حدث في العاشر من رجب وفاة علاء الدين الكاساني

 

في العاشر من رجب من سنة 587 توفي في حلب،  الإمام علاء الدين الكاساني، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، الفقيه الحنفي الجليل الملقب: ملك العلماء.

 

ولد الكاساني في بلدة كاسان، وقد يقال لها أحياناً قاشان أو كاشان، وهي بلدة لا يزال اسمها الأزبكي اليوم كاسون Kason، وتقع في جنوبي أزبكستان متوسطة إلى الجنوب بين سمرقند وبخارى وشمال بلدة قارشي التي كانت تدعى في السابق نخشب أو نَسَف، ولا تفيدنا المصادر سنة ولادته، ولكنها تذكر أسرته كانت من أسرة الإمارة فيها.

 

وقد طلب العلم في سمرقند على الإمام علاء الدين أبي منصور محمد بن أحمد السمرقندي، المتوفى نحو سنة 575، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل: تحفة الفقهاء، في الفقه الحنفي، وشرح التأويلات في تفسير القرآن العظيم، وغيرهما من كتب الأصول، وسمع الحديث منه ومن غيره، وبرع في علمي الأصول والفروع، وزوّجه شيخه السمرقندي بابنته فاطمة الفقيهة العالمة.

 

وقيل إن سبب تزويجه بابنة شيخه أنها كانت من حسان النساء وتفقهت على أبيها وحفظت كتاب التحفة الذي ألفه والدها، وطلب الزواج بها جماعة من ملوك بلاد الروم فامتنع والدها، ولما جاء الكاساني ولزم والدها ودرس على يديه وبرع في علم الأصول والفروع وصنف كتاب البدائع في شرح كتاب شيخه التحفة، وعرضه على شيخه فازداد فرحاً به وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك، فقال الفقهاء في عصره: شرح تحفته وزوجه ابنته! وكان زوجها الكاساني ربما يعرض له شيء من الوهم في الفتيا فترده إلى الصواب وتعرُّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وكانت تفتي، وكان زوجها يحترمها ويكرمها، وكانت الفتوى أولا تخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت الكاساني صارت  الفتوى تخرج وعليها خط الثلاثة؛ خطها، وخط والدها، وخط زوجها.

 

وتقول كتب التاريخ أنه بعد أن أصبح عالماً يشار إليه بالبنان غادر بخارى مع زوجته إلى بلاد الروم، وهو اللفظ الذي يطلقه مؤرخو الحقبة المسلمون على مملكة السلاجقة التي بسطت نفوذها على جزء كبير مما يعرف اليوم بتركيا، فقد حكمت قونية، وكانت عاصمتها، وآقسراي وسيواس وملاطيا، وكان ملوكها يمتون بوشائج القربى للقبائل التركية في وسط شرق آسيا، والأرجح أنه جاءها بعد سنة 560 وذلك في أيام الملك قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي، المتوفى سنة 588 عن عمر طويل، وكان داهية في العلاقات السياسية، فقد زوج إحدى بناته للخليفة الناصر لدين الله في بغداد، وزوج ابنة أخرى لسيف الدين غازي ابن أخي نور الدين زنكي في حلب، ولكنه كان متقلباً لا أمان له، ولذا كانت العلاقات بينه وبين نور الدين ثم صلاح الدين في مدٍّ وجزر، فقد أنذره نور الدين بالكف عن محاربة جيرانه من الأمراء المسلمين، وأن يلتزم بالمشاركة في الجهاد ضد الصليبين.

 

ولقي الكاساني من لدن السلطان قليج كل احترام وتقدير، لا سيما وهو سليل الإمارة، ولا تزال لديه كما يقول ابن العديم نخوة الإمارة وعزة النفس، وخلافاً لعادة الفقهاء في ذلك الوقت، كان الكاساني يركب الحصان إلى أن مات، وله رمح يصحبه في الحضر والسفر.

 

وكان الكاساني متمكناً من علمه، معتداً بنفسه، وفي أوج شبابه، وقد جرت بينه وبين فقيه من كبار فقهاء الدولة السلجوقية يعرف بالشعراني مناظرة في مسألة المجتهدَين هل هما مصيبان أم أحدهما مخطئ، فقال الشعراني: المنقول عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل مجتهد مصيب، فقال الكاساني: لا بل الصحيح عن أبي حنيفة: إن المجتهدَين مصيب ومخطئ، والحق في جهة واحدة، وهذا الذي تقوله مذهب المعتزلة. واشتد بينهما الكلام في ذلك، وانتهى إلى أن احتدَّ الكاساني ورفع عصاه فأشار بها إلى ذلك الفقيه.

 

ووصل خبر ما حدث إلى السلطان قليج أرسلان فانزعج من هذا التصرف المخالف للعادة والعرف في احترام قواعد المناظرة مع فقيه من فقهاء دولته وفي سلطانه، لكنه مع ذلك لم يقل للكاساني ما يكرهه تقديراً لغزارة علمه وتمكنه، ولكن الملك قال لوزيره: لقد افتأت الكاساني على الرجل فاصرفه عنا. فقال الوزير: هذا شيخ جليل وله حرمة، ولا ينبغي أن يصرف، بل ننفذه رسولا إلى نور الدين محمود بن زنكي، ونتخلص منه بهذا الطريق. فأرسله بعد فترة رسولاً إلى نور الدين محمود بن زنكي الشهيد في حلب.

 

وكان نور الدين يبحث عن عالم ليوليه أمر المدرسة الحلاوية، وكان قد ولاها من قبل الإمام رضي الدين محمد بن محمد السَرَخْسيّ صاحب كتاب المحيط الرضوي في الفقه والذي بلغ أربعين مجلداً عندما جاء إلى حلب، وكان السرخسي إماماً جليلاً كما تشهد تآليفه، ولكن كانت في لسانه لُكْنة، فتعصب عليه جماعة من الفقهاء الحنفية بحلب، وصغّروا أمره عند نور الدين إلى أن عزله عن التدريس بها فتوجه إلى دمشق، وتوفي بها رحمه الله في سنة 571، وكتب  نور الدين إلى تاج الشريعة عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي وكان بالموصل ليقدم حلب ويتولى تدريس المدرسة.

 

ونقف هنا لنتأمل كيف اجتذبت حلب في هذه الحقبة عالماً من كاسان في أوزبكستان كان في قونية، وعالماً من مدينة سرخس في شمالي شرقي إيران اليوم قرب حدود تركمانستان، وعالماً من غزنة في شرقي أفغانستان كان في الموصل، وهذا كله أنموذج بسيط للتبادل العلمي والثقافي الذي نعمت به مدينة حلب ومدن الإسلام في تاريخنا العريق، والذي يعرفه تمام المعرفة من قرأ التاريخ واستوعب دروسه.

 

ولما وصل الكاساني رسولا من السلطان قليج أرسلان إلى نور الدين لقي في نفسه قبولاً واحترمه وأكرمه، وأعجب فقهاء حلب بالكاساني وسعة علمه، واجتمع فقهاء المدرسة الحلاوية وطلبوا من نور الدين أن يوليه التدريس بالمدرسة، فعرض نور الدين عليه ذلك، فدخل المدرسة ورآها فأعجبته، وأجاب نور الدين إلى ما عرضه عليه، ولكن الشيخ قال لنور الدين الشهيد: هذه الرسالة أمانة معي، فإذا أعدت الجواب إليهم عدت بعد ذلك، وقدمت حلب. وصدر أمر نور الدين بتعيين الكاساني في المدرسة، وبُسطت له سجادة التدريس بالمدرسة، وكانت تبسط كل يوم وهو غائب ويجتمع الفقهاء حولها في لفتة رمزية تعبر عن الحب والتقدير، وعاد الكاساني بجواب الرسالة إلى السلطان السلجوقي، ولكن ليس قبل أن يحضه نقيب الأشراف في حلب الشريف أبو طالب أحمد بن محمد على سرعة العودة إلى حلب.

 

وعندما عاد الكاساني إلى حلب واقترب منها وصل الخبر بوصوله إليها فخرجت جماعة عظيمة من الفقهاء إلى لقائه إلى باب بزاعا، أي مدينة الباب، ويبدو أن استقبال القادم خارج المدينة عادة حلبية عريقة، ويروي خليفة بن سليمان أحد مشايخ حلب قصة وصول الكاساني وكيف تضافرت جهود العلماء ليصل قبل الغزنوي ويحل بالمدرسة الحلاوية فيقول: كنت إذ ذاك صبيا صغيرا، فخرجت مع والدي فيمن خرج، فعهدي بالشيخ الكاساني والفقهاء مجتمعون حوله، وأقام ذلك اليوم بباب بزاعا على عزم الدخول صبيحة تلك الليلة، فجاءه في أثناء النهار رجل من الفقهاء وقال له: عَبَرَ ها هنا رجل شيخ فقيه ومعه جماعة من الفقهاء، وقالوا: هذا عالي الغزنوي، وقد جاء إلى حلب لأخذ المدرسة. فقال النجيب محمد بن سعد الله بن الوزان وجماعة غيره من الفقهاء للكاساني: المصلحة أن نقوم وندخل إلى حلب. فقام وسار فوصل حلب بكرة، وكان عالي قد وصلها عصر اليوم السابق، ونزل بالحجرة، فوصل الكاساني ودخل المدرسة والفقهاء حوله، فأرسل الفقهاء إلى عالي وقالوا له: تقوم وتخرج لأجل الشيخ. فامتنع فأعادوا له القول ثانيا، وقالوا: المصلحة أنك تخرج بحرمتك وإلا يدخل من يخرجك قسراً بغير اختيارك! فلما رأى الجَد في ذلك خرج من الحجرة ومضى إلى حجرة صغيرة كانت في جانب المدرسة فنزلها. جرى كل هذا ونور الدين إذ ذاك غائب عن حلب فكوتب في ذلك فولى الكاساني المدرسة الحلاوية، وولى عالي الغزنوي مدرسة الحدادين في دمشق.

 

وفي أول الأمر أرادت زوجته فاطمة الفقيهة العالمة العود إلى بلادها، وما كان الشيخ ليرفض أن يبتعد بزوجته وابنة شيخه عن أهلها، فاستأذن في السفر، فلما علم الملك العادل نور الدين الشهيد برغبة الشيخ في المغادرة استدعاه وسأله عن جلية الأمر، وأبدى له رغبته ورغبة العلماء أن يقيم بحلب، فعرَّفه السبب وأنه لا يقدر أن يخالف زوجته وابنة شيخه، فاجتمع رأي الملك وزوجها الكاساني على إرسال خادم بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلما وصل الخادم إلى بابها استأذن عليها فلم تأذن له، واحتجت وأرسلت إلى زوجها تقول له: بَعُدَ عهدُك بالفقه إلى هذا الحد؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إليّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين غيره من الرجال في جواز النظر؟ فعاد الخادم، وذكر ذلك لزوجها بوجود نور الدين، فأرسل إليها امرأة تبلغها عنه رجاءه البقاء بحلب فأجابته إلى ذلك، وأقامت بحلب إلى أن توفيت رحمها الله تعالى قبل وفاة زوجها بست سنين في عام 581، ودفنت في مسجد إبراهيم الخليل، ولم يقطع الكاساني زيارة قبرها كل ليلة جمعة إلى أن مات رحمه الله.

 

وقد بدأت هذه العالمة الجليلة والسيدة الفاضلة سنة حسنة بأن جعلت للفقهاء إفطاراً في رمضان بالمدرسة الحلاوية، فقد ذكر داود بن علي أحد فقهاء الحلاوية بحلب إنها هي التي سنَّت الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية، وأنه كان في يديها سواران فأخرجتهما وباعتهما وعملت بالثمن الفطور كل ليلة واستمر الأمر على ذلك.

 

أكرم نور الدين الشهيد الإمام الكاساني وولاه التدريس بالمدرسة الحلاوية المعروفة بمسجد السراجين، وفوض إليه نظرها، وزاوية الحديث الشرقية من الجامع الأموي في حلب، فحدث بالزاوية المذكورة عند خزانة الكتب، ودرس بالمدرسة الحلاوية إلى أن توفي، وولي التدريس بعده الإمام افتخار الدين عبد المطّلب بن الفضل بن عبد المطلّب بن عبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس  المتوفى سنة 616.

 

وكان الكاساني أول من درّس بالمدرسة الجاوُليَّة ولم يزل بها مدرّساً إلى أن تُوفيّ، فوليها بعده الشيخ جمال ‏الدين خليفة بن سليمان بن خليفة القرشيّ.

 

كان الكاساني حريصاً على تعليم العلم ونفع الطلبة، وكان فقيهاً عالماً صحيح الاعتقاد، كثير الذم للمعتزلة وأهل البدع يصرح بشتمهم ولعنهم في دروسه، وصنف كتباً في الفقه والأصول، منها كتابه في الفقه الحنفي الذي وسمه ببدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، وسنذكر بعد قليل كيف رتبه أحسن ترتيب وأوضح مشكلاته بذكر الدلائل في جميع المسائل، ومنها كتابه الذي وسمه بالسلطان المبين في أصول الدين، وكان مواظباً على ذكر الدرس ونشر العلم، وكان الكاساني مريضاً بالتهاب المفاصل، النقرس، وكثيراً ما يعرض له الألم في رجليه والمفاصل، فكان يُحمل في محفة من منزله بالمدرسة، ويخرج إلى الفقهاء بالمدرسة ويقدم درسه ولا تمنعه آلامه من أداء واجبه التعليمي والتربوي، فما يذكر عنه أنه أخل بدرسه.

 

وكعادة علماء ذلك الزمان كان الكاساني يقرض الشعر، وقد وجدت هذه الأبيات له على ظهر نسخة من كتاب البدائع مؤرخة بمنتصف شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة:

 

سبقنا العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همّة

 

ولاح لحكمتي نور الهدى في ... ليال بالضلالة مدلهمّة

 

يريد الحاسدون ليطفئوه ... ويأبى الله إلا أن يتمَّه

 

بقي الكاساني في حلب سنوات مديدة، فقد قدمها وهو قوي البنية متماسك الجسم، وتوفي فيها وقد أقعده المرض، يقول عنه النقيب السديد داود بن علي البصراوي: كان الشيخ علاء الدين الكاساني لا يركب إلا الحصان ويقول: لا يركب الفحل إلا الفحل! وكان له رمح لا يفارقه وكان شجاعاً، وكان لا يأكل عمره إلا اللحم المطبوخ بالماء والحمص رحمه الله. وكان هذا مستغرباً من الشيخ العلاّمة لأن المتعارف عليه آنذاك أن يركب الفقهاء البغال أو الحمير تواضعاً، وكانت الخيول من مركوب الأمراء والجنود.

 

تمتع الكاساني بحب نور الدين الشهيد وتقديره، فقد ذكر الراوي أن الإمام الكاساني كان أُقعد من رجليه لنقرس عرض له فيها، فنزل إليه نور الدين ودخل إليه يعوده، فتحرك علاء الدين الكاساني له فظن نور الدين أنه يحاول القيام له، فقال له بالفارسية: بنشي بنشي، أي اقعد لا تقم، فقال له: يا مولانا بنشي من الله، أي أن هذه الحركة بسبب المرض والحاجة للتقلب.

 

ولم تزل حرمة الكاساني تعظم وتزيد، ويرتفع أمره عند نور الدين، وبعد وفاة نور الدين سنة 569 تولى ابنه الملك الصالح إسماعيل ولاية حلب، واستمر في احترام وتقدير الكاساني، ويذكر المقدسي في كتاب الروضتين أنه لما اشتد مرض الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي، فاستفتى علاء الدين الكاساني وكان عتده  بمنزلة كبيرة، يعتقد فيه اعتقاداً حسناً ويكرمه، فأفتاه بجواز شربها، فسأله الملك الناصر: إن كان الله قد قرب أجلي أيؤخره شرب الخمر؟ فقال: لا والله! فقال: والله لا لقيت الله تعالى وقد استعملت ما حرمه علي! ومات رحمه الله سنة 577 عن تسع عشرة سنة ولم يشربها.

 

وعندما تولى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين إمارة حلب سنة 579، استمر احترام وتقدير الإمام الكاساني في أيامه إلى أن مات، ويروي النقيب داود البصراوي أن الكاساني كان يصعد إلى قلعة حلب راكباً وينزل حيث ينزل الملك الظاهر، فاتفق أن صعد يوماً والفقهاء بأجمعهم بين يديه، فلما وصل إلى باب القلعة قام البواب وقال: يدخل الشيخ، ويرجع الفقهاء، فلوى الشيخ عنان حصانه وقال: يرجع الشيخ أيضاً! فبلغ الملك الظاهر، فأرسل في الحال من أدخل الشيخ والفقهاء معه إلى أن نزل الشيخ حيث ينزل، ودخل الشيخ والفقهاء معه إلى مجلسه، وبقي الوفاء والتقدير للكاساني حتى بعد وفاته رحمه الله، حيث تولى الملك الظاهر تربية ولده الوحيد وأسكنه القلعة، واجتهد في إشغاله بالفقه فلم يفلح في السير على خطى والديه.

 

كان الإمام الكاساني من العلماء الذين جمعوا بين الحديث والفقه والتفسير، ولا عجب في ذلك في ذلك فبلاد وراء النهر كانت مجمع المحدثين وعلماء الحديث، وكان في تدريسه يبتغي وجه الله عز وجل وهداية الناس إلى الخير وما فيه صلاح دينهم ودنياهم، فقد ذكر الشريف أبو عبد الله محمد بن عمر البخاري الأصل الحلبي المولد والمربى، والشيخ نظام الدين محمد بن عتيق الديباجي الحنفي: قال الشيخ الإمام علاء الدين أبو بكر الكاساني في أول درسه عن العقيدة الصحيحة: لا شيء أرضى عند الله تعالى من هداية العباد إلى سبيل الرشاد، والإبانة لهم عن المرضي من الاعتقاد، وهو اعتقاد السنة والجماعة إذ به ينال خير الدارين وسعادة المحلين، فمن تمسك به فقد اتبع الهدى، ومن حاد عنه فقد ضل وغوى.

 

وكان الكاساني حاضر الحجة قوياً في المناظرة، يذكر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر أن علاء الدين الكاساني قدم إلى دمشق فحضر إليه الفقهاء وسألوه عن فتاويه التي ظنوا أنها بخلاف المذهب الحنفي الذي ينتمي إليه، وهو أمر كان مستهجناً في ذلك العصر، فنفى الكاساني ذلك وقال: لم أقل مسألة خالفت فيها المذهب الحنفي، فاذكروا ما تدعون أني خالفت فيه المذهب، قال: فأوردوا مسائل كثيرة أفتى بها الكاساني، فجعل يقول: ذهب إليها من أصحابنا فلان، فلم يزل كذلك حتى أنهم لم يجدوا مسألة إلا وقد ذهب إليها واحد من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، فانفض المجلس.

 

ومن أهم مؤلفات الإمام الكاساني كتابه العظيم في الفقه: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، وإذا صحت الرواية في أن شيخه زوجه ابنته سروراً بتأليفه هذا السفر الكبير، فإنها تدلنا أنه قد ألفه وهو شاب لم يتزوج، وهذا لعمري عجب عجاب يدركه كل من قرأ الكتاب.

 

وقد طبع الكتاب لأول مرة في القاهرة قبل 110 أعوام في عام 1327، في 7 مجلدات، وبعناية اثنين من رجالات حلب من آل الجابري كانت مخطوطة الكتاب لدى أحدهما وهما؛ سعادة محمد أسعد باشا جابري زادة صاحب المكتبة القيمة، وفضيلة الحاج مراد أفندي جابري زادة ابن الحاج عبد القادر بن مراد الجابري الحلبي المشهور بحاجي أفندي، وقد قال عنه الأستاذ الشيخ محمد  راغب الطباخ: كان من فضلاء هذه الأسرة، وكان يحب اقتناء الكتب، فجمع لنفسه خزانة نفيسة فيها المطبوع، ووقف مكتبته عند ولده الحاج مراد أفندي إلى سنة 1343، فسَعيْتُ في نقلها إلى المدرسة الشرفية في منتصف جمادى الأول سنة 1345 وهي ستمئة مجلد، ومن جملة نفائسها كتاب بدائع الصنائع في الفقه الحنفي، الذي سعى ولده الحاج مراد ومحمد أسعد باشا الجابري في طبعه في مصر في سبع مجلدات، بتحسين بعض أهل العلم والفضل. ولعل من حسّن لهم ذلك الشيخ محمد راغب الطباخ الذي أغفل الإشارة لنفسه تواضعاً، رحمة الله على الجميع.

 

والكتاب في أصله شرح لكتاب تحفة الفقهاء الذي ألفه أستاذه علاء الدين السمرقندي المتوفى سنة 539، قال الأستاذ الطباخ: لكن المتصفح للكتاب لا يرى فيه المتن البتة، وذلك لأنه شَرَح على طريقة المتقدمين، أي أنه أتى إلى كل بحث من أبحاث التحفة، فوسع دائرته وجعله فصلا، ومزج المتن مع الشرح مزجا لا يمكن التفرقة بينهما، إلا لمن يرى التحفة على حدتها، فالكتاب عبارة عن فصول متتابعة.

 

قال الكاساني في مقدمة كتابه: وقد كثر تصانيف مشايخنا في هذا الفن قديما، وحديثا، وكلهم أفادوا، وأجادوا غير أنهم لم يصرفوا العناية إلى الترتيب في ذلك سوى أستاذي وارث السنة، ومورثها الشيخ الإمام الزاهد علاء الدين رئيس أهل السنة محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي، رحمه الله تعالى، فاقتديتُ به فاهتديت، إذ الغرض الأصلي والمقصود الكلي من التصنيف في كل فن من فنون العلم هو تيسير سبيل الوصول إلى المطلوب على الطالبين، وتقريبه إلى أفهام المقتبسين، ولا يلتئم هذا المراد إلا بترتيب تقتضيه الصناعة، وتوجبه الحكمة، وهو التصفح عن أقسام المسائل، وفصولها، وتخريجها على قواعدها، وأصولها ليكون أسرع فهما، وأسهل ضبطا، وأيسر حفظا، فتكثر الفائدة، وتتوفر العائدة فصرفتُ العناية إلى ذلك، وجمعت في كتابي هذا جملا من الفقه مرتبة بالترتيب الصناعي، والتأليف الحكمي، الذي ترتضيه أرباب الصنعة، وتخضع له أهل الحكمة، مع إيراد الدلائل الجلية، والنكت القوية، بعبارات محكمة المباني، مؤيدة المعاني، وسميته: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، إذ هي صنعة بديعة، وترتيب عجيب، وترصيف غريب، لتكون التسمية موافقة للمسمى، والصورة مطابقة للمعنى، فأستوفق الله تعالى لإتمام هذا الكتاب الذي هو غاية المراد، والزاد للمرتاد، ومنتهى الطلب، وعينه تشفي الجرب، والمأمول من فضله وكرمه أن يجعله وارثا في الغابرين، ولسان صدق في الآخرين، وذكرا في الدنيا، وذخرا في العقبى، وهو خير مأمول، وأكرم مسئول.

 

ويتميز كتاب البدائع باللغة السهلة الفهم، وإيراد الشواهد الحديثية لما يورده من الأحكام الفقهية، وهو أعجوبة في استيعابه لكافة جوانب ما يورده من مسائل، وإن كان قد كتبه تصنيفاً فهو عجب، وإن كان قد أملاه من ذاكرته فهو أعجب العجب، وقد حاز الكتاب إعجاب الفقهاء من قبل ومن بعد، ذكر ابن العديم في تاريخه أن الفقيه شمس الدين الخسروشاهي بالقاهرة قال له: لأصحابكم الأحناف في الفقه كتاب البدائع للكاساني، وقفتُ عليه، ما صنف أحد من المصنفين من الحنفية ولا من الشافعية مثله! وجعل يعظمه تعظيماً، ثم قال: ورأيته عند الملك الناصر داود صاحب الكرك أهداه إليه بعض الفقهاء الحنفية، فعجبت ممن يكون عنده مثل ذلك الكتاب، ويسمح بإخراجه من ملكه.

 

انتفع بعلم الإمام الكاساني أثناء وجوده في حلب علماء كثيرون من أبناء حلب ومن قاصديها من البلاد الإسلامية ذكرت كتب التاريخ بعضهم.

 

فمنهم تاج الدين أحمد بن محمد بن محمود الغزنوي، نسبة إلى غزنة في أفغانستان، والمعروف بالتاج الحنفي، وكان معيد درس الإمام الكاساني في المدرسة الحلاوية، ثم أصبح أستاذاً وانتفع به جماعة من الفقهاء وتفقهوا به، وصنف في الفقه والأصول كتباً حسنة مفيدة منها: كتاب روضة العلماء في الفقه، ومقدمة مختصرة تعرف بالغزنوية، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أصول الدين أسماه روضة المتكلمين، وكتاب مختصر منه أسماه بالمنتقى من روضة المتكلمين.

 

قال ابن العديم في بغية الطلب: وَقَع إليّ المنتقى بخطه وعليه مكتوب بخطه قال مؤلفه: جزى الله خيراً من تأمل صنعتي، وقابل ما فيها من السهو بالعفو، وأصلح ما أخطأت فيه بفضله وفطنته، وأستغفر الله من سهو. وسمعت والدي يثني عليه الثناء الحسن في العلم والدين.

 

وتوفي الغزنوي بحلب بعد سنة 593، ودفن بمقابر الفقهاء الحنفية عند مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، رحمه الله.

 

ومنهم أبو السرايا جمال الدين خليفة بن سليمان بن خليفة بن محمد القُرشي الحوراني، الحلبي الدار والمولد، ولد بحلب سنة 566، وقرأ الفقه بحلب على الإمام الكاساني، ثم رحل إلى بلاد العجم وتفقه بها، ثم عاد إلى حلب، وصار كاتباً لقاضيها ابن العديم، وتوفي بها في 23 شوال سنة 638، ودفن بجبانة مقام إبراهيم الخليل.

 

ومنهم محمد بن أحمد الموصلي الحلبي الذي ولد سنة 542 بالموصل، ودرس الفقه على مذهب أبي حنيفة بحلب على الإمام الكاساني، ومات بحلب سنة 622.

 

ومنهم محمد بن سعيد الحلبي المعروف بابن الركابي، ولد سنة 561، تفقه بحلب على الكاساني وعلى الإمام علي الهاشمي، وكان فقيهاً أديباً صاهره الشيخ أبو حفص بن قسام واستنابه في التدريس بالمدرسة الجردكية التي أسسها الأمير عز الدين جرديك، ومات بحلب في شوال سنة 617.

 

ومنهم محمد بن يوسف بن الخضر الحلبي ويعرف بقاضي العسكر، ولد بحلب في صفر سنة 560، ونشأ بها وتفقه على والده يوسف وعلى العلامة الكاساني، ثم صار بدوره أستاذاً تفقه عليه الصاحب كمال الدين ابن العديم مؤرخ حلب، ومات في رمضان سنة 614 بحلب، رحمه الله تعالى.

 

ومنهم شمس الدين نجا بن سعد الذي تفقه بحلب على الإمام الكاساني ودرس بمدرسة بُصرى وكتب بخطه نسخة البدائع من خط شيخه بيضها في سبع مجلدات، وهي وقف بالمدرسة الشبيلية.

 

توفي الإمام علاء الدين الكاساني بعد ظهر يوم الأحد عاشر رجب سنة 587، وذكر ضياء الدين محمد بن خميس الوكيل المعروف بابن المغربي أنه حضر الشيخ علاء الدين الكاساني عند موته، فشرع الشيخ في قراءة سورة إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى قوله تعالى: ?يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ?، فخرجت روحه عند فراغه من قوله: وفي الآخرة.

 

ودُفن الكاساني رحمه الله في مقبرة يبدو أنها كانت مخصصة للحنفية، داخل مقام إبراهيم عليه السلام جنوبي حلب في قبة من شماليه إلى جانب زوجه فاطمة بنت علاء الدين السمرقندي، ويقول ابن العديم: وزرت قبريهما في هذه القبة المذكورة غير مرة رحمهما الله تعالى، ويقول الأستاذ الشيخ محمد راغب الطباخ في ترجمته: وقبره في حجرة عن يمين الداخل إلى مقام إبراهيم الخليل ومحرر على بابها:

 

بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمارته مولانا الملك

 

الظاهر غياث الدنيا والدين أبو الفتح غازي

 

ابن الملك الناصر خلد الله ملكه في سنة أربع وتسعين وخمسمائة.

 

وكانت المقبرة وقبر الكاساني فيها معروف يزار إلى قبل الحرب الحالية، ولا ندرى إن طالت يد الدمار مقابر الأموات كما طالت بيوت الأحياء.

 

رحم الله الكاساني وزوجه، ورحم علماء المسلمين الأخيار، وكشف البلاء عن حلب وعلمائها وأهلها، وأعاد العلم والعلماء إلى ربوعها في أمن وعز وسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين