حديث عن الإسراء  والمعراج (1)

 

 

في ختام شهر رجب الفرد، من كل عام هجري، تمر بالمسلمين: ذكرى عظيمة  لحدث ضخم، وأمر معجز وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في منتصف عمر الرسالة، قبل الهجرة بعام تقريبا، وهي ذكرى  محببة إلى نفوس المؤمنين ؛ لما فيها من عجائب صنع الله عزوجل،  وعظيم قدرته، وتعد من: آيات الله الكبرى،  ولأنها كانت منحة ربانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم،  تحمل عطاء روحيا عظيما، وتثبيتا لفؤاده ،وطمأنة لقلبه، ومواساة، وتكريما؛ لمسح أحزان الأمس، ومتاعب الماضي وآلامه . إنها :رحلة الإسراء والمعراج. 

والإسراء لغة يعني: السير ليلا. لكن معناه هنا :الإنتقال برسول الله صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام بمكة المكرمة ،والذي جعله الله عزوجل حرما آمنا ،وأمر بتطهيره للطائفين ،والعاكفين والركع السجود، إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وكان مهبط الرسالات السالفة، وقبلة الأنبياء السابقين. 

والمعراج لغة يعني :الصعود .

وفي الحدث الذي نحن بصدد الحديث  عنه، معناه : الصعود بالنبي الأعظم، والرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس ببلاد الشام" في فلسطين العزيزة" إلى سدرة المنتهى، فوق السموات العلا. وفي  أمر  الاسراء ؛نزل قول الله عز وجل( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ).

وأشارت الآيات الأولى ،من سورة النجم، إلى أمر المعراج في قول الله عز وجل( علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ماأوحى، ماكذب الفؤاد مارأي، أفتمارونه على ما  يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة مايغشى، مازاغ البصر وماطغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى).

فمن خلال الآيات الكريمة، في السورتين الكريمتين "الإسراء والنجم" يبين الله عزوجل: قدرته التي لا حدود لها ،وآياته الكبرى ،التي اختص بها عبده، وحبيبه ومصطفاه" محمدا صلى الله عليه وسلم" والغاية التي تغياها من الإسراء ،والعروج به، وصفته عزوجل من السمع والبصر ،والعلم والحكمة. 

إنها :رحلة تمت ليلا ،في ساعة من ليل؛ لكمال الشرف، ومزيد الإحتفاء "بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم" ومعلوم أن الليل: وقت الخلوة والصفا، ووقت الإختصاص؛ لأهل المحبة والوداد. 

إنها رحلة عجيبة، أتى الله سبحانه وتعالى بها، ولم يكن في مكنة "النبي صلى الله عليه وسلم"، وقدرته أن يأتي بها وحده، وإنما تمت بقدرة الله الذي لايعجزه شئ في الأرض، ولافي السماء. 

أراد الله عزوجل من خلالها؛ أن يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم، على شى من أسراره ،وآيات من آياته. 

ومن المهم أن يعلم الناس: أن هذه الرحلة العظيمة، سبقتها أحداث؛ استوجبتها. ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قام يدعو للإسلام ،بعدما أمره الله عزوجل، بالجهر بالدعوة، وكان مثال التفاني والإخلاص في دعوته، لم يترك أسلوبا، ولا سبيلا، ولاطريقا يدعو بها قومه إلى الهدى، إلا سلكها، واتبعها دعا إلى سبيل ربه، بالحكمة والموعظةالحسنة ،

ذهب إلى القبائل قبيلة قبيلة، وكان يلتقي الناس في أماكن إجتماعهم وأسواقهم، ومواسم حجهم؛ ليسمعهم كلمة الله عزوجل .تحمل صنوفا من الألم، و ألوانا 

من الإيذاء، ولم يدركه اليأس على طول هذه السنين، التي قضاها يدعو إلى الله عز وجل.

كان يصبح القبيلة، فترده ردا قبيحا، فلا يمنعه ذلك أن يمسيها بدعوته، ويعيد عليها مابدأه ؛لعل القلوب تتفتح في ساعة من ساعات الرضا. كان يعرف أن الهدى هدى الله ،وكان يؤمن أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يفتح القلوب لدعوته، قلوب من يشاء، وقتما يريد سبحانه. 

ماكان عليه إلا ما كلفه ربه.كما قال له سبحانه ( إن عليك إلا البلاغ )(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). 

كان صلى الله عليه وسلم: لايريد أن يقف عند حدود مايعذر به، بل كان دائما يشق على نفسه ،ويفعل أكثر مما يطلب منه، حتى أشفق الله عليه، وقال له (لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) يعني: أتريد أن تقتل نفسك من الجهد المضني، والسعي الدائب، والعمل الشاق من أجل هدايتهم ،فاعلم أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.

ثم أظلمت الدنيا، وسدت المنافذ ،ووضعت العراقيل في طريق  دعوته  ."إضطهاد من قومه، وأذى لأصحابه" حتى هاجروا إلى الحبشة المرة بعد المرة، ويأتي القدر الحكيم للإرادة العليا يشارك في ذلك؛ فيموت عمه أبو طالب، الذي كان يحميه من قومه، ويدافع عنه خارج بيته ،وماتت زوجه خديجة التي كانت تؤنسه في ذلك البيت، وتواسيه بمالها، وتغطيه بحبها وحنانها. 

اجتمع عليه البلاء ،ولكن ذلك لم  يفت في عضده، ولم يقعده عن هدفه، وإنما توجه إلى الطائف؛ عساه أن يجد متنفسا لدعوته خارج مكة مالم يجده في داخلها .

ولم يستجب له أهل الطائف، ووجدهم أشد جهالة من أهل مكة ،لم يرعوا فيه إلا ولاذمة، ولم يراعوا له نسبا ولاقرابة.

وإنما سلطوا عليه سفائهم وصبيانهم ،ونساءهم يؤذونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى أدموا جسده الشريف فرجع كسير النفس ،دامع العين، جريح الجسد، وفي لحظة من تلك  اللحظات، التي يرى الإنسان فيها؛ أنه لا ملجأ، ولامفر من الله إلا إليه. توجه صلى الله عليه وسلم إلى ربه عزوجل :بدعاء خاشع ضارع، مستغيثا فيه بربه، وشاكيا إليه ما يلقى.   أفرغ في دعائه  قلبه، ونفسه لخالقه سبحانه ،والذي يملك السموات والأرض ،والذي يحول بين المرء وقلبه، ولايعجزه شئ في الأرض، ولا في السماء. 

فقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ،وهواني على الناس. ياأرحم الراحمين: أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني!! أم إلى عدو ملكته أمري!! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي .أعوذ بنور وجهك؛ الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك ،أو يحل علي  سخطك .لك العتبى حتى ترضى، ولاحول، ولاقوة إلا بك ) ويرجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة كسيرا حزينا. ويعلم أهلها؛ بأنه رد من الطائف ردا غير حميد. فشمتوا فيه، وترصدوا لأذيته، والنيل منه. ففكر أن يحتاط لنفسه، "صلى الله عليه وسلم" فأرسل إلى عدد من عقلاء مكة ؛يستجير بهم لدخول مكة ،وحمايته. فاعتذروا الواحد تلو الآخر، إلا "المطعم بن عدي" الذي قبل إجارة "النبي صلى الله عليه وسلم" رغم أنه ليس على دينه، وهذا من تدبير الله عزوجل، ونعمته، وحكمته. أن رسوله الكريم، ونبيه العظيم :يدخل مكة في حماية، وجوار مشرك لم يسلم. 

خرج المطعم، وبنوه العشرة متسلحين، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يدخل مكة فجاء ودخل المسجد الحرام، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، ثم انصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي، وأولاده محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، بأسلحتهم ؛حماية له. وكان المطعم قد أعلن في قريش: أنه أجار "محمدا" فقبلوا ذلك. 

إنها :حكمة الله الحكيم، وتدبير الله ، العليم الخبير.

ولذلك ماأسرع، ما جاءت حادثة الإسراء والمعراج، بعد ذلك فكانت: بمثابة  يد الله الرحيمة؛ التي تمسح على هذا القلب الرقيق الحزين؛ لتريه "صلى الله عليه وسلم" من آيات ربه الكبرى، ولتطمأنه ؛أنه حبيب إلى ربه، وأنه قريب من مولاه عزوجل، وأنه ماودعه، وماقلاه .

كانت حادثة الإسراء: تثبيتا من الله تعالى لنبيه ،وإعلامه بأن هذه الأرض :التي تنكر لك أهلها سوف تعرف قدرك،  وأن هؤلاء الجاحدين الذين استهانوا بك ،ولم يعلموا مكانتك؛ سينصرك الله عليهم ويمكنك منهم ،ويقروا بفضلك، ويخضعوا لحكمك.

إن تنكر لك أهل الأرض: فهذه السماء ستفتح لك ولن يستقبلك فيها بشر عاديون،  و إنما يستقبلك صفوة الله من خلقه ،وخيرته من عباده  "أنبياء الله ورسله" من أول نبي إلى آخر نبي. يعلن الولاء ويسلمه الراية ويعطيه القيادة، وجميعهم يصلي خلفه مأموما. فالله عز وجل جمع الرسالات في رسالته، والنبوات في نبوته ،وأراه من آياته الكبرى، ورأى شريعته عالية فوق الشرائع ،وأمته ظاهرة على الأمم، ودينه ينساح في الأرض شرقا وغربا؛ يعمرها بنوره، ويغمرها بهداياته. 

كأن الله يقول له :أما يدري هؤلاء الذين جحدوا رسالتك،  وتنكروا لك، أنك نبي في الأرض وفي السماء، وأن مكانتك عند الله عالية، ومنزلتك عنده غالية، ولذلك رجع صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة العظيمة: مطمئن القلب، منشرح الصدر، فرحا بفضل لله ورحمته، يعلم أنه من الله بمكان، فدينه سيظهر، وكلمته ستعلو، والحق الذي معه سيزهق الباطل الذي مع غيره. إنها هدية عظيمة. وناهيك برحلة يرى فيها من آيات الله الكبرى ،ويشاهد عواقب المؤمنين بدعوته، ونهاية المكذبين لرسالته، ويرى هيمنة الله على العالمين، وسلطان الله في خلقه ،وعظمته وقدرته ؛التي لا يعجزها شئ في الأرض، ولافي السماء. ثم يرى مكانته ومنزلته، وشرفه وسموه .إنها رحلة كما ذكرنا آنفا: كان لابد منها لتمسح عن هذا القلب الكبير؛ هذا العناء الشديد، وذلك العنت، من قومه المشركين. ثم بعد ذلك لتهيئه للمرحلة المقبلة، وهي "شديدة مجهدة ".فإن كانت المرحلة الأولى :في التبليغ والدعوة ،والجدال فإن الثانية: في الجهاد والقتال، وإقامة الدولة، وتحكيم  الشريعة، وإنفاذ الأحكام. 

فإن الأنبياء لاسيما محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا: مهمتهم ثقيلة، ووظيفتهم شاقة؛ إنهم لم يخلقوا ليستريحوا، ولاليتنعموا بطيبات الحياة. إنما مهمتهم: أن يبلغوا رسالة ربهم، و يجمعوا الناس على الإيمان والتوحيد، وينشروا في الأرض: الخير والهدى، والنور والصلاح. فإذا انقضت مهمتهم، فقد أدوا ماعليهم، ورجعوا إلى  ربهم أعزة  مكرمين. 

رحلة الإسراء : رحلة عجيبة. تشكك فيها من تشكك، واستراب فيها من استراب، وجحدها من جحد، وأولها من أول ،وهي في الحقيقة لاتستدعي ذلك كله؛ لأنها أسندت إلى قدرة الله عزوجل، فهل يقف شئ أمام  قدرة الله؟ القائل في كتابه الكريم: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. 

إنها رحلة عجيبة، وخلق الله وأمره: كله عجيب، فالعقول التي ضاقت؛ بأن الله عزوجل ينقل رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه المسافة الشاسعة، ويرفعه فوق السموات العالية، ويعود به قبل أن يبرد فراشه ؛هذه العقول التي تستبعد ذلك الأمر، وتنكره: عقول لم تتفتق عن معرفة الله في خلقه، وقدرته في ملكه. 

إن بذرة الإنسان والحيوان، والنبات، هذه البذرة الدقيقة تحمل كل صفات الإنسان، وكل صفات الحيوان، وكل صفات النبات، أليس ذلك بعجيب؟! مايعرف بالحيوان المنوي، والذي لايرى بالعين المجردة ،كيف يحمل كل صفات الإنسان؟ طوله وعرضه ،مزاجه، وعقله وميوله ،فهذا كله في ذلك الحيوان المنوي. من صنعه؟ ومن سواه؟ إنه: الله الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء. 

هذه النواة البسيطة: فيها كل صفات النخلة ؛جريدها، زعفها، بلحها، ليفها ،طولها، جذورها، كله في هذه النواة البسيطة، من أنبتها؟ إنه الله الخالق العظيم ،والذي لايقف أمام قدرته شئ، والذي له لطائفه، ومننه على خلقه، وأمره بين كاف ونون ،إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون 

وقد أكرم رسوله العظيم ونبيه الكريم ،بهذه الرحلة العجيبة ؛تكريما وتشريفا؛ وتسرية، وتخفيفا عليه صلى الله عليه وسلم 

ولنا وقفات أخرى إن شاء الله تعالى. نذكر فيها دروسا مستفادة من رحلة الإسراء 

هذا وبالله التوفيق، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله ،وصحبه أجمعين 

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين