حرية الكلمة في الإسلام

 

لا أعرف ديناً سماوياً، ولا قانوناً وضعياً ولا مذهباً اجتماعياً، ولا حزباً سياسياً، ولا أعرف شيئاً من ذلك أعطى لأتباعه حريَّةً مُطلقة، ولا أظنُّ أنه سيجيء في المستقبل القريب أو البعيد لون من هذه الألوان إلا أن تنسجم الفوضى ذاتها بشراً سوياً وتدعو أتباعها إلى شريعة من شرائعها، وحينئذ سوف لا تتركهم يَعيشون في العمران، وإنما ستجرجرهم إلى غابة من الغابات يَمْرَحون فيها ويلعبون، ويأكلون كما تأكل الأنعام.

فلا يمكن أبداً أن نترك الحريَّة للناس في أي نظام كان، يفعلون كل ما يشاؤون، ويقولون كل ما تَجيش به خواطرُهم، حتى الوجوديَّة التي دعت الفرد أن يتحرَّر من كل موروث من الاعتقادات والتقاليد والعادات، وأن يتخلَّص من كل المبادئ والأحكام السابقة حتى هذه لم تترك له تلك الحرية مُطلقة الزمام بغير هدف ولا غاية، أي: لا تجعل من تلك الحرية غاية في ذاتها فتنقلب إلى ما يشبه الفوضى.

نعم لا يدعو سارتر، إلى مثل هذه الحرية الشبيهة بالفوضى، وإنما يرتب على حرية الفرد نتيجة خطيرة، وهي المسؤولية وضرورة تحملها، ثم الالتزام بالفعل والقول (1).

والدين الإسلامي وهو أقوم نظام عرفته الإنسانيَّة، وأسمى شريعة جاء بها نبي مُرْسَل ما كان له أن يعطي الناس حرية مُطلقة – ولو أنَّه أعطاهم حريَّة واسعة – لأن مصلحة الجماعة – دائماً – مقدمة عنده على مصلحة الفرد و(بعض الحريَّة في التقييد وبعضها في السلب، وإذا تعارضت منفعة الفرد في إطلاق الحريَّة، ومنفعة الأمَّة في حدِّها أو سلبها وجب نزع (ملكية) هذه الحريَّة، ولو على الوجه الذي تؤخذ به دُور الناس لتطريق الشارع (2).

وقد ضرب الإسلامُ أحسن مثل للحرية التي منحها لأتباعه، بيَّن فيه أنَّ مصلحة الجماعة أولى بالرعاية، وأحق بالاعتبار، عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا " [أخرجه البخاري]. فلابد إذن من الأخذ على اليد حين يكون استعمال الحرية مهلكاً للجميع، وهذه – فيما أعتقد قضية طبيعية لا يختلف فيها اثنان. 

وفي الحديث – على ما قال ثقات الشراح – تشبيه الواقعين في الحدود بمن أصابوا أسفل السفينة، وتشبيه القائمين عليها وهم – الذين يحلون الحلال ويحرمون الحرام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – بمن يركبون أعلى السفينة. 

وفيه – أيضاً – إرشادُ القائمين على حدود الله أن يأخذوا على أيدي المعتدين عليها، وألا يسمحوا للفاحشة أن تشيعَ فيهم، ولا يأذنوا للفساد أن يَستشري بينهم؛ فإنَّهم إن لم يقوموا بما افترضَ الله عليهم من المحافظة على تعاليمه وألقَوا حبلَ العابثين على غواربهم، وتركوهم يخوضون الباطل خوضاً عَمَّهُم الله بعذابه.

هذا من الناحية العامَّة، وأما من خصوص الكلمة، فالإسلام – على مبدئه العام – لا يتركها للناس يقولونها بحرية مطلقة، ما يجوز منها وما لا يجوز، بل حدَّد لها حدوداً، وشرع لها قوانين، ونهى عن أنواع منها، وتوعَّد عليها، وبعض وعيده يشير إلى العقاب الأخروي فقط، كما في نهيه عن اللغو من القول، وعن ترديد الإفك الذي يَرمي به بعض المسلمين بعضاً، وجاء في ذلك قوله تعالى: [إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] {النور:15-16}. 

وبعض وعيده أخروي ودنيوي، ومن ذلك إذاعة قالة السوء عن المسلمين وإشاعة الأكاذيب التي تضرُّ بجماعاتهم، أو تؤثِّر في سياستهم الحربيَّة أو غيرها، وقد جاء في هذا قوله تعالى: [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا] {الأحزاب:60-61}. والمرجفون ناس كانوا يَرجعون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون هُزموا وقُتلوا. ومعنى لنغرينك بهم: لنأمرنَّك بأن تفعلَ بهم الأفاعيل التي تسوؤهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة.

وشبيه بهذا: الإرجاف بعقائد الناس ومُقدَّساتهم؛ فإنَّ ذلك يوقع البلبلة في النفوس، ولا وجه لما يقال إنَّ حرية الرأي نور، ولا يخاف النور إلا الضعفاء؛ لأنَّ ذلك حق يراد به باطل، فليس كل مسلم قادر على أن يُميز الخبيث من الطيب، وكثير من الناس حتى المتعلمين منهم سريعو التأثُّر بما يَسمعون أو يقرأون، ومن واجب أولي الأمر أن يحموا عقائدَ الناس من أن يتلعب بها أهل الزيغ والإفساد الذين يتتبعون المتشابه من الآيات، كما قال الله تعالى: [ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ] {آل عمران:7}. 

قال الشاطبي في الاعتصام:

(ومن اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مُقيِّداتها، وبالعموميات هل لها مخصِّصات أولاً؟ وكذلك العكس، بأن يكون النصُّ مُقيَّداً فيطلق، أو خاصاً فيعم بالرأي من غير دليل سواه، فإنَّ هذا المسلك رمي في عماية واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيَّد، فإذا قُيِّد صار واضحاً).

ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة مُناقضتَها للقرآن، ومُناقضة بعضها بعضاً، وفساد معانيها أو مخالفتها للعقول (3)!.

والكلمة التي تضرُّ الجماعة سواء كانت كلمة تطعنُ في الوطن، أو في الدين، أو في الخلق يجب أن تحبس وأن يُضرب على يد صاحبها، سيما إذا كان رجلاً لا يَعنيه إلا أن يقول، فليس بصاحب هدف سَامٍ يريد أن يصلَ إليه، وليس بصاحب مبدأ في الإصلاح، حتى يقال إنَّه إنَّما يريد خير أمَّته. وأي خير في أن ينشر على الناس – مثلا – أنَّ القرآن يحتوي على أساطير! أو أنَّه أنزل بالمعنى والصياغة من عند محمد غير بلبلة الأفكار، والتهجُّم على أقدس ما يعتزُّ به المسلمون.

نفهم أن يُفسح للرأي في الذيوع والنشر إذا كان من وراء نشره ما يُفيد الجماعة فيبصرهم عمايةً يقعون فيها، أو يرشدهم إلى مَسْلكٍ جهلوه، أما أن يكون القصد من الرأي هو مجرد الهدم فلا أرى معنىً لنشره؛ لأنَّ في ذلك مساعدةً لقلبٍ مريضٍ على أن ينفث من دائه في صدور المُعَافَين الأصحَّاء.. 

ومن عجبٍ أنَّه ما أثيرت حريَّة الرأي، أو حرية الكلمة إلا حيث وقع شرٌّ أجمع العقلاء أصحاب الدين الصحيح على أنَّه شر! 

وما رأينا قوماً دافعوا عن حريَّة الرأي المطلقة إلا وفي تاريخهم ما يُؤخذ عليهم من وجهة النظر الإسلامية! 

ولماذا – فقط – لا يدور الجدل حول هذه المسألة إلا حين يكون طعنٌ يراه رجال الدين العارفون به مَطْعناً في دينهم؟ إنَّ الذين يُناصرون الخارجين عن الدين يحجمون أن يقولوا كلمةً واحدة حين يتعلق أمر بغير الإسلام، وأنا – في الحقيقة – لا أريد أن أحكم هنا على أنَّ هذا الرأي أو ذاك خروج عن الدين؛ لأنَّ هذا ليس غرضي، وإنما الذي أريد أن أقوله إذا كان في الرأي ما يَراه العلماء يضرُّ بالدين أو يراه الساسة مُضِراً بالوطن، يجب أن يحال بينه وبين الذيوع، ولا يعتبر هذا حَجْراً على الحريَّة؛ لأنَّ الحرية المطلقة كما قلت آنفاً – لا تكون إلا في الغابة أو كما يقول الرافعي – رحمه الله تعالى -: (ما هي قيمة حرية التفكير وأنت لا تجدها على أعظم شأنها وأكثر أسبابها وأوسع أشواطها إلا في المعتوهين والموسوسين وألفافهم!).

وفي الإسلام نصوصٌ كثيرة تدل على أنَّه ينبغي أن يُحال بين الكلمة الصلعاء وبين الذيوع، بل تدلُّ على وجوب مُعاقبة صاحبها، ذكر صاحب إحدى المجلات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذُكر له رجل يقال له صبيغ، فلما ظفر به جَلَده حتى سقطتْ عِمامتُه، قال السيد رشيد رضا مُعلِّقاً على هذه القصة: 

(وما ذكره المصنِّف هنا مَرويٌّ بالمعنى، وجملة الأمر أنَّه – أي صبيغ – كان أول من وقع منه الشك وتشكيك الناس في مُتشابه القرآن ابتغاءَ تأويله، وكان قد كثر الداخلون في الإسلام من الشعوب المختلفة فخشي عُمر الفتنة على الجاهلين فأدَّبه وأبعده إلى البصرة، ونهى الناس عن مجالسته ومكالمته)(4).

وروى صاحب هذه المجلة – أيضاً – قصةَ غيلان القدري مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وأنَّ عمر أرسل إليه، فلما جاءه ناظره وأرشده ثم قال له ما تقول، فقال غيلان: قد كنتُ أعمى فبصَّرتني، وأصمَّ فأسمعتني، وضالاً فهديتني، ثم أمسك عن الكلام في القَدَر، فلما مات عمر تكلَّم في القدر، فبعث إليه هشام بن عبد الملك فقطع يدَه، ثم تكلَّم في القدر فصلبه) (5).

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أعمى كانت له أم ولد، تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة أخذ المِعْول فجعله في بطنها، واتَّكأ عليه فقتلها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اشهدوا فإنَّ دمَها هَدَرٌ. قال صاحب (بلوغ المرام) في هذا الحديث: ورواته ثقات.

أما قتلُ المرتدِّ فقد أجمع عليه علماء المسلمين. قال الصنعاني صاحب سبل السلام بعد أن روى حديثاً عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: الحديث دليلٌ على أنَّه يجب قتل المرتد، وهو إجماع.

وذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)

قال صاحب بلوغ المرام في الحديث: مُتفق عليه، أي: رواه البخاري ومسلم. 

وفسَّر صاحب سبل السلام التارك لدينه: بأنَّه كل مُرتدٍّ عن الإسلام بأي ردة كانت، فيُقتل إن لم يرجع إلى الإسلام. وفَسَّر المفارق للجماعة: بأنَّه كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا في الأرض.

ومن الأحاديث في هذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدَّل دِينَه فاقتلوه). وقد رواه البخاري وأصحاب السنن.

وممن حكى الإجماع على قتل المرتد ابن عبد البر في التمهيد في الكلام على حديث: (من بَدَّل دينه فاقتلوه) قال: وفقه الحديث أنَّ من ارتدَّ عن دينه حلَّ دمُه، وضُربت عُنقه والأمَّة مجمعة على ذلك.

وصاحب المغني من فقهاء الحنابلة قال: وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد. وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ومعاذ وأبي موسى وخالد وغيرهم، فلم يُنكَر ذلك فكان إجماعاً.

وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة: (فِرَاقُ الرجلِ بالردَّة عن دينه سببٌ لإباحة دمه بالإجماع).

وقد اختلفت الفقهاء في المرتدَّة، فقال الأحناف: لا تُقتل، وقال غيرهم تقتل. 

وجاء في نيل الأوطار حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: (أيما رجل ارتدَّ عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدَّت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها) قال الحافظ: وسنده حسن. وهو نص في موضوع النزاع فيجب المصير إليه (6).

وقد قَتلَ أبو بكر الصديق في خلافته امرأةً ارتدَّت والصحابة مُتوافرون فلم ينكر عليه أحد ذلك.

ومن عجب أني قرأت لأحد الكاتبين كلمة في صحيفة يومية جاء فيها بالحرف الواحد: (فإن ارتدَّت الزوجة هي الأخرى عن الإسلام فالإجماع بين علماء الإسلام على تركها حُرَّة مختارة، وعدم التعرض لها بأي سوء فضلاً عن قتلها). 

والكاتب قد نقل في كلمته عن كتاب (نيل الأوطار) فبدهي أن يكون اطَّلع على هذا الخلاف فحكايته الإجماع على عدم قتل المرتدَّة لا يحمل إلا على الجرأة البالغة، والخيانة العلميَّة، فكيف نأمن أمثال هذا على رأي يُذيعه أو كلمة يقولها وهو يكذب في النقل في موضوع يعلم أنَّ الحديث فيه لن يمرَّ دون دَرْس وتمحيص.

وقد تمسَّك هذا الكاتب في عدم قتل المرتد – كما تمسك كاتب آخر قبله – برأي نُسِبَ إلى إبراهيم النخعي، وهذا لم يقل بعدم قتل المرتدِّ صراحة، وإنما حكى رأيه عند استتابة المرتدِّ، وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهو قول الجمهور. وقيل: يجب قتله في الحال، وإليه ذهب الحسن وطاووس. قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا.

واختلف القائلون بالاستتابة، هل يكتفى بالمرَّة أو لابدَّ من ثلاث، وهل الثلاث في مجلس، أو في يوم، أو في ثلاثة أيام؟ ونَقَلَ ابن بطَّال عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه يُستتاب شهراً، وعن النخعي أنَّه يُستتاب أبداً (7). 

فالذي حكى عن النخعي: هو أنَّ المرتدَّ يستتاب أبداً قاله عالم جليل في مقال نشرته إحدى المجلات: (ففهم من ظاهر كلامه أنهي رأى أنَّ الرجل المرتدَّ لا يقتل، وقد اغترَّ بهذا الظاهر صاحب المغني، فقال بعد أن حكى الإجماع كما سبق: وقد قال النخعي يُستتاب أبداً، وهذا يُفْضي إلى أنَّه لا يقتل أبداً وهو مخالف للسنة والإجماع) اهـ. 

وكذلك اغترَّ به ابن حزم فقال في المُحَلَّى: (وقالت طائفة يُستتاب أبداً ولا يُقتل، وردَّ عليه بقوله: ولو صحَّ هذا لبطل الجهاد جملة؛ لأنَّ الدعاء كان يلزم أبداً مكرراً بلا نهاية) وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً، وليس دعاء المرتد – وهو أحد الكفار – بأوجب من دعاء غيره من الكفار الحربيين فسقط هذا القول اهـ.

والتحقيق أنَّ هذا الظاهر من كلام النخعي غير مراد؛ لأنَّه لا معنى للاستتابة الدائمة إذا لم يترتَّب على عدم الإجابة شيء فيتعيَّن حملُه على أنه يُستتاب كلما رجع إلى الردَّة. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وعن النخعي يستتاب أبداً، كذا نُقِلَ عنه. والتحقيق أنَّه فيمن تكرَّرت منه الردَّة) اهـ.

وقد روى البيهقي في السنن الكبرى بسنده هذا المعنى عن النخعي، أي أنه قال: المرتدُّ يستتاب كلما رجع. والدليل الصحيح الواضح على مُراد النخعي ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم فقال: 

وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم أي النخعي: تُقتل المرتدَّة اهـ (8).

ولا شك أنَّ كثيرين من المثقفين قد دُهشوا من جُرأة هذا الكاتب ومن جهله معاً، فقد ذكر (أنَّ الفتوى بقتل المرتد تسرَّبت إلى فقهاء المسلمين عن طريق تقاليد الدولة البيزنطية المسيحيَّة التي تأثَّر بها المسلمون وفقهاؤهم في العصر العباسي، وقد كانت هذه التقاليد ومازالت تقضي بقتل المسيحي إذا هو غيَّر دينه كما حقَّق ذلك العلامة (آدم متز). 

الله ..! الله ..! فقهاء المسلمين قلَّدوا المسيحيَّة في فتاواها، فلنحرق إذن كتب الفقه كلها؛ لأنَّ الذين ألَّفوها كانوا غير أمناء وكانوا مُغفَّلين. ألم يقل ذلك (آدم متز) ذلك المستشرق العلامة، ومن ذا بعد آدم متز؟!.

وذكر الكاتب أنَّ أبا بكر رضي الله عنه لم يُقاتل المرتدين إلا بعد أن (هجموا بالسلاح على المدينة المنورة) وأنا – والله – أظن أنَّ المحققين من علماء التاريخ الإسلامي يجهلون هذه الحقيقة: هجوم المرتدين على المدينة!، وأنَّ أبا بكر رضي الله عنه قاتلهم لذلك، كأنَّه لم يقل: والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه!.

والقرآن لم يذكر قتل المرتد، ولذلك فينبغي ألا يقتل، وهذه الفتوى من الكاتب على حدِّ فتوى الشاعر الأندلسي الذي أُخذ إلى القاضي والخمر يفوح من فمه فقال: 

قرأتُ كتابَ الله تسعين مرَّةً = فلم أرَ فيه للشراب حدوداً

فعلى هذه الطريقة المخمورة نأخذ ديننا، فما دام القرآن لم يذكر عددَ الصلوات فلا نظام للصلاة، وما دام القرآن لم يذكر رجمَ الزاني المحصن، ولا تغريب الزاني غير المحصن، فلا رجم ولا تغريب، ولا معنى لما جاء في القرآن: [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] {الحشر:7}، [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44}. 

بل ما لهؤلاء العلماء الأعلام – وهؤلاء العالمات الأعلام أيضاً ونصوص القرآن، ألم تقل واحدة منهنَّ في مجلة أسبوعية: أنَّ المرأة قد أخذت كل حقوقها فلا معنى لأن ينقص ميراثها عن ميراث الرجل. 

ألم يقل عالمٌ في بعض كتبه: أن ضرب المرأة وحشية؟!. 

ألم يقل قدوة هؤلاء جميعاً: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي)(9) ؟!.

وبعد: 

فإنَّ الإسلام وضع قاعدةً ذهبية يا ليت كل مسلم يضعها أمام عينيه وذلك حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر كتاب: (تيارات منحرفة في التفكير الديني المعاصر، ص 146 ).

-------------

(1) الأدب ومذاهبه ص 44-145 للدكتور محمد مندور.

(2)تحت راية القرآن ص 369 للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

(3) ج 1 ص 329-330

(4) الاعتصام ج 1 ص96-64 (هامش)

(5)المصدر السابق ج 1 ص 69.

(6) ج 7 ص 393.

(7) نيل الأوطار ج 7 ص 195.

(8) من بحث كتبه المرحوم الشيخ عيسى مَنُّون عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة سابقاً، وقد رد فيه على كل ما كتبه هذا الكاتب في الصحيفة اليومية، لأنه في الحقيقة ترديد حرفي لبحث كان نشر قبل ذلك.

(9) الشعر الجاهلي ص 26 للدكتور طه حسين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين