حدث في العاشر من ربيع الأول وفاة السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح سنة 918

 

في العاشر من ربيع الأول من سنة 918 توفي، عن 63 سنة، السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح، ثامن سلاطين الدولة العثمانيةـ والذي تميز عهده بتوطيد أركان الدولة العثمانية وسلسلة من الحروب الظافرة في الشرق والغرب.

 

ولد بايزيد سنة 856=1448، وأمه محظية ألبانية الأصل اسمها جُلبُهار خاتون، وكان الابن الأكبر للسلطان محمد الفاتح، وأرسله والده وهو في سن السابعة أميراً على أماسيا في شمال وسط الأناضول، فتمرَّس بالحكم منذ نعومة أظافره، وحاز إعجاب من حوله في فهمه وحسن تصرفه، ودرس على يد عدد من علماء عصره مثل الشيخ ابن المعرف، والذي كان السلطان يثني عليه ثناء جميلا، وقال عنه: لولا صحبتي معه لما صحت عقيدتي. وكان يكرمه إكراما عظيما، ولم يترك السلطان بايزيد صحبته إلى أن توفي.

 

ودرس بايزيد في أماسيا الرياضيات والفلك على ابن قاضى زاده، محمود بن محمد، ويقال له كذلك ميرم جلبي، والمتوفى سنة 931، ودرس بايزيد كذلك على المولى قاسم بن يعقوب الأماسي المشهور بالخطيب والذي صار فيما بعد أستاذاً لابنه الأمير أحمد لما صار أميراً على أماسيا، وكان له إمام ملازم له هو المولى علاء الدين علي الأماسي، المتوفى سنة 927، والذي أرسله بايزيد في أيام سلطنته رسولاً في الصلح إلى السلطان المملوكي قايتباي في مصر.

 

وفي أماسيا صادق الأمير الشاب شاباً مثله من طلبة العلم هو ابن المؤيد الأماسي، عبد الرحمن ابن علي، المولود سنة 860، فوشى به في سنة 881 بعض المفسدين الى السلطان محمد الفاتح وقالوا: إنه يفسد الأمير بايزيد، فأمر بقتله، فأُخبر بذلك بايزيد قبل وصول أمر والده إليه، فأعطاه عشرة آلاف درهم وأخرجه من ليلته من أماسيا إلى حلب، وكانت تحت حكم المماليك، فأقام هناك مدة يسيرة، وقرأ النحو على بعض علمائها، ثم ذهب إلى المولى جلال الدين الدواني في شيراز، فدرس عليه 7 سنين، ولما سمع بجلوس السلطان بايزيد عاد إلى أماسيا ثم استانبول، فعينه السلطان مدرساً في إحدى مدارسها الكبار ثم قاضياً على استانبول، وتوفي سنة 922.

 

ولمع نجم الأمير بايزيد لما شارك وهو في الحادية والعشرين في سنة 841=1437 في حملة ضد الأمير حسن الطويل الذي كانت إمارته التركمانية تسيطر على شرق الأناضول وأذربيجان، وهي الحملة التي انتهت بهزيمة ساحقة للتركمانيين، وإن استطاعوا الحفاظ على بقائهم حتى أيام السلطان سليم الأول، ابن السلطان بايزيد.

 

ولكن بايزيد تميز كذلك بمخالفته لوالده السلطان محمد الفاتح في عدد من الأمور، وضمت حاشيته عدداً من الأشخاص الذين لم تعجبهم سياسات محمد الفاتح في إدارة الولايات إدارة مركزية، وإمعانه في مصادرة الأراضي الخاصة، وهو أمر أثار استياء السلطان محمد الفاتح وحاشيته.

 

ولما توفي السلطان محمد الفاتح، عن 50 سنة، في 4 ربيع الأول سنة 886=3/5/1481، كان بايزيد واليا على أماسيا في شمال وسط تركيا، وأخوه الأصغر جم في قونية والياً على القرمان، وأخفى الصدر الأعظم محمد باشا القرماني خبر الوفاة، وأرسل إلى ابنيه بايزيد وجم نبأ وفاة والدهما ليأتيا إلى القسطنطينية، وكان تفضيله وتقديره أن يصل جم من قونية أولاً لقربها، ولكن ذلك لم يتم، لأن سنان باشا والي الأناضول اعترض الرسول الذاهب إلى جم وقتله، وثانياً لأن الإنكشارية علموا بتدبير الوزير، فثاروا عليه وقتلوه وعثوا في المدينة سلبا ونهبا، وأقاموا قُرقُود ابن بايزيد الصغير، وعمره 11 سنة، نائبا عن أبيه لحين حضوره.

 

ولما وصل الرسول إلى بايزيد في أماسيا سافر في اليوم التالي بأربعة آلاف فارس، ووصل إلى القسطنطينية بعد تسعة أيام مع أن المسافة تقطع عادة في نحو 15 يوما، فاستقبله أمراء الدولة وأعيانها عند مضيق البوسفور، وتقدم له الإنكشارية خاضعين طالبين العفو عنهم فيما وقع من قتل الوزير ونهب المدينة، وأن ينعم عليهم ببعض المال مكرمة منه بمناسبة توليه السلطنة، فأجابهم إلى جميع مطالبهم، وصارت هذه سُنّة لكل من تولى بعده إلى أن أبطلها السلطان عبد الحميد الأول بعد قرابة 300 سنة في سنة 1188=1774.

 

وفي 23 صفر سنة 886 تولى السلطان بايزيد الثاني عرش الدولة العثمانية، وصلى على والده في جامع الفاتح ثم واراه في ضريحه بجوار الجامع، وعين بايزيد في منصب الصدر الأعظم إسحاق صاري باشا، الذي كان أول أعماله أن أنقذ 8000 جندي عثماني مضت عليهم بضعة شهور وهم محاصرون في قلعة أوترانتو في جنوبي إيطاليا، فقد كان السلطان محمد الفاتح قد أرسل قبل سنة أسطولاً هاجم جنوب إيطاليا واحتل أوترانتو التابعة لمملكة نابولي، فأعد ملكها فرديناند الأول جيشاً بمساعدة مالية من فلورنسا استطاع هزيمة الغزاة وحصرهم في قلعة أوترانتو.

 

واستدعى الصدر الأعظم أحد قادة السلطان محمد الفاتح المحنكين، وهو أحمد كدك باشا، الذي انتزع من جنوة ميناء كافا في القرم، وأرسله في مهمة عاجلة إلى أوترانتو لإنجاد الجنود المحاصرين، وفي إيطاليا جرت مباحثات بين القوة العثمانية ومملكة نابولي انتهت بالاتفاق على انسحاب الجنود العثمانيين من القلعة دون أن يتعرض لهم جنود نابولي، وطويت بخروجهم صفحة فتح إيطاليا التي كان قد خطها السلطان محمد الفاتح.

 

كانت أمام السلطان بايزيد مشكلة داخلية كبيرة هي الصراع على العرش مع أخيه الأصغر الأمير جم، البالغ من العمر 23 سنة، والذي كان يتطلع لخلافة والده، والذي لجأ في النهاية لأوروبا، وأراد ملوكها أن يستغلوه في حملة يشنوها على الدولة العثمانية، وهي مشكلة بقي تتحكم بسياسات السلطان بايزيد الثاني الداخلية والخارجية، حتى إذا توفي أخوه ولم يعد ثمة خطر يخشاه منه، تغيرت سياساته بعدها تغيراً كبيراً.

 

ذلك إن الأمير جم لم يقبل بالأمر الواقع، واتجه مع قواته إلى مدينة بورصة، فهزم واليها واستولى عليها، وأعلن نفسه سلطاناً ، ثم أرسل إلى أخيه يعرض عليه الصلح بشرط تقسيم المملكة بينهما فيختص جم بولايات آسيا وبايزيد بأوروبا، فلم يقبل بايزيد بل سار في جيشه إليه، وخاضا معركة بالقرب من بورصة عند مدينة ينى شهر في يوم 23 جمادي الأولى سنة 886=20/7/1481، وانهزم جم جنوباً إلى قونية فتبعه السلطان بايزيد، فهرب إلى أضنة حيث آواه أميرها رمضان أوغلو، وكان تابعاً للدولة المملوكية.

 

 ثم خرج جم من إلى الشام لاجئا إلى السلطان المملوكي قايتباي في القاهرة، فعاد بايزيد إلى عاصمته، وفي العودة طلب منه الإنكشارية أن يبيح لهم نهب مدينة بورصة مجازاة لها على قبولها الأمير جم، فلم يأذن لهم، وخوفا من حصول شغب منهم أرضاهم بأن دفع إلى كل نفر مبلغاً من الدراهم.

 

وأقام جم سنة بالقاهرة في ضيافة السلطان قايتباي، أدى فريضة الحج خلالها، وهو الرجل الوحيد الذي حج من السلالة السلطانية، ثم عاد في السنة الثانية إلى حلب ومنها راسل خاله قاسم بك آخر أمراء القرمان، ووعده أنه لو ساعده في الحصول على عرش السلطنة، فإنه سيعيد إليه بلاد أجداده، فاغتر قاسم بك بهذه الوعود، وجمع قواته وسار مع الأمير جم لمحاصرة مدينة قونيه عاصمة بلاد القرمان، وكان قد وليها أحمد كدك باشا القائد العسكري المحنك، فتصدى للأمير جم ورده على أعقابه.

 

وبعد هذه الهزيمة حاول الأمير جم أن يصالح السلطان بايزيد بشرط إقطاعه بعض الولايات، ولكن بايزيد رفض ذلك لأنه تأكد من أن طموح أخيه سوف يتجاوز ذلك عاجلاً أم آجلا، ولن يرضيه إلا تقاسم السلطة معه وانقسام الدولة من جراء ذلك.

 

وانتهى الأمر بالأمير جم في جزيرة رودُس في «ضيافة» فرسان القديس يوحنا ألد أعداء الدولة العثمانية، فقد أبحر من الشواطئ الجنوبية إلى جزيرة رودس على أمل أن يبحر منها للقسم الأوروبي من السلطنة، فيحاول مُلْكاً مرة أخرى، وكانت الجزيرة مقر فرسان القديس يوحنا، ألد أعداء الدولة العثمانية، وكانوا يغيرون منها على سفن المسلمين، وغيرهم أحياناً، فيسلبون ويأسرون، ووصل الأمير جم إلى الجزيرة في 6 جمادى الآخرة سنة 887=23/6/1482، ولقي وافر الترحيب من كبير الفرسان الراهب بيير دوأوبيسون.

 

وكان لوجود أخي السلطان عند رهبان القديس يوحنا دويٌّ هائل في أنحاء أوروبا، فقد جاءتهم على غير سعي وسيلة ضغط على السلطان العثماني، وكانت لا تزال في أذهانهم وربوعهم حية ذكريات وآثار محاولة السلطان محمد الفاتح في أوائل سنة 885 فتح الجزيرة ومحاصرته لقلعتها 3 أشهر، وسرعان ما أرسل ملك هنغاريا وإمبراطور ألمانيا يطلبان «استضافة» الأمير في ممالكهما.

 

وصدق ظن فرسان القديس يوحنا، فبعد 3 شهور أرسل السلطان بايزيد مبعوثاً سرياً إلى الجزيرة اتفق مع رئيس الرهبنة على إبقاء الأمير جم عندهم تحت الحفظ، مقابل أن يتعهد السلطان لهم بعدم الهجوم على الجزيرة مدة حياته، ويدفع لهم مبلغا سنويا قدره 45.000 عملة ذهبية من سك البندقية تسمى الدوكة، فقبل رئيسهم ذلك، ولم يسلموه لأحد، ثم أرسله رئيس الرهبنة إلى أحد مقرات الرهبنة في فرنسا، وفي سنة 894=1489 سلمه رئيس الرهبنة إلى البابا إنُّوسَنت الثامن، مقابل أن يرسِّمه البابا كاردينالاً وأن يمنحه صلاحيات ترسيم الرهبان من فرسانه دون الرجوع إلى البابا، واتصل البابا بالسلطان بايزيد طالبا أن ينتقل إليه الاتفاق الذي جرى مع رهبنة رودس، ويدفع له السلطان ذات المبلغ، فوافق السلطان على ذلك، ثم مات إنُّوسَنت الثامن وخلفه الكساندر بورجيا، والذي كان مشهوراً بفساده ومجونه ومؤامراته، ويقال أن هذا البابا عرض على السلطان بايزيد أن يتخلص له من أخيه لو دفع إليه ثلاثمئة ألف دوكة.

 

وفي سنة 899=1494 بدأ شارل الثامن ملك فرنسا حملته الكبرى على إيطاليا لاسترجاع حقوقه الوراثية في مملكة نابولي، فاكتسح شمال إيطاليا ثم اتجه جنوباً إلى روما ونابولي دون أن يلقى مقاومة تذكر، ولكن هذه الانتصارات لم تكن دائمة فقد ألبت عليه أمراء ميلانو والبندقية والبابا في روما، وخشي منها ملكا النمسا وإسبانيا، فتجمعوا ضده في تحالف سمي العصبة البندقية، وراسلت العصبة البندقية السلطان بايزيد طالبة منه المساعدة تجاه هذا الجيش الجرار الذي أعده الملك شارل الثامن واستدان لأجله الأموال الطائلة، وأخبروه أنه يطمح في فتح القسطنطينية بعد فتح إيطاليا، وطلبوا منه أن يرسل جيوشه إلى إيطاليا وأن يأخذ حذره في الداخل، لأن الملك شارل الثامن حاصر روما وطلب من البابا تسليمه الأمير جم، فسلمه إليه، ولكن قبل دخول الملك شارل الثامن نابولي بأسبوع مات الأمير جم، ويرجح مؤرخون أن البابا دس له السم قبل تسليمه إليه، وفي منتصف سنة 900=1495 جرى في نابولي احتفال فخم لتتويج شارل الثامن ملكاً بعد سنة من بدايته الحملة، ولكن العصبة البندقية هزمته هزيمة منكرة بعدها بشهر في معركة فورنوفو، وذهبت انتصاراته شيئاً فشيئاً أدراج الرياح، ولم تكن هناك أية حاجة للدعم العثماني.

 

كانت العلاقات بين العثمانيين وبين المماليك علاقات سلمية في مجملها، ومضى ما يزيد على قرن لم تتحارب فيه الدولتان المسلمتان، وهو أمر غريب بمجريات أحداث تلك الفترة، ولكن هذا الأمر ما لبث أن تغير في عهد السلطان بايزيد ومخططه لتوطيد الدولة العثمانية، وكانت مملكة أو إمارة القرمان في الجنوب في أضنة، وإمارة دِلقادر في الشرق في مرعش، لا تزالان مستقلتين، وكانتا تشكلان منطقة عازلة بين العثمانيين وبين المماليك، وكان أمراؤها يميلون للماليك لبعد عاصمتهم القاهرة عنهم، ولقبولهم منهم بالولاء الإسمي والقليل من المال، في حين كانت الدولة العثمانية في ظل السلطان محمد الفاتح قد أصبحت ذات إدارة مركزية قوية، لا تمنحهم إلا قليلاً من الاستقلال.

 

وبعد موت أخيه جم وخلو الخطر المحتمل منه ومن الملك شارل الثامن، خاض السلطان بايزيد حرباً مع المماليك في هاتين المنطقتين دامت 6 سنوات، من سنة 890 إلى سنة 896، وفي البداية احتل العثمانيون طرسوس وأعلن محمود بك زعيم القرمان التبعية العثمانية، ولكن المماليك وحلفاءهم حققوا فيها انتصارات بارزة وهزموا الجيش العثماني وأسروا قائده الذي سيق أسيراً إلى القاهرة، حيث قابله الملك قايتباي وأطلق سراحه بعد أن حمّله رسالة للسلطان بايزيد أن هذه الحرب لا طائل من ورائها، ولا تنفع غير أعداء الإسلام، وأن الدولة المملوكية لن تتخلى عن هذه الأراضي للعثمانيين، وتقترح إيقاف الحرب وعودة كل شيء إلى ما كان عليه.

 

ولم تلق هذه الرسالة استجابة في القسطنطينية، وأرسل السلطان بايزيد جيشاً آخر احتل طرسوس وأضنة، ولكن المماليك هزموه واستعادوا سيطرتهم على أضنة، وتابعوا توغلهم حتى وصلوا إلى قيصري، وانتهت الحرب بوساطة من سلطان تونس يحيى الثالث الحفصي على أن يعود الوضع في هذه الإمارات كما كان عليه قبل الحرب.

 

وفي هذه الأثناء كان مسلمو الأندلس يواجهون خطر الاندثار على يد مملكة قشتالة وآراغون، التي كانت منذ سنوات تشن حرباً دائمة على ملوك الطوائف، وتلتقمهم الواحد تلو الآخر، وأرسل أبو عبد الله الصغير ملك غرناطة رسلاً إلى السلطان قايتباي في القاهرة والسلطان بايزيد الثاني استانبول يستصرخونهم على الخطر الوشيك، فأرسل قايتباي راهباً من القدس إلى قشتالة يهددهم بقتل المسيحيين في القدس وإغلاق فلسطين في وجه الحجاج المسيحيين، ولكن عقلية الدولة الكاثوليكية المتعصبة في إسبانيا ما كانت لتعير هذا التهديد أية اهتمام.

 

وتطلع أهل الأندلس في تعلق الغريق إلى من حولهم من سلاطين المسلمين، عسى أن ينقذوهم مما هم فيه، وقد أورد الـمَقَري في كتابه أزهار الرياض في سيرة القاضي عياض، رسالة كتبها أندلسي مستصرخ إلى السلطان بايزيد، وختمها بقصيدة طويلة، وهي رسالة ضعيفة الألفاظ ليست فيها مسحة بلاغة أهل الأندلس، ولكننا نورد بعض ما جاء فيها مما يناسب ماذكرناه:

 

حضرة مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر، ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين ... محي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين، وسلطان البحرين، حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكهفنا وغياثنا، مولانا أبو يزيد...

 

سلام على مولاي، مَنْ دارُ ملكه ... قسنطينةٌ أكرم بها من مدينة

 

سلام على أهل الديانة والتقى ... ومن كان ذا رأي من أهل المشورة

 

سلام عليكم من عبيد تخلفوا ... بأندلس في أرض غربة

 

أحاط بهم بحر من الروم زاخر ... و بحر عميق ذو ظلام ولجة

 

شكونا لكم يا مولاي ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وعظم الرزية

 

غُدِرّنا ونُصِرّنا وبُدِلَ دينُنا ... ظلما وعوملنا بكل قبيحة

 

ولما تفانت خيلنا ورجالنا ... و لم نر من إخواننا من إغاثة

 

و قلَّت لنا الأقوات واشتد حالنا ... أطعناهم بالكره خوف الفضيحة

 

فقال لنا سلطانهم وكبيرهم ... لكم ما شرطتم كاملا بالزيادة

 

فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة

 

وأحرق ما كانت لنا من مصاحفٍ ... و خلطها بالزبل أو بالنجاسةِ

 

وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزءٍ وحقرة

 

ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم ... و لا مصحفاً يخلي به للقراءة

 

وقد بُدلت أسماؤنا وتحولت ... بغير رضاً منا وغير إرادة

 

وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى ... ولا مسلمين نطقهم بالشهادة

 

سألناك يا مولاي بالله ربنا ... وبالمصطفى المختار خير البرية

 

عسى تنظروا فينا وفيما أصابنا ... لعل إله العرش يأتي برحمة

 

فقولك مسموع وأمرك نافذ ... و ما قلت من شيء يكون بسرعة

 

ودين النصارى أصله تحت حكمكم ... ومن ثَم يأتيهم إلى كل كورة

 

فسل بابهم أعني المقيم برومةٍ ... بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة؟

 

وما لهم مالوا علينا بغدرهم ... بغير أذى منا وغير جريمة

 

وجنسهم المغلوب في حفظ ديننا ... وأمن ملوك ذي وفاء أجلة

 

ولم يُـخرَجوا من دينهم وديارهم ... و لا نالهم غدر ولا هتك حرمة

 

ومن يُعْطِ عهداً ثم يغدر بعهده ... فذاك حرام الفعل في كل ملة

 

ولا سيما عند الملوك فإنه ... قبيح شنيع لا يجوز بوجهة

 

وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعملوا منه جميعاً بكلمة

 

وما زادهم إلا اعتداء وجرأة ... علينا وإقداما بكل مساءة

 

وقد بلغت أرسال مصر إليهم ... و ما نالهم غدر ولا هتك حرمة

 

فها نحن يا مولاي نشكو إليكم ... فهذا الذي نلناه من شر فرقة

 

عسى ديننا يبقى لنا وصَلاتنا ... كما عاهدونا قبل نقض العزيمة

 

وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم ... بأموالنا للغرب دار الأحبة

 

فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا ... على الكفر في عز على غير ملة

 

فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم ... ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة

 

ومن عندكم نرجو زوال كروبنا ... و ما نلنا من سوء حال وذلة

 

فأنتم بحمد الله خير ملوكنا ... و عزتكم تعلو على كل عزة

 

وأرسل السلطان بايزيد أسطولاً يقوده الريس كمال هاجم عدداً من الموانئ التابعة لدولة قشتالة وأراجون في وسط وجنوب البحر المتوسط، ثم هاجم مالقة وأخربها، ولكن تلك الغارات لم تؤثر كثيراً في عزيمة الدولة الإسبانية، واستسلمت غرناطة في 1 ربيع الأول سنة 897، وانتهت دولة الإسلام في الأندلس، تاركة وراءها نحو 3 ملايين مسلم و300.000 يهودي، ما لبثت الدولة الإسبانية أن خيرتهم بين الهجرة أو التنصر.

 

وأرسل السلطان بايزيد سفناً نقلت المسلمين واليهود إلى المناطق الآمنة، واختار أغلب المسلمين الهجرة إلى المغرب الأقصى، وجاء عدد كبير من اليهود الإسبان فاستوطنوا في أنحاء تركيا، وبخاصة استانبول، وسار بايزيد على خطا والده السلطان محمد الفاتح في التعامل الطيب مع اليهود، وبث أوامره في أنحاء السلطنة، وبخاصة ولاياتها الأوروبية، لإيواء اليهود اللاجئين إليها، وتهدد من يؤذيهم أو يسيء إليهم، وسمح لموسى كابسالي رئيس الحاخامات، ويسمى حاخام باشي، بفرض ضريبة على أغنياء اليهود لافتداء فقرائهم من الإسبان.

 

على الصعيد الخارجي، يعد المؤرخون سنة 897=1492 بداية العلاقات الدبلوماسية بين السلطنة العثمانية والدولة الروسية، وذلك لأن السلطان بايزيد الثاني استقبل في تلك السنة أول سفير روسي أرسله إيفان الثالث، الذي كان يلقب دوق موسكو، ثم استقبل بعد ذلك بأربع سنوات سفيرا آخر استحصل من السلطنة على بعض التسهيلات للتجار الروس.

 

قام بايزيد بعدد من الحملات العسكرية في أوروبا، حقق فيها انتصارات مهمة، نتج عنها تقوية مركز الدولة العثمانية في الغرب، وكانت أول حملاته على إمارة مولدافيا التي كان ملكها اصطفان الكبير قد هاجم إمارة الأفلاخ في الجنوب، وكانت تابعة للدولة العثمانية، وذلك في أيام السلطان محمد الفاتح الذي قاد حملة ضد اصطفان، ولكنه استطاع هزيمتها في معركتين، فتركه العثمانيون إلى حين.

 

وحان ذلك بقدوم السلطان بايزيد وتغير الأحوال السياسية التي حولت بولندا وهنغاريا من حليفتين لمولدافيا إلى طامعتين في ضمها، وأعد السلطان بايزيد الثاني في سنة 899 جيشاً شارك فيه أمير الأفلاخ وتتار القِرِم، وهاجم مولدافيا وهزم اصطفان، واستطاع الاستيلاء على قلعة كيليا وتشتايا ألبا، وهما اليوم في جنوبي غربي أوكرانيا، وكان العثمانيون قد حاصروا الأخيرة من قبل 3 مرات دون أن يأخذوها، وبذلك سيطرت الدولة العثمانية على دلتا نهر الدانوب ومصب نهر الدنيبر في البحر الأسود، وعاد بايزيد منتصراً وقد خضع اصطفان لسطوته، ودفع الغرامة المالية التي فرضها السلطان عليه، وأصبح البحر الأسود خاضعاً بأكمله للدولة العثمانية.

 

وكانت علاقات الدولة العثمانية مع بولندا علاقات طبيعية أكدتها معاهدة وقعها معها السلطان بايزيد في سنة 895=1490، ولكنها ما لبثت أن انقلبت في سنة 902=1497 حين شن الملك البولندي يوحنا ألبرت الأول هجوماً على مولدافيا بهدف الاستيلاء على القلاع العثمانية في الدانوب والدنيبر، فتصدى له اصطفان وهزمه، وأرسل السلطان بايزيد أوامره للقائد بالي مالقوج أوغلو بالهجوم على بولندا في جيش قوامه 40.000 جندي، فهاجمها وهزم ملكها في معركة بوكوفينا، وتوغل فيها إلى وارسو وما بعدها، وبعد وفاة الملك يوحنا في سنة 906=1501 تحسنت العلاقات وسعى الكساندر الأول ملك بولندا وليتوانيا لإصلاح علاقته مع العثمانيين بعد تعرضه لغزو روسي في ليتوانيا، وأبرم في سنة 909=1503 مع السلطان بايزيد الثاني معاهدة سلام مدتها 5 سنوات.

 

وكانت المجر والبندقية قد نصحتا بولندا مراراً بالابتعاد عن التحرش بالدولة العثمانية، ولكنها رغم ذلك أعلنتا الحرب على الدولة العثمانية، فقد خشيتا من اندحار بولندا وسيطرة العثمانيين على قلب أوروبا، وهو أمر لم يكن محتملاً لأن الحملة العثمانية كانت للتأديب لا للفتح، وإزاء ذلك أصدر السلطان بايزيد الثاني أوامره إلى إسكندر باشا في البوسنة لشن حملة تأديبية أخرى على البندقية في قعر دارها، فهاجم في سنة 904=1499 مع 20.000 جندي منطقة الفريولي في شمال شرقي إيطاليا، وثم هاجم منها مدينتي بادوفا وفيتشنزا حتى كاد أن يصل إلى فيرونا، ولم يلق إسكندر باشا مقاومة كبيرة لأن أكثر قوات البندقية كانت مرابطة في جزر المورة في شرق البحر الأدرياتيكي بسبب الصراع الناشب فيها مع العثمانيين.

 

ذلك إن السلطان بايزيد الثاني كان قد بدأ في تنفيذ خططه لانتزاع السيطرة على شرق البحر الأدرياتيكي من جمهورية البندقية، وتوج ذلك بحملة كبيرة شملت البر والبحر ودامت 4 سنوات، واستطاع في أول سنة 905 هزيمة البنادقة في معركة ليبانتو، وأمر ببناء قلعتين كبيرتين تتحكمان بالخليج الفاصل بين جزر المورة وبين بر اليونان، وأكمل بايزيد فتوحاته في السنة القادمة واستولى على قلاع وموانئ مودون ونافارينو وكورون في الساحل الجنوبي الغربي، واستطاع البنادقة استرجاع نافارينو لفترة من الزمن، ولكنهم في نهاية الأمر كانوا قوماً عمليين فسعوا للتفاهم مع السلطان، وأرسلوا إلى استانبول النبيل زكريا فريسكي الذي أجرى مفاوضات تمخضت عن معاهدة 908=1502 والتي سلمّت فيها البندقية بالفتوحات العثمانية، وسمح لهم السلطان بالاحتفاظ بجزيرتي شيفالونيا وزنطة وجزيرة أخرى في غرب وجنوب غرب المورة، مقابل أن يدفعوا للسلطان أتاوة سنوية مقدارها 10.000 دوقة، وخسرت البندقية في هذه الحرب عدداً من موانئها الألبانية على ساحل البحر الأدرياتيكي.

 

وفي غمار هذه المعارك قام السلطان بايزيد الثاني بتقوية وتطوير الأسطول العثماني، فأمر في سنة 905 وحدها بإنشاء 50 سفينة كبيرة و200 سفينة متوسطة مزودة بالمدافع، ورغم أن بايزيد كان قد بدأ مفاوضات السلم مع البندقية، ولم تعد الحاجة قائمة لأسطول كبير، إلا أنه قام في سنة 907=1502 بإعادة تنظيم شامل للأسطول العثماني هدفت لتحويل الدولة العثمانية من سلطنة مهابة في البر إلى قوة بحرية رئيسية في البحر المتوسط، وهو الأمر الذي تحقق في أيام ابنه السلطان سليم، وساهم في فتح مصر المملوكية وإيقاف التوسع البرتغالي في البحر الأحمر وخليج فارس.

 

وعلى الصعيد الداخلي قام السلطان بايزيد الثاني بعدد من الإصلاحات التي غيرت سياسات والده السلطان محمد الفاتح، وذلك بتأثير من العلماء والمشايخ الذين كان بايزيد يميل إليهم ويعتمد عليهم، كما سنرى فيما بعد، ومن أهم إصلاحاته إعادة الأراضي والأوقاف التي صادرها والده لصالح السلطنة، ومن أهم تغييراته أمره بإزالة اللوحات التي كانت تزين قصر السلطنة والتي كان السلطان محمد الفاتح قد كلف برسمها رساماً من البندقية هو جنتيله بيلّيني الذي أقام في استانبول سنتين، والذي يظهر في عدد من لوحاته تأثره بالشرق والمسلمين.

 

وفي الطرف الشرقي للسلطنة واجه بايزيد تحدياً خارجياً من الدولة الصفوية التي ظهرت في إيران في سنة 906 على يد الشاه إسماعيل الأول، إسماعيل بن حيدر الأردبيلي، المولود سنة 892=1487، والذي كان والده حيدر شيخاً سُنّياً صوفياً قاد حركة جهادية في بلاد الكرج، وهي اليوم جورجيا، فلما مات خلفه ابنه إسماعيل الذي حول الحركة إلى مملكة حكمها 24 سنة من سنة 906=1501 إلى وفاته سنة 930=1524، وكان ابتداء أمره أن هزم في مرو الشيبانيين السُّنة الذين كانوا يحكمون أزبكستان، ثم أعلن تحوله إلى المذهب الشيعي تميزاً عن الدولة العثمانية، وتميز أتباعه كذلك في لبسهم لقبعة من الجوخ الأحمر فيها اثنا عشر شرابة ترمز للأئمة الاثني عشر، أمرهم بذلك أبوه حيدر، فسماهم الناس قِزِلباش، أي الرأس الأحمر، وأطلقها العثمانيون على الصفويين فيما بعد تحقيراً.

 

ولم يكن الشاه إسماعيل ملكاً محلياً مثل أمراء القرمان أو ذي القدر، بل كانت مملكته قائمة على أسس فكرية قوامها الدعوة الشيعية المتميزة، وبدأ الشاه في إيران حملة قسرية دموية لا رحمة فيها ولا هوادة لفرض التشيع على سكان إيران الذين كانوا أحنافا من أهل السنة، وأرسل دعاته، وكان يسمي واحدهم خليفة، لينشروا أفكاره في أذربيجان وشرقي الأناضول، وصاحب ذلك دعوات وادعاءات أن الشاه إسماعيل هو تجسُّدٌ للإمام علي رضي الله عنه، أو أنه هو المهدي المنتظر، ولقيت هذه الدعوة استجابة في صفوف تركمان الأناضول، وساعد في ذلك كون الشاه إسماعيل تركمانياً من جهة والدته سليلة الأمير حسن الطويل حاكم العراق السابق، وانضم له كثير من أمراء التركمان الذي فقدوا امتيازاتهم تحت وطأة الدولة المركزية في عهد السلطان محمد الفاتح.

 

وكان الرأي السائد في البلاط العثماني هو وجوب التصدي للصفويين ودعوتهم، فقد كانت طبيعتهم التوسعية ونزعتهم العدوانية واضحة للعيان، وكان الأمير سليم، الابن الثالث للسلطان ونائبه على طرابزون، من أقوى أنصار هذا الرأي، ولكن السلطان بايزيد الثاني لم يرغب في فتح جبهة حربية معهم، رغم تكرر اعتداءاتهم على الأراضي العثمانية الحدودية، وطموحهم لبسط سلطانهم على شرقي الأناضول.

 

وفي سنة 912=1507 هاجم الصفويون إمارة ذي القدر، ويقال لها كذلك دلغادر ودلقادر، وهم أخوال الأمير سليم فآواهم إليه في طرابزون، ثم ثأر لهم بأن سار شرقاً من طرابزون فاحتل كل المناطق التي كان أمراؤها يخضعون للشاه، وفي سنة =1510 أعد الشاه جيشاً قاده أخوه إبراهيم لاسترجاع هذه الأراضي، فسار إليه سليم على عجل، وهزمه في معركة قرب أرزنجان وأسر أخا الشاه، وكان للمعركة صدى كبير بين العامة ونظمت فيها أغنية ذاعت كثيراً في حينها تقول: سِرْ سلطاني سِرْ، فاليوم يومك.

 

ولجأ الشاه إسماعيل للدبلوماسية وشكا إلى السلطان بايزيد تعدي ابنه على هذه المناطق، وأرسل السلطان بايزيد رسالة لابنه سليم يأمره فيها بإطلاق سراح أخي الشاه، وإخلاء بعض المناطق التي استولى عليها، وهو الأمر الذي نفذه الأمير سليم وأدى لاستياء عارم وسط الجيش والعامة من تصرف السلطان بايزيد، وساهم في زيادة الشقة بينه وبين ابنه الأمير سليم.

 

ولم تكن هذه القضية الوحيدة بين الأب والابن، فقد كانت مسألة من يلي السلطان بايزيد تلوح في الأفق، حيث كان من الواضح أن صحته ليست على ما يرام، وكان مرض النقرس قد دبَّ في مفاصله فضعف عن الحرب والسفر، وكان السلطان يفضل أن يخلفه ابنه الأكبر أحمد ونائبه على أماسيا، وكان ابنه الثاني قُرقُود ونائبه في أنطاليا منصرفاً للاشتغال بالعلوم والآداب ومجالسة العلماء والتصنيف، وله ديوان شعر وكتاب الفتاوى  القرقود خانية، وكان كلاهما أقرب إلى استانبول من سليم في طرابزون، ولذا طلب سليم من والده أن يمنحه ولاية أخرى تكون أقرب إلى استانبول.

 

وسرت شائعة أن السلطان بايزيد سيتنازل عن العرش لابنه السلطان أحمد، فتحرك الأمير سليم على جناح السرعة وذهب إلى ميناء كافا في القِرِم، وادعى أنه اشتاق لرؤية والي القِرِم ابنه الأمير سليمان، السلطان سليمان القانوني فيما بعد، ولكنه كان في الحقيقة يسعى للمساندة من والد زوجته خان القِرِم، وعبر سليمان من القرم  إلى البلقان، وفي آخر سنة 916 وصل إلى أدرنة على رأس 300 فارس حيث كان والده يقيم منذ سنتين بعد زلزال هائل أصاب استانبول.

 

وفي تلك الأثناء اندلع تمرد للقزلباش في تكة في جنوب غربي الأناضول قاده متمرد تركماني وضابط سابق في خيالة الجيش العثماني، دعا نفسه شاه قولي، أي عبد الشاه، واستطاع المتمردون هزيمة جيش الأمير قُرقُود حين تصدى لهم، وساروا للاستيلاء على بورصة، فسار إليهم الصدر الأعظم علي باشا وهزمهم واستشهد هو في المعارك.

 

وبسبب هذه الاضطرابات وافق السلطان بايزيد على مطالب الأمير سليم، فجعله نائبه على سمندرة، سميديرفو في صربيا اليوم، ولكن سليم لم يلتحق بولايته خشية أن تكون في الأمر مكيدة له، وبخاصة بعد أن علم أن الصدر الأعظم أرسل يستدعي أخاه لتوليته العرش، فلم يتردد في المجاهرة بعصيانه مطالباً بالعرش، ولكن والده سار إليه على رأس الجيش، والتقيا قرب أدرنة في منتصف سنة 917، ولما رأى جنود سليم السلطان تشتتوا وتفرقوا، وعاد هو أدراجه هارباً إلى كافا في القرم.

 

وسمع الأمير أحمد بأخبار المواجهة، فجاء إلى استانبول على جناح على أمل أن يتنازل له والده عن العرش، ولكن الإنكشارية منعوه من دخول العاصمة فقد كانوا يفضلون أخاه الأمير سليم، فعاد أحمد إلى الأناضول ليجمع أنصاره ويعود بهم ثانية، أما أخوه قُرقُود فلما رأى استجابة والده لطلب أخيه سليم انتقل إلى ولاية صاروخان، القريبة من استانبول، وأعلن نفسه أميراً عليها دون أمر من والده، فأرسل والده جيشاً هزمه في معركة قرب تكة، وما لبث قرقود أن قبل بسلطنة أخيه سليم، ولكن أخاه قتله بعد بضعة شهور لشكه في أنه يتآمر عليه.

 

واستغل القزلباش هذه الفتن، فقاموا بتمرد آخر في توقاد في شمال وسط الأناضول، وإزاء ذلك وبضغط متزايد من الإنكشارية، دعا السلطان بايزيد ابنه سليم إلى استانبول ليعينه قائداً عاماً للجيش، وجاء سليم إلى استانبول في أول سنة 918 وخلع والده وتبوأ العرش في 7 صفر سنة 918، وما لبث والده السلطان بايزيد أن توفي بعد بضعة أسابيع في العاشر من ربيع الأول سنة 918، وهو في طريقه إلى ديموتيقا مسقط رأسه في تراقيا، وصلى عليه السلطان قانصوه الغوري صلاة الغائب في القاهرة.

 

كان السلطان بايزيد الثاني رجلاً صالحاً عادلا، ولذلك كان لقبه الشعبي عند الأتراك: العادل، أما ألقابه الرسمية فهي: أمير المؤمنين، سلطان الغزاة والمجاهدين، ناصر الشريعة والملة والدين، غياث الإسلام والمؤمنين المسلمين، السلطان بايزيد.

 

كان السلطان بايزيد بعيداً عن الملذات الدنيوية، متصوفاً تلقى الطريقة ودخل الخلوة، ولذلك لقبه بعض الأتراك: صوفي، ومما يروى عنه أنه أرسل مع الشيخ المتصوف بابا يوسف السفريحصاري، مبلغاً من المال إلى المدينة المنورة، وقال له: إن هذا المال حصل لي من طريق الحلال بكسب يدي، وأوصاه ان يجعله في قنديل الصدقات في المسجد النبوي، وأن يقول عند قبر الرسول: يا رسول الله، إن راعي أمتك العبد المذنب بايزيد يقرئك السلام، وأرسل هذا الذهب الحاصل من طريق الحلال ليُصرف إلى زيت قنديل تربتك، وتضرع إليك ان تقبل صدقته.

 

وكان السلطان بايزيد يرسل إلى الحرمين الشريفين في كل عام 14.000 دينار ذهباً يصرف نصفها على فقراء مكة المكرمة والآخر للمدينة المنورة، وأنشأ عدداً كبيراً من المساجد والمدارس والملاجئ.

 

ولما توفي العالم الفاضل الشيخ مصلح الدين مصطفى بن احمد الشهير بابن الوفاء في سنة 896 حضر السلطان بايزيد جنازته، ومما يذكر أن هذا الشيخ المتصوف كان منقطعاً عن الناس، أراد السلطان محمد الفاتح أن يجتمع معه، فلم يرض، ثم أراد السلطان بايزيد أن يجتمع معه فلم يرض بذلك أيضاً، فلما حضر السلطان جنازته أمر بكشف وجهه ليراه، فقالوا له إنه غير مشروع، فأصرَّ على ذلك، وكُشف عن وجهه فنظر اليه. وكان السلطان بايزيد لا يتكبر عن حضور دروس المشايخ في المساجد، وروي أنه حضر في آيا صوفيا درس تفسير المولى محيي الدين محمد بن إبراهيم بن حسن النكساري، المتوفى سنة 901، 

 

وكان السلطان بايزيد الثاني ينظم الشعر باللغة التركية، وله ديوان باسم عدلي على عادة الأتراك، ومن شعره الذي ترجمه المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام:

 

لا تحسبن هذا الفلك الغدار يكمن السرور

 

فإنه يضمر جوراً ويبدي صفاء

 

قد أذهب طبيبي آلامي بنظرة واعدة

 

كأنه لقمان تذهب يده بالسقام

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين