم تلى تغري برمش في التمرد الأمير إينال الجكمي نائب دمشق، ثم فر الملك العزيز من معتقله في القصر السلطاني، بتدبير من طواشيه الشاب صندل الهندي وبعض حاشيته السابقين، وكان الطواشي صندل قد أخبر الملك الهارب أن مماليك والده لن يلبثوا أن ينحازوا إليه إذا رأوه بينهم، ولكن ذلك لم يتحقق له، فندم لات حين مندم.

وتعقب الملك الظاهر جقمق الملك الهارب في بيوت الأمراء بالقاهرة، وعاقب بسببه جماعة، وهرب في هذه الأثناء الأمير إينال الأشرفي وسار إلى الشام، فخشي السلطان أن يكون قد اصطحب معه الملك الهارب ليمنح أمراء الشام المتمردين الصبغة الشرعية التي ستقوي أمرهم كثيراً، ولكنه ما لبث أن قبض على الطواشي وتبين له أن الملك الهارب ما زال في القاهرة وأنه ليس على صلة بالمتمردين في الشام، فهان عليه الأمر، ووجه تدبيره وفكره لإرسال القوات من مصر لقضاء على التمرد في الشام.

ثم قبض الظاهر جقمق على الملك الهارب العزيز، فعامله معاملة حسنة، وجعله في دور الحرم عند زوجته الكبرى، وأمرها ألا تبرح عن بابه وأن تتولى هي أمر أكله وشربه، ثم أرسله إلى الإسكندرية سجيناً في حالة مرفهة فتوجه لطلب العلم، وبعد ذلك بشهر ورد على الظاهر جقمق الخبر بهزيمة إينال الجكمي والقبض عليه، ثم جاءه بعدها بإسبوعين خبر هزيمة تغري برمش والقبض عليه، فقد تكفل بهما أمراء مدن الشام الأخرى الذين خشوا حركتهما على مناصبهم، فأمر الظاهر جقمق بقتلهما وصفت له الأمور بعد أن أشرفت دولته على الزوال.

وقامت السياسة الخارجية للملك الظاهر جقمق على تنمية العلاقات الودية مع الدول الأخرى والاستفادة من ذلك في تحسين تجارة واقتصاد مصر، وتبادل الملك الظاهر جقمق السفراء مع شاه روخ الابن الرابع لتيمور لنك، ومع السلطان العثماني مراد الثاني، الذي أرسل له في سنة 848 أخبار انتصاره على البيزنطيين مصحوبة ببعض الأسرى هدية للظاهر جقمق، وأسلم هؤلاء عن آخرهم طوعاً بعد شهور من إقامتهم في مصر.

وكانت للظاهر جقمق مراسلات مع صاحب الحبشة، وكان يومئذ زرع يعقوب الملقب بقسطنطين، والذي أرسل وفداً وصل إلى بلاط الظاهر جقمق في 18 رجب سنة 847، وحمل هدية فخمة الى السلطان منها عدة جواري وعبيد وأسلحة ذهبية؛ ورسالة طويلة من النجاشي الى السلطان، ينوه فيها بما بلغه من حزمه وعدله وحسن سيرته، وبما كان من تسامح أسلافه السلاطين نحو النصارى، ويعتب عليه لما بلغه من اضطهاد النصارى في ظل حكمه، في حين أن المسلمين في الحبشة، وهم كثيرون، يلقون ضروب التسامح والرعاية؛ ويشير إلى سيطرة الحبشة على ماء النيل فيقول: وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن نمنع الزيادة التي تروي بلادكم من المشي إليكم، لأن لنا بلاداً نفتح لها أماكن فوقانية ينصرف فيها إلى أماكن أخر قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله.

وأرسل الملك الظاهر جقمق سفارة إلى الحبشة رداً على السفارة المتقدمة، قام بها أستادار الصحبة، يحيى بن أحمد بن شاذ بك، وكان رد السلطان شديداً أحنق عليه النجاشي، فشن حملة قتل فيها أحد ملوك المسلمين المحليين، وهو أحمد بن سعد الدين الجبرتي، ولم يفرج عن سفير الملك الظاهر جقمق إلا بعد جهد جهيد ومدة طويلة تعلم فيها السفير لسان الحبشة، وكان من عادة بطرك النصارى أن يكاتب ملك الحبشة، فأمره الظاهر جقمق بعد هذه الواقعة أن يمتنع عن مكاتبته إلا بإذن السلطان وعلمه.

ونتحدث بشيء من التفصيل عن علاقة الظاهر جقمق بالملك شاه روخ بن تيمور لنك المولود سنة 779، والذي استتب له ملك بلاد العجم والعراق في سنة 819، بعد أن خرج منتصراً من نزاع دام بضع عشرة سنة مع أخيه ميران شاه وابنه وخليفته خليل، فعظم أمره وهابته الملوك، وحمدت سيرته، وشكرت أفعاله، وكان شاه روخ ملكاً عادلاً ديناً خيراً، فقيهاً متواضعاً، محبباً لرعيته، غير محجوب عنهم، يحب أهل العلم والصلاح، ويكرمهم ويقضي حوائجهم، وكان له حظ من العبادة وله أوراد هائلة، لم يزل غالب أوقاته على طهارة كاملة، مستقبل القبلة والمصحف بين يديه، وكان مِسِّيكاً لا يصرف المال إلا في حقه.

وكان شاه روخ قد راسل من قبل الملك الأشرف برسباي وطلب منه أن يسمح له بكسوة الكعبة المشرفة وفاءً لنذر كان قد نذره، فرفض ذلك الملك الأشرف، فكرر عليه الطلب في سفارة أخرى، فغضب برسباي غضباً شديداً ونكل بالرسل بالضرب والعذاب، وتوقع الجميع أن يقوم شاه روخ بالهجوم على البلاد الشامية انتقاماً لذلك، ولكن شاه روخ كان ملكاً حكيماً عاقلاً فلم يشأ أن يدخل في حرب مع الدولة المملوكية وهو لا يزال متوجساً من أمراء الدولة التيمورية، فأعرض عن ذلك.

ولما مات الملك الأشرف، وآل الأمر إلى الملك الظاهر جقمق في سنة 843، بعث شاه روخ رسلا من قضاته إلى الملك الظاهر بهدايا وتحف، وأظهر السرور الزائد بسلطنته، وأنه لما بلغه سلطنة الملك الظاهر جقمق أمر بدق البشائر بهَراة وزُينت له أياماً، فأكرم الملك الظاهر جقمق قصاده وأنعم عليهم، ثم بعث السلطان إليه رسولاً أحد أمرائه في دمشق، فتوجه إليه وعاد إلى السلطان الملك الظاهر جقمق بأجوبة مرضية، ومما يدل على علم شاه روخ أنه سأل الأمير المملوكي عن أربعة فضلاء في مصر والشام، لم يسأله عن غيرهم  وهم: ابن حجر العسقلاني، وابن الديري، محمد بن أبي بكر الصفدي، المولود سنة 788 والمتوفى سنة 862، وتقي الدين ابن قاضي شهبة، محمد بن أبي بكر الأسدي الشافعي، المولود بدمشق سنة 798 والمتوفى بها سنة 874، وابن المُزَلَّق، الخواجا محمد بن علي الحلبي ثم الدمشقي، المتوفى بدمشق سنة 848 بعد أن جاوز الثمانين، ولما قال له عن كل منهم هو حي بخير، عقَّب الملك شاه روخ: الحمد لله، ما زالت في الناس بعد بقية. وابن المزلق الذي سأل عنه شاه روخ، كان كبير التجار الدمشقيين، وكان صاحب مآثر كثيرة بدرب الشام، أنشأ فيه عدة خانات وأصلح كثيراً من طرقاته، وأوصى بثلث ماله ويبدأ منه بتكملة عمارة خان الأرنبية وتنظيف وعرة سعسع، ثم ما فضل منه يقسم بين فقراء مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق بالسوية، رحمه الله وإيانا.

وفي سنة 846 أرسل شاه روخ المذكور يستأذن الملك الظاهر جقمق في إرسال كسوة للكعبة وفاء لنذره القديم، فأذن له السلطان الملك الظاهر جقمق في ذلك، ولم يلتفت لمعارضة الأمراء وأعيان مصر لذلك، وقال: إن هذه قُربة، ويجوز أن يكسو الكعبة كائن من كان. وأرسل شاه روخ الكسوة للكعبة، فأمر الظاهر جقمق أن يأخذها ناظر الكسوة بالقاهرة دون كبير ضجيج، ويبعثها كي تلبس من داخل الكعبة، وتكون كسوة السلطان من خارج البيت على العادة، قال ابن تغري بردي: ورأيت أنا الكسوة المذكورة، وما أظنها تساوي ألف دينار. واستمرت العلاقة الودية بين الملك الظاهر جقمق وبين شاه روخ إلى وفاة الأخير في سنة 851، ومما طلبه شاه روخ من الملك الظاهر جقمق نسخة كاملة من كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر رحمه الله.

ولكن علاقات الملك الظاهر جقمق مع إمارتي قرمان ودلغادر في العراق وديار بكر على حدود بلاد الشام الشمالية كانت علاقات مضطربة، وذلك لقلة ديانتهم في العموم فلا تنضبط أمورهم بضابط الشرع، ولاضطراب أمور هاتين الإمارتين وكثرة الصراعات والفتن الداخلية فيها، وكانت سياسة الظاهر جقمق معها تقوم على تفادي المواجهات العسكرية، ولذلك هادن ملوكها، وهاداهم وتودد اليهم ولكثير من التركمان حتى بالتزوج منهم؛ فقد تزوج في سنة 843 خوند نفيسة بنت الأمير ناصر الدين محمد بك بن خليل بن دلغادر، ويقال كذلك دلقادر وذي القدر، وكان يقول: كل ما أفعله معهم لا يفي بنعل الخيل لو أن احتيج إلى المسير اليهم. وكان هؤلاء الملوك يحاولون جره ليكون طرفاً في نزاعاتهم الداخلية، ولكنه كان يتخلص من ذلك بحكمة، ومن ذلك أنه في سنة 856 وقع نزاع بين الأخوين حسن وجهانكير ابنا علي بك، فاستولى حسن على آمد من أخيه، وأرسل بمفاتيحها إلى السلطان الظاهر جقمق، فشكر له ذلك واستحسن، ورد إليه المفاتيح، وكان إرسال المفاتيح إشارة لكونها كانت تتبع الدولة المملوكية من قبل.

ورغم سياسته السابقة شن الملك الظاهر جقمق ثلاث حملات بحرية على جزيرة رودس في البحر المتوسط التي كانت قاعدة لفرسان القديس يوحنا منذ قرابة 150سنة، ويسميهم المؤرخون المسلمون الإسبتاريين، وكان هؤلاء قد شنوا حملة على الشواطئ المصرية بالتعاون مع الكتلان الإسبان، وكانت أول هذه الحملات في سنة 846 وتلتها أخرى في سنة 848 ولم تحققا نجاحاً يذكر لاستعداد من جزيرة لهم، وجاءت الثالثة في سنة 853 لتنجح في دخول الجزيرة وإيقاع الخسائر بالفرسان، مما أرغمهم على اللجوء لطلب الصلح والتعهد بألا يتعرضوا للشواطئ والسفن المصرية.

وفي سنة 844 ورد إلى الملك الظاهر جقمق كتاب سلطان غرناطة أبي عبد الله محمد ابن الأحمريسأل السلطان النجدة بالمال أو الرجال، لأنه في شدة من ملك قشتالة الفرنجي وصاحب إشبيلية وقرطبة، ويذكر المؤرخون أن الظاهر جقمق جهز إليه أشياء من السلاح وغير ذلك.

واتجه الملك الظاهر جقمق في الناحية العمرانية لتجديد القناطر على النيل وترعه والجوامع ونحوها من المصالح العامة،  وكان يرى أن إصلاح ما يشرف على الهدم أولى من بناء الجديد؛ ولذا لم يبن مدرسة بل ولا تربة، ومن مآثره أن جامع الحاكم كانت قد تراكمت الأتربة في بعض أروقته تراكماً عطل الاستفادة منه، فأزالها وبلط الجامع وأعاد الدروس إليه، وأنشأ رصيفاً هائلاً على النيل في بولاق، وجسراً في أسيوط من الجبل إلى البحر على قناطر، وقناطر على نهر العاصي عند الرستن بين حمص وبين حماة، وأدخل الظاهر جقمق كثيراً من الإضافات والإصلاحات في الحرمين الشريفين. 

أثنى على الملك الظاهر جقمق مؤرخوه المعاصرون، وننقل هنا من ابن تغري بردي وغيره بعض ما قالوه: كان سلطاناً ديناً، خيّراً صالحاً، متفقهاً شجاعاً، عفيفاً عن المنكرات والفروج، لا نعلم أحدا من ملوك مصر في الدولة الأيوبية والتركية على طريقته من العبادة والعفة؛ لم يشهر عنه في حداثة سنه ولا في كبره أنه تعاطى مسكراً، ولا كشف حراماً قط، وكان غالب أوقاته على طهارة كاملة، وكان متقشفاً في ملبسه ومركبه إلى الغاية، ولم أراه منذ تسلطن أنه لبس كاملية بمقلب سمور غير مرة واحدة، وأما الركوب على السرج الذهب والكنبوش الزركش فلم يفعله قط، وكان ما يلبسه في أيام الصيف وما على فرسه لا يساوي عشرة دنانير، و من تقشفه أبطل أشياء كثيرة من شعار المملكة، مثل: سَوق الرمّاحة للمحمل، والنزول إلى الصيد بالجوارح، وخدمة إيوان الحكم بباب السلسلة بالإصطبل السلطاني، ونوبة خاتون التي كانت تدق بقلعة الجبل عند الصباح والمساء، وأشياء كثيرة من هذا النمط، وكل ذلك كان يكرهه مما يقع فيه من المفاسد، لا يفعل ذلك توفيرا للأموال، فإن المال كان عنده كلا شئ، على أنه كان يحب جمعه من حلاله وحرامه، ثم يصرفه على قدر اجتهاده في أي جهة كانت، وكان الملك الظاهر جقمق كثير التفقد للمحابيس والكشف عنهم، والإحسان إلى الأيتام بحيث أنه كان يرسل من يحضرهم له فيمسح رءوسهم ويعطي كل واحد منهم ديناراً.

وكان الملك الظاهر جقمق معظماً للشريعة، محباً للفقهاء وطلبة العلم، معظماً للسادة الأشراف، وقرر لأهل الحرمين دشيشة للفقراء في كل يوم، وكان يقوم لمن دخل عليه من الفقهاء والصلحاء كائناً من كان، وكان إذا قرأ عنده أحد فاتحة الكتاب نزل عن مدورته وجلس على الأرض تعظيماً لكلام الله تعالى، وإذا سمع بأحد دخل مملكته من العلماء أو المحدثين استدعاه واجتمع به وأكرمه، وإذا أعجب به حاول معه أن يبقيه في مصر، وطلب في سنة 845 ثلاثة من المحدثين من الشام إلى مصر ليفيدوا طلبة العلم والمحدثين بما لديهم من الأسانيد العالية، هم المحدث نور الدين أبو الحسن علي بن اسماعيل الحنفي البعلبكي، والذي يعرف ايضا بابن بَرْدس، وشهاب الدين ابن ناظر الصاحبية، أحمد بن عبد الرحمن الدمشقي الصالحي الحنبلي، وأبو الفرج ابن قريج عبد الرحمن بن يوسف الحنبلي الصالحي، ولما توفي الإمام ابن حجر العسقلاني سنة 852 حضر الصلاة عليه الملك الظاهر جقمق وحمل نعشه.

وكثيراً ما طلب الظاهر جقمق العلماء لتولي القضاء عن غير سعي منهم، وكان كثير منهم يرفض، وتلك فضيلة له ولهؤلاء العلماء، فقد كانت العادة فاشية في دولة المماليك أن يدفع القاضي لتولي القضاء، ومع ذلك لم يكن الملك الظاهر جقمق على علاقة جيدة بالبدر العيني أكبر علماء زمانه الذي مات سنة 855 وهو في حزن وضيق بعد أن أخذ منه الملك الظاهر جقمق في سنة 853 نظر الأوقاف وأعطاه لنديم له هو علاء الدين علي بن محمد بن الزين أحد نواب القاضي الشافعي.

وكان الظاهر جقمق كريماً جداً، مسرفاً مبذراً، جاءه أحد القضاة فشكا إليه ديناً مقداره 1000 دينار، فحاققه عن سبب تحمله الدين، فلما رضيه أعطاه إياها، ومدحه أحد المشايخ بقصيدة لمح فيها إلى تهدم منزله، فأرسل له 400 دينار، وأتلف في مدة سلطنته من الأموال مالا يدخل تحت حصر كثرة، حتى إنه لم يترك في الخزائن عند وفاته إلا القليل، وكان لا يلبس إلا القصير من الثياب، ونهى الأمراء وأكابر الدولة وأصاغرها عن لبس الثوب الطويل، وأمعن في ذلك حتى أنه ضرب جماعة كثيرة بسبب ذلك، وقص أثواب جماعة أخر من أعيان الدولة في الموكب السلطاني بحضرة الملأ من الناس، وكان كثيراً ما يوبخ من يلبس الثوب الطويل، ومن لا يحف شاربه من الأتراك.

قال ابن تغري بردي: وفي الجملة كان آمرا بالمعروف، ناهياً عن المنكر، إلا أنه كان قد قيض الله له أعوان سوء وحاشية ليست بذاك، وكان رحمه الله سريع الاستحالة، وعنده بطش وحدَّة مزاج، وبادرة مع طيش وخفة، فكان مهما أوحت له حاشيته قبلِهُ منهم، وأخذه على الصدق والنصيحة، فلهذا كان يقع منه تلك الأمور القبيحة، من ضرب العلماء وبهدلة الفقهاء والرؤساء، وسجنهم بحبس المقشرة مع أرباب الجرائم، حتى أنه حبس بها جماعة كبيرة من الفقهاء والأعيان، وأما غير الأعيان فخلائق لا تحصى من بياض الناس، وكل ذلك كان لعدم تثبته في أحكامه، وعظم بادرته وسلامة باطنه، فإنه كان يصدق ما ينقل إليه بسرعة، ولا يتروى في أحكامه حتى يأتيه من يخبره بالحق، فلهذه الخصال كانت الرعية قد سئمته وطلبت زواله، وكانت الدعوى عنده لمن سبق لا لمن صدق، على قاعدة الأتراك.

وبالجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه، وكان حاله أحسن من حال غيره من ملوك مصر السالفة من حيث الدين وعفة الذيل، فإنه كان قد قمع المفسدين والجبابرة من كل طائفة، وكسدت في أيامه حال أرباب الملاهي والمسكرات، وتصولح غالب أمرائه وجنده، وبقي أكثرهم يصوم الأيام الكثيرة في كل شهر، ويعف عن المنكرات، وكل ذلك مراعاة لخاطره، وخوفاً من بطشه لما يرون من تشديده على من يفعل القبائح والمنكرات.

تزوج الملك الظاهر جقمق عدة زيجات، من أبرزها أنه تزوج قبل تملكه خوند مغل ابنة العلامة كمال الدين البارزي، المولود بحماة سنة 796 والمتوفى بالقاهرة سنة 856، والذي أمضى شطراً كبيراً من حياته في كتابة السر أو القضاء في القاهرة ودمشق، وكان إمام عصره، واتسم بالعقل والعراقة والسكون والسؤدد والكرم والإكرام وسياسة الخلق وحسن الخلق، والرئاسة الضخمة، والفضل الغزير.

وتزوج الملك الظاهر جقمق الأميرة خوند شاه زادة ابنة أورخان، وهي أميرة هربت في سنة 836 إلى مصر مع أخيها سليمان فراراً من السلطان مراد الثاني، فتزوجها الملك الأشرف برسباي، ثم تزوجها من بعده الملك الظاهر جقمق، وأنجبت له عدة أولاد ثم طلقها في سنة 855.

كان للملك الظاهر جقمق ابن اسمه محمد هو كبير أولاده، ففجع بوفاته في آخر سنة 847، وهو في حدود الثلاثين، وعلى خلاف أولاد السلطان توجه محمد لطلب العلم حتى صار معدوداً من العلماء، وقد أثنى عليه ابن تغري بردي فقال: ولا نعلم أحداً من أبناء جنسه من ابن أمير ولا سلطان وصل إلى هذه الرتبة غيره قديماً ولا حديثاً، بل ولا في الدولة التركية قاطبة من المشاهير أولاد الملوك، هذا مع المحاضرة الحسنة والمذاكرة اللطيفة والنوادر الطريفة والإطلاع الزائد في أخبار السلف وأيام الناس، وكان يسألني عن مسائل دقيقة مشكلة في التاريخ على الدوام، لم يسألني عنها أحد من بعده إلى يومنا هذا، وأما حفظه للشعر باللغتين التركية والعربية، فغاية لا تدرك، وكان مجلسه لا يبرح مشحوناً بالعلماء يتداولونه بالنوبة. 

وفي آخر سنة 856 مرض السلطان مرضاً شديداً ما لبث بعد شهر منه أن خلع نفسه وسلطن ولده عثمان الذي تلقب بالملك المنصور، وبقي الملك الظاهر جقمق مريضاً حتى وفاته في الثالث من صفر من سنة 857، وصلى الخليفة القائم بأمر الله، ودفن في تربة الأمير قاني باي الشركسي قرب قلعة الجبل.

وعلى سنة من كان قبله من ملوك المماليك، لم تدم سلطنة الملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق إلا 41 يوماً، خلعه بعدها الأتابك إينال الذي تلقب بالملك الأشرف، وسيدوم حكمه إلى وفاته سنة 865.

نختم بما قاله ابن تغري بردى عن الملك الظاهر جقمق: كان قصيراً، أقرب للسمن، أبيض اللون مشرباً بحمرة، صبيح الوجه، منور الشيبة، فصيحاً في اللغة التركية، وفي العربية لا بأس به بالنسبة لأبناء جنسه، وكان له اشتغال وطلب قديماً، وكان يستحضر مسائل جيدة، ويبحث مع العلماء الفقهاء، ويلازم مشايخ القراءات، ويقرأ عليهم دواماً، وكان يقتني الكتب النفيسة، ويعطي فيها الأثمان الزائدة عن ثمن المثل، وكانت أيامه آمنة، رحمه الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين