حدث في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة

انتشار الفوات البريطانية في إستانبول 

 

في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 1338=15/3/1920 بدأت القوات العسكرية البريطانية في الانتشار في أنحاء العاصمة العثمانية استانبول لاحتلال المباني الحكومية والمرافق الاقتصادية، في محاولة لقمع الحركة الوطنية التركية المطالبة بوقف الاحتلال ومشاريع تقسيم الأراضي التركية على دول الحلفاء الأوروبيين.

 

وجاء الاحتلال الذي نتحدث عنه كإحدى نتائج الحرب العالمية الأولى التي نشبت في 5 رمضان سنة 1332=28/7/1914 بين معسكر المحور الذي تزعمته ألمانيا وضمَّ النمسا وبلغاريا، وبين معسكر الحلفاء الذي تزعمته بريطانيا وضمَّ فرنسا وروسيا وإيطاليا واليونان وصربيا وبلجيكا والبرتغال واليابان، ثم انضمت له وتزعمته الولايات المتحدة الأمريكية، وأدخلت حكومةُ الاتحاد والترقي تركيا في الحرب في جانب معسكر المحور في 8 ذي الحجة 1332= 28/10/1914، وذلك في عهد السلطان محمد رشاد ابن السلطان عبد المجيد، وهو أخو السلطان عبد الحميد، ويعرف كذلك باسم محمد الخامس.

 

وانتهت الحرب بعد 4 سنوات ونيف؛ في 6 صفر 1337=11/11/1918 بخسارة معسكر المحور خسارة فادحة، وكانت كارثة كبيرة على تركيا إذ خسرت فيها ولاياتها العربية، واحتلتها، أو أضحت متسلطة فيها، بريطانيا وفرنسا، وخسرت كذلك ولاياتها الشرقية التي احتلتها أرمينيا، وخسرت ولاياتها الغربية لصربيا واليونان، وفي ذلك التهور لدخول الحرب يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

 

نـزل البلاءُ وحلَّ طُوفان دم ... بالمسلمين سماؤه لا تُقلِعُ

كانوا بظل السلم لا بهلالهم ... شرٌّ يرادُ ولا حِماه مروَّع

لولا قضاء الله ما خاضوا الوغى ... إن القضاء إذا أتى لا يُدفع

ماذا اندفاع المسلمين بموقف ... الغالب المنصور فيه مضعضع

حرب على حرب حنانك ربنا ... لم يَـبقَ منا ما يَنالُ المِدفع

يا رب هل تلك القيامة كلها ... أم للقـيامـة بعد ذلك موقع

 

ورغم انجلاء الحرب عن وضع سقطت فيه تركيا من الناحية العسكرية إلى الحضيض، إلا أن بعض التغيرات بدأت تبعث الأمل في نفوس الأتراك بإمكانية استخلاص شيء ما من هذا الركام وبناء البيت التركي من جديد، وجاء أول الغيث قبل نهاية الحرب العالمية بسنة، حين قامت في 24 أكتوبر 1917 الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا وأطاحت بالقيصر، وتسلم الشيوعيون الحكم، ورفضت بريطانيا الاعتراف بالثورة والتعامل معها، ودعمت الحركات المناوئة لها، فقد كانت بريطانيا والدول الغربية الأخرى تخشى أشد الخشية الحركات الطبقية التي تدغدغ عواطف العمال المسحوقين وتؤلبهم على الرأسماليين وأصحاب الثروات.

 

وكانت الحكومة الشيوعية الجديدة في روسيا تواجه أخطاراً داخلية وخارجية ليست هينة، ومن أجل بقائها كان على زعيمها لينين أن يقوم بتقوية مركزها والقضاء على ما يتهددها في أسرع وقت ممكن، ولم يكن الاستمرار في الحرب مع الحلفاء ليمكنَّه من هذا، فأعلنت الحكومة الشيوعية انسحاب روسيا من التحالف، وأعلنت أن أول أولياتها توفير السلام والخبز والأرض، وعقد البلشفيك مؤتمراً بعد شهر من نجاح ثورتهم في مدينة برست- ليتوفسك، ووقّعوا في أول سنة 1918 معاهدة مع ألمانيا تنازلوا لها فيها عن كثير من الأراضي والمصالح الصناعية والزراعية، مما زاد في استياء الحلفاء، فقد مكن هذا ألمانيا من إخلاء الجبهة الشرقية مع روسيا وتوفير قوات أكثر على الجبهة الغربية، ووقعت روسيا في نفس الوقت مع حكومة طلعت باشا التركية معاهدة سُميت معاهدة برست- ليتوفسك، تنازلت فيها الحكومة الروسية البلشفية عن الأراضي التي احتلتها روسيا القيصرية في الحرب التركية لسنتي 1877-1878 بما في ذلك أردهان وقارص وباطومي.

 

وفي أثناء الحرب توفي السلطان محمد رشاد، عن 75 سنة، وذلك في 24 رمضان 1336= 3/7/1918، وتولى الخلافة بعده أخوه السلطان محمد وحيد الدين، ويعرف كذلك باسم محمد السادس، والمولود سنة 1277=1861.

 

وكان من أول أعمال السلطان محمد وحيد الدين تعيين مصطفى كمال، والذي سيتخذ لقب أتاتورك فيما بعد في سنة 1934، قائداً للجيش العثماني السابع في فلسطين، وكان السلطان من قبل توليه السلطنة يعرف مصطفى كمال تمام المعرفة، فقد كان مرافقه العسكري في رحلة قام بها إلى ألمانيا بصفته ولي عهد السلطنة العثمانية، وكان مصطفى كمال أحد القواد البارزين في أعتى معارك الحرب العالمية الأولى؛ معارك جناق قلعة أو جاليبولي، والتي دامت 11 شهراً  من 4 ربيع الآخر 1333=19/2/1915 إلى 3 ربيع الأول سنة 1334=9/1/1916، والتي كبدت الحلفاء 300.000 من القتلى والجرحى والمرضى، وأفشلت مخططاتهم في احتلال المضائق.

 

وخرجت تركيا من الحرب بعد أن وقعت مع في 30/10/1918 هدنة مُدروس، وهو اسم الجزيرة اليونانية التي رست قربها البارجة البريطانية أجاميمنون التي وقعت الهدنة على متنها، ووقعها عن الجانب التركي وزير البحرية حسين رؤوف أورباي بك الشركسي الأصل، والمولود سنة 1881، وعن الجانب البريطاني الأدميرال سومرست كالثورب، المولود سنة 1865، والذي ستعينه حكومته بعد قليل في منصب المندوب السامي في تركيا، وتضمنت الاتفاقية 25 فقرة، من أهمها:

 

·       تحتل القوات الحليفة حصون مضائق الدردنيل والبسفور، وتفتح هذه المضائق أمام الملاحة والمرور الآمن إلى البحر الأسود.

 

·       تسرِّح تركيا الجيش التركي باستثناء قوات مناسبة لمراقبة الحدود والمحافظة على الأمن الداخلي

 

·       تستسلم السفن الحربية التركية وتحجز في الموانئ باستثناء المراكب الصفيرة اللازمة لأعمال الأمن الداخلي في المياه التركية الإقليمية.

 

·       يحتفظ الحلفاء بحق احتلال أية مواقع استراتيجية تركية في حالة ظهور أية حالة تهديد لأمنهم.

 

·       يحق لسفن القوات الحليفة استعمال كافة الموانيء التركية، وكذلك استعمال السفن التركية التجارية لأغراض التجارة ونقل الجنود المسرّحين، وكذلك استعمال مرافق إصلاح السفن في كل الموانئ ودور الصناعة البحرية التركية.

 

·       تستسلم كل القوات التركية في الحجاز وعسير واليمن وسوريا وما بين النهرين، وطرابلس وبرقة وموانئها، وتوقف تركيا إمداد من يرفض الاستسلام من هذه القوات.

 

·       تنسحب القوات التركية من شمال غربي إيران وفي القوقاز إلى المواقع التي كانت تحتلها قبل الحرب، وتحتل القوات الحليفة باطوم وتوافق تركيا على احتلال القوات الحليفة لباكو.

 

·       تطلق تركيا سراح أسرى الحرب من الحلفاء وكذلك الأرمن الموقوفين والسجناء، ويسلمون جميعاً إلى قوات الحلفاء.

 

·       يبقى السجناء الأتراك تحت تصرف القوات الحليفة، ويتم النظر في إطلاق المساجين المدنيين من الأتراك إذا كانوا قد تجاوزوا سن الخدمة العسكرية.

 

·       تقوم الدول المتحالفة بالرقابة على الإذاعة والبرق والتموين، وتضع تركيا السكك الحديدية تحت تصرف السلطات الحليفة، بما فيها سكة حديد عبر القوقاز.

 

·       يحتفظ الحلفاء بحق احتلال الولايات الأرمنية العثمانية  في حالة حدوث اضطرابات فيها.

 

وينبغي أن نذكر أن مفاوضات الهدنة بين الحكومة التركية وبين بريطانيا تمت على عجل أراده الطرفان، الحكومة التركية للخروج من هذه الكارثة بأسرع ما يمكن، والحكومة البريطانية للانفراد بالتفاوض مع تركيا، ولذا استبعدت ممثل الحكومة الفرنسية منها، وكذلك لاستباق تدخل الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون في تسويات ما بعد الحرب، وفرضه عليها ما لا تريد.

 

وبعد توقيع الهدنة بأسبوعين دخلت القوات الفرنسية والبريطانية استانبول، واحتلت بعض المواقع فيها، وأنشأت الإدارة العسكرية للحلفاء، وتلتها بعد شهر سفينة إيطالية حملت قرابة 1000 جندي وشرطي لينضموا لقوات الحلفاء في استانبول، وفي 8/2/1919 دخل الجنرال الفرنسي لويس فرانشيه دي إسبري، المولود سنة 1856، استانبول على حصان يسبقه اثنان من جنوده، وذلك محاكاة لدخول محمد الفاتح القسطنطينية وإيذاناً له مغزاه بانتهاء السيادة العثمانية على المدينة.

 

وكانت من أولى مهام المندوب السامي البريطاني الأدميرال سومرست كالثورب القبض على بضع مئات من السياسيين والعسكريين الذين خدموا في حكومة توفيق باشا السابقة، فجدَّ في القبض عليهم وإيقاع العقاب بهم، ونفى بعضهم إلى مالطة، ولم يكن هدفه من ذلك إحقاق العدالة بل كان يريد أن يرسخ في أذهان الترك، وبخاصة أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، هيبة القوة المحتلة فلا يقوموا بأية مقاومة لها أو أعمال تخل بالنظام في ظلها.

 

وفي استانبول لبَّت الحكومة التركية - مكرهة على الأرجح - طلبات دول الاحتلال الحليفة، فأعلنت عن تشكيل لجنة تحقيق بكل المزاعم المتعلقة بالاعتداءات التي جرت ضد سابقاً ضد غير المسلمين، وبخاصة الأرمن، وأتاحت للدول الغربية الراغبة في المشاركة في التحقيق أن تقدم مندوبين من طرفها ليشاركا في اللجنة، وأنشأت الحكومة التركية بعد قرابة شهر من الاحتلال محكمة عرفية لمحاكمة من خرقوا الدستور وارتكبوا المجازر، ودامت هذه المحكمة 11 شهراً، وأصدرت حكمها بتجريم عدد ممن مثلوا أمامها لقيامهم بإعاقة الدستور وارتكاب مجازر، ولكن المندوب السامي اعتبرها محكمة هزلية، ولذا تقرر تحويل المحكمة إلى محكمة دولية، أي أوروبية، تعقد في مالطا، ولكن المحكمة التي عقدت في مالطا أفرجت عن المتهمين لعدم توافر الأدلة، وذلك لأنها رفضت الاعتماد على وثائق المحكمة التركية التي سبقتها، فقد كان الأوروبيون ينظرون باستهانة واضحة للمحاكم التركية.

 

وكان الروس البلاشفة في مساعيهم لإرباك المخططات الغربية، قد كشفوا عن الوثائق التي وجدوها في وزارة الخارجية القيصرية، والتي تضمنت الاتفاقيات التي عقدتها الدول الأوروبية ما بينها والمتعلقة بتقاسم ولايات وأنقاض الدولة العثمانية، بما ذلك اتفاقية سايكس-بيكو القاضية بتقسيم الولايات العثمانية العربية بين بريطانيا وبين فرنسا.

 

وزاد هذا من النقمة التركية على الاحتلال، وأجج مشاعر الوطنية التركية التي جعلتها مرارة الهزيمة ثم التقسيم المزمع مستعدة لمواجهة الاحتلال بكل ما تستطيع مهما دفعت الثمن غالياً، وكان البلاشفة على استعداد لدعم المقاومة التركية في مواجهة الاحتلال.

 

وبعد انتهاء الحرب رقى السلطان محمد وحيد الدين الضابط مصطفى كمال إلى رتبة أمير لواء، وجعله مرافقه العسكري، ولما ادلهمت الخطوب عيَّنه السلطان في منصب المفتش العام للقوات الجيش التاسع في الأناضول، ليقوم بإعادة تجميع ما تبقى من الجيش العثماني والحفاظ على أمن البلاد.

 

وتتضارب المصادر، فمنها من يقول إن السلطان محمد وحيد الدين طلب من مصطفى كمال باشا أن يذهب للأناضول، ويلم فلول الجيش التركي، ويبدأ حركة مقاومة عسكرية تجعل تركيا في موقف تفاوضي أفضل عندما يحين الوقت للتحول من اتفاق الهدنة إلى معاهدة سلام دائمة، ومنها من يزعم إن السلطان كان في معزل عن مخططات مصطفى كمال الوطنية.

 

وغادر مصطفى كمال استانبول على متن سفينة الشحن العثمانية بانديرما، ونزل في ميناء سامسون في 15 شعبان 1337=16/5/1919، وهو اليوم الذي ينظر له المؤرخون الأتراك كبداية لحركة العسكريين الوطنيين في مقاومة الاحتلال وإيقاف تقسيم التراب التركي، ويعتبر اليوم بداية حرب الاستقلال التركية.

 

وتحرك العسكريون والوطنيون في الأناضول بعيداً عن سطوة الاحتلال الأوروبي، وعقدوا في 26 ذي القعدة 1337= 23/8/1919 مؤتمراً في مدينة أرضروم في شرق تركيا، وبعده بشهر عقدوا في سيواس مؤتمراً آخر، وضم المؤتمران الجماعات الساعية لدحر الاحتلال، وتمخضا عن ميثاق الأمة، ويسمى ميثاق مِلّي بالتركية، والذي تضمن أن أرض الوطن كل لا يتجزأ، وأن الأمة ستدافع عن نفسها وستقاوم كل أشكال الغزو والتدخل الخارجي، وأن سلطة الشعب هي فوق كل السلطات، والرفض القاطع لفرض الانتداب أو الحماية على الأمة التركية، وأضفت هذه المؤتمرات على مصطفى كمال باشا صفة القائد الوطني الذي يقف وراءه الشعب التركي.

 

ولم يخف على القادة العسكريين البريطانيين في تركيا  ما يسعى له مصطفى كمال باشا ومن التف حوله، ولكنهم لم يستطيعوا فعل شيء يذكر لضعف قواتهم في منطقته، ولأن القسم الشرقي في وزارة الخارجية البريطانية لم يأخذ تقاريرهم بالجدية اللازمة، واستبعد أن تقوم للترك قائمة تهدد الاحتلال، ولما اعترض المندوب السامي البريطاني لدى السلطان على تصرفات أتاتورك المناقضة للهدنة، أظهر السلطان، أو تظاهر، جهلاً تاماً بمخططات أتاتورك، واستغرب أن يعطيه البريطانيون هذه الأهمية، وترضية لهم أصدر السلطان مرسوماً نزع فيه كثيراً من الصلاحيات التي كانت مخولة للمفتش العام، ولكن مصطفى كمال تابع عمله على أرض الواقع.

 

وفي 15 ربيع الآخر سنة 1337= 18/1/1919 افتُتح في قصر فرساي بباريس مؤتمر السلام الذي عرف بمؤتمر فرساي، والذي تزعمه من جانب معسكر الحلفاء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة واليابان واليونان، وفي الطرف الآخر كانت هناك ألمانيا والنمسا وبلغاريا وهنغاريا وتركيا، وشارك في المؤتمر ممثلون عن 32 دولة وشعب، وتمخض بعد سنة، في 29 ربيع الآخر سنة 1338=21/1/1920، عن اتفاقية فرساي التي تضمنت إنشاء عصبة الأمم، وكذلك انبثقت عن المؤتمر 5 معاهدات سلام مع الدول المهزومة، وفي هذا المؤتمر استخدمت لأول مرة كلمة الانتداب تورية عن الأطماع الاستعمارية المزمعة، بعد أن أضحت كلمة الاستعمار غير مقبولة، واتفقت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا فيما بينها اتفاقاً سرياً على تقاسم الولايات التركية المحتلة وكذلك المصالح والامتيازات الألمانية الاقتصادية.

 

وانبثق عن مؤتمر فرساي مؤتمر سان ريمو الذي انعقد بعده بشهرين، والذي خرج بوثيقة الانتداب البريطاني على العراق، وإلغاء الامتياز النفط الممنوح سابقاً للشركة التركية البريطانية، وخرج كذلك بوثيقة الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، والاعتراف بالحجاز دولة مستقلة يرأسها الشريف الحسين بن علي.

 

ولم تشارك في مؤتمر فرساي الدولة البلشفية الشيوعية للأسباب التي سبق ذكرها، وكذلك لم تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية، فقد رفض مجلس الشيوخ ابتداءً أن تكون أمريكا الدولة المنتدبة على أرمينيا، ثم رفض المشاركة في تقسيم الدولة العثمانية بعدها.

 

واستطراداً نذكر أن المنظمة الصهيونية العالمية أرسلت وفداً إلى المؤتمر، وقدمت إليه مسودة اقتراح مرفق بخريطة يدعو للاعتراف بالأحقية التاريخية للشعب اليهودي بفلسطين، وحقه في إقامة وطنه القومي عليها، وأن يمنح المؤتمر الحكومةَ البريطانية الانتدابَ على فلسطين بشريطة تشجيع الهجرة اليهودية والاستيطان، وتأسيس مجلس يمثل اليهود ليعمل على تأسيس الوطن القومي في فلسطين، وأن يُعطى المجلس الأولوية في مشاريع الأشغال العامة واستثمار الموارد الطبيعية.

 

ولم تحصل المنظمة من المؤتمر على هذه الطلبات الواسعة، وتضمن أحد قرارته نصاً يحض على سنِّ قوانين تسهل الحصول على الجنسية الفلسطينية لليهود المقيمين إقامة دائمة في فلسطين، ولكن قرار الانتداب البريطاني على فلسطين، والذي انبثق عن المؤتمر وصدر في سنة 1922، أشار في مقدمته وحيثياته إلى وعد بلفور والصلة التاريخية لليهود بفلسطين، واعتبر ذلك أساساً لإقامة وطنهم القومي في تلك البلاد.

 

ورغم أن المؤتمر لم يخرج بعد انتهائه بمعاهدة تتعلق بتركيا، إلا أن المخططات الأوروبية لتقسيم تركيا لم تكن مستورة أو خافية على الشعب التركي، فقد كانت الصحف في لندن وباريس وروما تتحدث بكل صراحة عما يدور في أروقة السياسة من مقترحات، ولكن الأوروبيين اعتقدوا أنهم قضوا على كل مقاومة ذات شأن في الجانب التركي، واعتقدوا كذلك أن السلطان محمد وحيد الدين أصبح على قناعة ألا جدوى من مقاومة الاحتلال.

 

وفي أثناء ذلك كانت المظاهرات الشعبية المناوئة للاحتلال في استانبول وخارجها تتصاعد يوماً بعد يوم، وتتخذ وتيرة عنف متصاعد، وفي أول سنة 1338= آخر سنة 1919 أجرت الحكومة التركية انتخابات البرلمان العثماني، ويدعى المجلس العمومي، ففاز بالأغلبية فيه أعضاء جمعية الدفاع عن حقوق الأناضول والروملي، وهي الجمعية التي يترأسها مصطفى كمال باشا.

 

وفي 28/1/1920 اجتمع البرلمان العثماني برئاسة الداماد فريد باشا نيابة عن السلطان محمد رشاد بسبب مرضه، وأيد المجلس ميثاق الأمة والقرارات التي أصدرها مؤتمرا أرضروم وسيواس، وصدر منه اعتراف ضمني بالتخلي عن الولايات غير التركية، فقد أعلن أن مصير الولايات ذات الأغلبية غير التركية كالعربية سيتحدد من خلال استفتاء عام، أما تلك ذات الأغلبية التركية، فهي جزء من الوطن الأم.

 

وإزاء هذه التطورات الخطيرة، وتحسباً للقرارات القادمة من مؤتمر فرساي والمعاهدة المزمعة التي ستحدد مصير تركيا وأراضيها، قررت سلطات الاحتلال احتلال مدينة استانبول، رغم تصريحات الحلفاء السابقة وتعهداتهم المؤكدة أثناء المفاوضات أن ليس في نيتهم حكم البلاد أو احتلال مدينة استانبول، وهو أمر كذبه الواقع والاتفاقات السرية بين فرنسا وبريطانيا المعروفة باتفاقية سايكس- بيكو، فحلَّت سلطات الاحتلال البرلمان واعتقلت عدداً من النواب ونفت آخرين، ومقابل ذلك أعلن مصطفى كمال باشا أن السلطان وحكومته تحت الاحتلال ولا تتوفر لديهما الحرية لاتخاذ القرارات بعيداً عن النفوذ الأجنبي، ودعا إلى انتخابات لجمعية تشريعية جديدة تنعقد في العاصمة الجديدة أنقرة بعيداً عن الاحتلال، وافتتح في 4 شعبان 1338 =23/4/1920 أول جلسات الجمعية التي أسماها: المؤتمر التركي الوطني العام.

 

وأثناء انعقاد مؤتمر فرساي قامت اليونان في 14شعبان 1337= 15/5/1919 بإنزال قواتها العسكرية في إزمير واحتلالها بحجة حماية سكانها من اليونانيين والأرمن الذين احتفلوا بهذه القوات، وبارك مطران إزمير القوات لدى وصولها، وفي نفس اليوم قامت هذه القوات بقتل عدد من الجنود الأتراك بعد استسلامهم، ثم قام الرعاع اليونان بنهب بيوت الأتراك وقتلهم، واستمر لشهور عديدة اضطهاد السكان الأتراك والاعتداء على ممتلكاتهم برضا وتشجيع من السلطات اليونانية، وذلك بهدف إكراه الأتراك على ترك إزمير وتهجيرهم من مناطق الاحتلال اليوناني، وبلغت أخبار هذا التقتيل والسلب أوروبا لأن إيطاليا كانت تنافس اليونان في السيطرة على هذه المنطقة، وخسر بسببها اليونانيون قدراً كبيراً من التعاطف الأوربي معهم، وأصاب هذا الاحتلال بالذات كبرياء الأتراك في الصميم، وحفز جماعات المقاومة التركية على التجمع في تنظيم موحد لدحر الاحتلال.

 

وانبثق عن مؤتمر فرساي فيما يخص تركيا مؤتمر فرعي عقد مباحثاته في بلدة ?ِ??ر Sèvres شرقي باريس، وتمخض عن معاهدة دعيت معاهدة ???ر، وقعت في 25 ذي القعدة سنة 1338=10/8/1920، وتضمنت المعاهدة تقسيم تركيا التاريخية بين الحلفاء بحيث تأخذ أرمينيا المنطقة الشمالية الشرقية التي تمتد لما بعد طرابزون غرباً ولمسافة جيدة بعد وان شرقاً، وتأخذ اليونان أزمير والمنطقة المحيطة بها وأدرنة والمنطقة الواقعة شرقها، وتبقى استانبول والمضايق منزوعة السلاح وتحت السيطرة الدولية ومعها كذلك موانئ الإسكندرونة وإزمير وحيفا والبصرة وطرابزون وباطومي، وقسمت المعاهدة ما تبقى من تركيا إلى مناطق نفوذ فرنسية وإيطالية وبريطانية، وأصبحت مساحة الدولة التركية بموجب هذه المعاهدة قرابة 450.000 كيلاً مربعاً بعد أن كانت قبل الحرب العالمية 1.600.000 كيلاً مربعاً.

 

وتضمنت المعاهدة سيطرة الدول الثلاث؛ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا على الشؤون المالية التركية، وحددت الحد الأعلى للقوات القوات البرية والبحرية التي تستطيع تركيا تجنيدها، وحظرت أن تمتلك تركيا طائرات حربية، ورفضت اليونان توقيع المعاهدة لأنها كانت تطمع في أكثر مما منحتها إياه.

 

ووقع المعاهدة عن الجانب التركي الوزير الأعظم الداماد فريد باشا، ووزير المعارف هادي باشا بغدادلي والسفير رشيد خالص، ورضا توفيق بلوكباشي.

 

وبعد توقيع اتفاقية ???ر بشهرين عين السلطان حكومة جديدة يرأسها أحمد توفيق باشا، وأعلن رئيس الوزراء أنه سيدعو الجمعية التشريعية للانعقاد حتى تصدّق على المعاهدة بشرط توفر الوحدة الوطنية، وهو الشرط الذي لم يتحقق بسبب أن مصطفى كمال أعلن معارضته للمعاهدة، وبدأ تحركاً عسكرياً لتحرير الأراضي التركية من الاحتلال، وأصدرت الحكومة التركية في استانبول مذكرة للدول الحليفة تبلغها باستحالة تصديق المعاهدة في الوقت الراهن بسبب هذه الظروف، وهو ما يؤيد نظرية أن حكومة استانبول كانت على تنسيق خفي أو تناغم مع مصطفى كمال.

 

وجاء أول نجاح عسكري لحكومة أنقرة عندما ألحقت الهزيمة بقوات الفيلق الأرمني الفرنسي في مرعش في أول سنة 1338=1920، ثم أعقبت ذلك بحملة عسكرية على أرمينيا قادها كاظم قره بكر، وألحقت بها هزيمة منكرة استقالت على إثرها الحكومة الأرمينية، واضطر وزير الخارجية الأرمينية لتوقيع معاهدة أملاها الجانب التركي، وذلك في 21 صفر 1339= 3/12/1920، وعُرفت بمعاهدة الكساندروبول.

 

وحققت حكومة أنقرة أول اعتراف خارجي بها عندما وقعت معاهدة أُخوة مع حكومة الجمهورية الروسية الفيدرالية الاشتراكية، وذلك في 6 رجب 1339= 16/3/1921، وعرفت بمعاهدة موسكو، وفي المعاهدة اعتبرت روسيا أن حكومة أنقرة هي الحكومة الشرعية الممثلة للشعب التركي، وأن حدود تركيا هي الحدود التي حددها المؤتمر التركي الوطني العام، ونتج عن المعاهدة توفير المال والسلاح الروسي لقوات مصطفى كمال باشا، ولا تزال هذه المعاهدة سارية المفعول والأساس الذي تبنى عليه العلاقات التركية الروسية.

 

وفي هذه الأثناء تقدم الجيش اليوناني حتى صار على مقربة من أنقرة، ورغم كل الظروف المعاكسة، استطاع الجيش التركي بقيادة مصطفى كمال أن يتصدى له في معركة سقاريا التي دامت 20 يوماً وانجلى غبارها في يوم 10 محرم سنة 1340=13/9/1921عن هزيمة شنيعة لليونانيين على الصعيد العسكري، وعلى إثرها منح المؤتمر الوطني التركي العام مصطفى كمال رتبة المارشال ولقب الغازي، وفي هذه المناسبة قال أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته المشهورة:

 

الله أكبرُ، كم في الفتح مِن عَجَبِ ... يا  خالد الترك جَدِّد خالد العربِ

لَم يُغنِ عن قادة اليونان ما حشدوا ... من السلاحِ وما ساقوا من العُصَبِ

وتَركُهُمْ آسيا الصغرى مُـدَجَّجَةً ... كَثُكنَةِ النحلِ أو كالقنفذ الخَشِبِ

تَلَمَّسَ التركُ أسبابا فما وجدوا ... كالسـيف من سلَّمٍ للعِـزِّ أو سَـَـبِ

ما  كانَ ماءُ سَقارَيّا سوى سَقَرٍ ... طغت فأغرقتِ الإِغريقَ في اللهبِ

زَحَفتَ زَحفَ أبيٍّ غيرِ ذي شَفَقٍ ... على الوِهادِ ولا رفق عـلى الهِضِب

تحيـة أيها الغازي  وتهنـئة ... بآية الفتحِ تَبقى آية الحِقَبِ

مِن فَلِّ جيشٍ ومن أنقاضِ  مملـكة ...  ومن بقيـةِ قومٍ جـئتَ  بالعَجَبِ

أَخرَجتَ  للناسِ من ذُلٍّ ومن فَشَلٍ ... شَعبًا وراء العَوالي غيرَ مُنشَعِبِ

هَزَّت دمشقُ بني أيوبَ فانتَبِهوا ... يَهنَئونَ بني حمدانَ في حلبِ

مَمالِكٌ ضَمَّها الإسلامُ في رَحِمٍ ...  وَشيجَةٍ وحَوَاها الشرقُ في نسبِ

 

وبعدها بشهر وقعت حكومة أنقرة اتفاقاً مع الحكومة الفرنسية في 17 صفر 1340= 20/10/1921 أنهى حالة الحرب مع فرنسا.

 

وفي 11 ربيع الأول 1341=1/11/1922 أصدر المؤتمر الوطني التركي العام بطلب من مصطفى كمال قراراً بإلغاء السلطنة، وتعيين عبد المجيد ابن السلطان عبد العزيز في منصب الخليفة، وسلم السلطان محمد وحيد الدين بالأمر الواقع، وغادر استانبول بعد أسبوعين على متن سفينة  بريطانية توجهت به إلى مالطا، ثم انتقل منها إلى ساحل الريفيرا  في إيطاليا حيث عاش حتى وفاته سنة 1344=1926، ووفقاً لوصيته نقل جثمانه ليدفن في التكية السليمانية في دمشق، فقد كانت تركيا تمنع السلالة السلطانية العثمانية من أن تقيم أو تدفن فيها.

 

وجعلت المكاسب العسكرية التي حققها الأتراك اتفاقية سيفر في حكم الملغاة، ودعا الحلفاء تركيا للتفاوض من جديد في مدينة لوزان السويسرية في أواخر سنة 1922، وانتهت المفاوضات بالتوقيع على معاهدة لوزان في 10 ذي الحجة 1341=24/7/1923، ووقع المعاهدة من الحلفاء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا ومملكة الصرب والكروات والسلوفاك، وحددت المعاهدة حدود تركيا الحالية، وتضمنت تعهدها بضمان سلامة الملاحة البحرية في المضائق التركية، وتخليها عن ولاياتها السابقة التي انفصلت أو وقعت تحت الاحتلال الحليف مثل مصر والسودان وقبرص واليمن، وتضمنت كذلك تناز ل تركيا لإيطاليا عن بضعة جزر في جنوب بحر إيجة.

 

وفي 18 صفر 1342=29/10/1923 أعلن في أنقرة عن تأسيس الجمهورية التركية، وانتهى بذلك حكم آل عثمان بعد أن دام قرابة 623 سنة، وكانت الخطوة الثانية إلغاء الخلافة التي أسماها مصطفى كمال باشا: هذا الورم الآتي من الماضي.

 

فقد كان الخليفة عبد المجيد رجلاً مهذباً مثقفاً كما يليق بسلالة بني عثمان، وأصبح في نظر الأتراك آخر صلة حية لهم بالتاريخ العثماني والدين الإسلامي، وكانت جماهير استانبول تهرع لإلقاء نظرة عليه وتحيته كل جمعة وهو في طريقه لأداء الفريضة، وكان الخليفة مدركاً تمام الإدراك مكانة منصبه السامية، وعراقة السلالة التي ينتمي إليها، فكان مرة يرتدي عمامة محمد الفاتح وثانية يتقلد سيف السلطان سليمان القانوني، ولم يطق ذلك مصطفى كمال فأمر في 26 رجب 1342= 3/3/1924 أن يصدر المجلس التركي الوطني العام قراراً بإلغاء الخلافة، وهكذا دخلت الأمة الإسلامية في طور جديد من تاريخها، وفي إلغاء الخلافة قال أمير الشعراء قصيدته المشهورة التي جاء فيها:

 

عادت أغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ ... وَنُعيتِ بين معالم الأفراحِ

كُفِّنتِ في لَيلِ الزفافِ بثَوبهِ ... ودُفِنتِ عند تبلُّج الإصباحِ

ضَجَّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ ... وبَكَت عليك ممالكٌ ونَواحِ

الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينةٌ ... تبكي عليك بِمدمعٍ سَحّاحِ

يا للرجال لحُرَّةٍ موؤودةٍ ... قُتِلَت بغير جريرَةٍ وجُناحِ

إِنَّ الَّذينَ أَسَتْ جِراحَكِ حَربُهُمْ ... قَتَلَتكِ سلمُهُمُ بغير جِراحِ

ولذلك حديث آخر، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين