حرب غزة.. بين الشباب الفلسطيني والعربي

منذ نفض الدول العربية يدها من تحرير فلسطين، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، تحملت حركات المقاومة بشتى أطيافها الفكرية والأيديولوجية عبء التحرير، فبات الشباب أكثر انخراطاً في تلك الحركات، وأكثر تفاعلاً مع القضية الفلسطينية، والأكثر تضحية ووعياً بحقيقة وخطورة المشروع الصهيوني، ومنذ ذلك التاريخ كانت دماء الشباب هي الأكثر تدفقاً، وكان الشباب الأكثر معاناة في السجون المختلفة خاصة سجون الاحتلال الصهيوني.

وقبيل «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، كان الاهتمام بالقضية الفلسطينية يتوارى في نفوس الكثير من الشباب العربي، وكانت الظنون تملأ البعض منهم أن الجيش الصهيوني لا يُقهر، وأن إمكانية تحقيق انتصار عليه، أو حتى توجيه ضربات موجعة إليه من المستحيلات، وأن التطبيع مع الكيان الصهيوني هو الخيار الوحيد المطروح أمام الفلسطينيين والعرب، وأنه لا فكاك من الرضوخ والقبول بالوجود والتفوق «الإسرائيلي».

لكن عملية «طوفان الأقصى» كانت لها صداها الشبابي فلسطينياً وعربياً، فقد أحيت الأحداث القضية الفلسطينية من جديد، وأعادت مأساة النكبة العربية 1948م مرة أخرى، لكن الاستجابة الفلسطينية كانت مختلفة تماماً، إذ رفض مئات الآلاف من سكان غزة خطط التهجير الصهيونية، وتمسكوا بوجودهم في أرض فلسطين حتى ولو فُتحت الحدود أمامهم ورحبت بهم دول العالم.

تشير الكثير من استطلاعات الرأي إلى أن حرب غزة لها تأثيرها على الشباب الفلسطيني والعربي على حد سواء، ففي الضفة الغربية، حسمت الغالبية تأييدها لمشروع المقاومة الذي تقوده حركة «حماس»، وفي المقابل انخفض التأييد لمشاريع المهادنة والتطبيع الفلسطيني مع «إسرائيل»، الذي تنتهجه السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، ويلاحظ أن هذا التأييد الذي تحصلت عليه «حماس» يتخطى حواجز الالتزام الحزبي والفصائلي إلى تأييد مشروع المقاومة.

فأكد استطلاع للرأي، في 13 ديسمبر 2023م، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، ارتفاع تأييد «حماس» في الضفة الغربية، فقد أيد 85% ممن شملهم الاستطلاع «حماس» في شنها الهجوم المباغت ضد «إسرائيل»، في 7 أكتوبر 2023م، وأن 10% هم من يؤيدون السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وأن 7% هم الذين يؤيدون محمود عباس.

والحقيقة أن هذا الاستطلاع كاشف لحضور مشروع المقاومة وتجذره داخل المجتمع الفلسطيني بكافة فصائله وقواه، خاصة بين الشباب، ويعتقد الشباب أن التطبيع لم يؤدِ إلى تحسين معيشة الفلسطينيين أو تعميق إحساسهم بالأمن والأمل في حياة أفضل، ولكن أدى إلى زيادة الاستيطان، الذي التهم الأراضي وحصر الفلسطينيين في مناطق ضيقة مجزأة لا تصلح معها حياة ولا تنمية، ناهيك عن إقامة دولة مستقلة، ومن ثم انتشلت «طوفان الأقصى» وحرب غزة شباب فلسطين من التسليم لمنطق التطبيع نحو أفق المقاومة؛ لذا زاد التأييد الشبابي لمشروع المقاومة، وباتوا أكثر انخراطاً في تياره.

ومن يتابع صدى حرب غزة بين الشباب في الضفة الغربية سيلحظ بوضوح أن المقاومة باتت خيار شبابياً، لذلك لا تتوقف الاقتحامات «الإسرائيلية» للمدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية وحصارها واعتقال الشباب؛ بل وقتلهم، فقد زاد عدد الشهداء على 370 فلسطينياً، أما عدد المعتقلين فزاد على 6200 شخص، منذ «طوفان الأقصى»، ولا شك أن تلك الجرائم الصهيونية في الضفة الغربية تخلق حاجزاً منيعاً ضد مشاريع التطبيع، وتخلق ذاكرة لا تُمحى بحقيقة وبشاعة الكيان الصهيوني المحتل، كما يضعف قبضة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في رام الله في إلجام الغضب الشبابي ضد ما يجري من حرب إبادة في غزة.

وعلى المستوى الشبابي العربي، فرغم ما يبدو من حالة سكون في العاصم العربية، فإن «طوفان الأقصى» وحرب غزة أحيت القضية الفلسطينية من جديد في نفوس الكثير من الشباب العربي، وهي صحوة منعت من يسمون بـ«الليكود العربي» أو «المتصهينين العرب» من أن يكون لهم حضور إعلامي مناهض لمشروع المقاومة أو مؤيد لـ«إسرائيل»، بل إن بعض دعاة التطبيع أعرب عن ندمه لتأييده للتطبيع مع «إسرائيل»، مثل د. أسامة الغزالي حرب الذي أعرب عن اعتذاره، وكتب في صحيفة «الأهرام» القاهرية قائلاً: «أعتذر عن حسن ظني بـ«الإسرائيليين»، الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة، أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني.. إني أعتذر».

وفي استطلاع أجراه معهد واشنطن، في الفترة ما بين 14 نوفمبر 2023 و6 يناير 2023م، شارك فيه ألف سعودي، فإن 95% أيدوا ما قامت به «حماس» في 7 أكتوبر 2023م، وأن 91% منهم رأوا أن حرب غزة انتصار للفلسطينيين رغم الدمار والخسائر في الأرواح، ورفض 96% منهم التطبيع مع «إسرائيل»، وطالبوا بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية مع «إسرائيل»، وحسب هذا الاستطلاع، فإن حركة «حماس» تحظى بتأييد غير مسبوق في كل من مصر والأردن ولبنان، ففي لبنان مثلاً هناك 8 من بين كل 10 لبنانيين لديهم وجهة نظر إيجابية عن «حماس»؛ وهذا يعني امتداد التأييد لـ«حماس» ومشروع المقاومة خارج حدود الطائفة.

وقد أدى الشباب الفلسطيني والعربي والمسلم دوراً بارزاً في «أنسنة» الحرب على غزة، وتحويلها لمأساة إنسانية تستوجب التدخل لوقف تلك الإبادة الهمجية التي تنتهجها «إسرائيل» في غزة على امتداد أكثر من مائة يوم، واستطاعت الجهود الشبابية الكبيرة أن تقدم رواية أخرى للحرب على غزة، حظيت بقبول وتأييد عالمي واسع، وتمكنت من توضيح حقيقة القضية الفلسطينية وكسب التأييد لها، وهو ما تجلى في المظاهرات التي تموج بها العواصم الغربية، التي تمكنت من تضييق الخناق على الرواية «الإسرائيلية» والغربية حول الحرب على غزة، فكانت جهود الشباب واضحة على مواقع التواصل الاجتماعي، فقدموا الكثير من المعلومات ومقاطع الفيديو وكشفوا عن المظلومية والحق الفلسطيني؛ فمثلاً ظهر أكثر من 50 مليون منشور على منصة «إكس» خلال أول يومين للحرب على غزة، ورغم زيارة الملياردير إيلون ماسك لـ«إسرائيل»، فإن ملايين المنشورات أدانت «إسرائيل»، لذلك شنت إدارة المنصة حملة إغلاق للكثير من الحسابات المؤثرة المؤيدة للقضية الفلسطينية، بعد تهديدات من المفوضية الأوروبية، وحصدت «هاشتاجات» مؤيدة للقضية الفلسطينية ملايين المشاهدات، فمثلاً هاشتاج «# فلسطين» حصد 40.3 مليار مشاهدة عبر «تيك توك»، وكذلك هاشتاج «ليسوا مجرد أرقام» الذي يحكي قصص الشهداء في غزة، الذي حقق انتشاراً واسعاً.

هذه الجهود التي قام بها الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي استطاعت أن تُحدث تغييراً كبيراً تجاه القضية الفلسطينية في الغالبية العظمة من الدول العربية، وبخاصة بين الشباب، وهذا ما أكدته مجلة «فورين آفيرز» بأن «إسرائيل» بعد حرب غزة أقل شعبية بعدما غيرت الحرب وجهات النظر العربية.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين