حرب غزة يوميات ومشاهدات.. معركة الخبز والطحين

كنت اليوم في طريقي من غرب غزة إلى شرقها، ومررت بمخبز (عجور) قرب ساحة الشوا، وهذه أول مرة يفتح فيها مخبز في مدينة غزة من خمسة أشهر.

 الطابور ممتد من المخبز إلى السدرة المعروفة عندنا بسدرة (الخروبي)، يصطف فيه قرابة ألف على امتداد خمسمائة متر تقريبا كلهم ينتظر دوره للحصول على ربطة خبز فيها خمسون رغيفا (الحجم الصغير)، يقف الواحد في الشمس ساعتين أو ثلاثا أو أربعا ليحصل عليها.

قصة الطحين والخبز من أشد ما عانى منه الناس في هذه الحرب الظالمة.

اشتدت الأزمة بعد شهر من الحرب تقريبا، وبدأت تخف وتنفرج في أواخر شهر رمضان، وقد وصل ثمن كيس الطحين (٢٥ كجم) في شدتها إلى ألف دولار، وهو غلاء لم يشهده الناس في أي حرب من الحروب السابقة، بل ولا في حرب ال ٤٨، ولا ال ٦٧.

وقد أتت على الناس أيام لم يجدوا فيها كسرة خبز، وكانوا يستعيضون عن ذلك بما يتيسر لهم من الأرز وغيره، وطحنوا من شدة الجوع الشعير والذرة والعلف وطعام القطط والطيور وغير ذلك مما لا يخطر بالبال.

وصار الحصول على ٢ أو ٣ كجم مغنما ومكسبا كبيرا للأسرة الغزية.

ولما بدأ الدخول الشحيح للمساعدات أرادها اليهود محرقة ومقتلة للناس، فخرج الناس يسلكون طرق الموت ويتعرضون للأهوال والشدائد للحصول على كيس طحين أو نصف كيس أو أقل من ذلك.

تأتي الشاحنات قريبة من الدبابات ولا يسمح لأي جهة بتوزيعها (ثم في الفترة الأخيرة تغيرت الحال إلى أحسن من ذلك بتأمينها وإيصالها إلى الناس مع تفادي تلك المهالك)، فيهجم عليها الناس ويقتتلون، والدبابات أمامهم، والطائرات فوقهم، فلا ينفض المشهد حتى يحصد الموت عددا منهم؛ بالرصاص أو تحت عجلات الشاحنات، ويرجع الأكثرون بخيبتهم وحسرتهم لعدم كفاية الطحين لهم، فالمتاح لا يكفي واحدا في المائة، ثم من ظفر بشيء فإنه يبدأ رحلة جديدة من المعاناة والسير لمسافة طويلة على قدميه يتعرض له فيها اللصوص والسراق والبلطجية وغيرهم، فإن وصل بيته استقبله أهله بالزغاريد كأنه عاد منتصرا من معركة (وهو كذلك بلا شك)، ولا تظنوا أني أبالغ، لا والله ما بالغت، بل قصرت في بيان الحال والواقع.

والله لطيف بعباده، لما اشتد الكرب ودخل رمضان على الناس وهم في شدة عظيمة فتح الله لهم من رحماته، وبدأ الطحين يرخص شيئا فشيئا حتى بيع في هذا اليوم الذي أكتب فيه هذه الأحرف ب ١٢٥ شيكل (٣٣ دولار تقريبا)، والناس لا تسعهم الفرحة بذلك.

هذا شيء من خبر الخبز، وحديث الطحين، واللقم الممهورة بالدم والموت والقهر والألم.

قاتل الله من قاتل الناس هنا، وحاصر من حاصرهم، وأجاع من أجاعهم، وأذل من أذلهم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين