حزب العدالة والتنمية التركي ونموذج الإسلام السياسي الإصلاحي - الإسلام والسياسة

حزب العدالة والتنمية التركي ونموذج الإسلام السياسي الإصلاحي
بقلم: هشام منوّر
في الوقت الذي كانت فيه الحركات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية تعاني من مشكلات بنيوية ورؤى متضاربة ومعوقات داخلية وخارجية حول مستقبل العمل السياسي، وكيفية دمج هذه التيارات  في أتون التجربة السياسية للدولة الوطنية الحديثة، برز النموذج التركي في هذا النطاق، على الرغم من تأخره النسبي، ليقود قاطرة الديمقراطية في تركيا، ويبرهن على إمكانية التوافق والتعايش والانسجام بين «الإسلام» والديمقراطية.
فعلى الرغم من تمكن المحكمة الدستورية التركية منذ عام 1962 وحتى الآن من حظر 24 حزباً سياسياً، بذريعة أنها تهدد النظام العلماني في تركيا، إلا أن حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) تمكن مراراً من تجاوز محنة الحظر التي وقع فيها غيره من الأحزاب. وخرج الحزب من المحكمة عام 2008 بمجرد «إنذار» وحرمانه من بعض التمويل والمساعدات المقدمة من الدولة. وتمكن من تفادي وقوع «الانقلاب القضائي التركي» الذي كانت تباشيره تلوح في الأفق لإيقاف نجاح الحزب الذي يحاول إعادة تركيا إلى مكانتها المرموقة إقليمياً ودولياً.
وقد انعكس ذلك على الاقتصاد التركي الذي أضحى يحتل مرتبة متقدمة على مستوى العالم (المرتبة السابعة عشرة)، وأصبح حزب العدالة والتنمية إحدى أهم القوى السياسية الهامة في قضية «دَمَقرطة تركيا» وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي منذ توليه السلطة عام 2002.
وقام الحزب الحاكم حالياً بتنفيذ برامج إصلاحية نوعية للاقتصاد التركي، وأفضت سياسته إلى اتخاذ المجلس الأوروبي عام 2004 قراراً ببدء مفاوضات الانضمام على الرغم من الجذور الإسلامية لهذا الحزب. وفيما يرى البعض استحالة الفصل بين الدين والدولة في الإسلام بما يسهل من إنشاء حكومة ديمقراطية في بلد مسلم، فإن تركيا أثبتت العكس على الرغم من صرامة النموذج العلماني فيها. فرغم إعجاب البعض بالنموذج العلماني الذي أسسه أتاتورك، وبالذات النخب الجامعية والجيش، إلا أن النخب المثقفة لم تشأ التخلي عن الإسلام وانتقدت الإصلاحات الكمالية، واقترحت صيغة أخرى كبديل للتجديد التركي تربط بين القيم الإسلامية والغربية. واستفاد أعضاء الطبقة المسلمة الجديدة في الغالب من انفتاح تركيا على الاقتصاد العالمي في ثمانينات القرن العشرين، لأنهم أدركوا المزايا الاقتصادية والسياسية الاجتماعية لعضوية الاتحاد الأوروبي.
ويعد حزب العدالة والتنمية ثمرة تغير الإسلام السياسي، إذ أصبح الممثل السياسي لهذه الاتجاهات. وبعد أن تم الإقلاع عن الشكوك في «أوروبا المسيحية»، بدأ السعي في الانضمام للاتحاد الأوروبي. وساعد هذا التطور على التسامح بين طبقات المجتمع التركي، مثل المواطنين ذوي التوجه العلماني والإسلاميين، أو الأتراك والأكراد، أو المسلمين وغير المسلمين ضمن النسيج الاجتماعي التركي.
بالمقابل، لم تنجح النخبة العلمانية ذات التوجه الغربي في التعامل مع سياسة حزب العدالة والتنمية المتغيرة ولم تقدم صيغة بديلة للاندماج في أوروبا، فبدل أن يصبح «حزب الشعب الجمهوري»، أحد أبرز ممثلي هذا التيار مقدمة عملية للاندماج التركي الأوروبي، اتخذ موقفاً مناهضاً للاتحاد الأوروبي، وحاول توجيه الاتهامات الضمنية والعلنية إلى حزب العدالة والتنمية بأنه يحاول «أسلمة» تركيا فحسب، وفسروا ترشيح (عبد الله غول) للانتخابات الرئاسية عام 2007 بأنه خطوة في هذا الاتجاه، وبدا كأن حزب العدالة والتنمية هو الوحيد الذي يؤيد العضوية في الاتحاد الأوروبي، وتجاهل حزب «الشعب الجمهوري» الجماعات الإرهابية العنصرية كمنظمة إرغينيكون، ومحاولاتها لزعزعة استقرار تركيا، وإفشال محاولات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ويبقى حزب العدالة والتنمية، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار عدم وجود حزب علماني بتوجهات أوروبية، المحرك الرئيسي للتغيير الديمقراطي. وبمساعدة أغلبيته البرلمانية الراسخة يمكن حزب العدالة والتنمية دفع الإصلاحات الديمقراطية إلى الأمام، الشيء الذي قد يقرّب تركيا من عضوية الاتحاد الأوروبي ويزيل الشكوك المتعلقة بالنوايا الخفية على المستوى القومي. كما يمكن أن يكون لنجاحه تأثيرٌ سياسيٌ على العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي. وأهم من ذلك أن نجاح حزب العدالة والتنمية يعد مثالاً مهماً للانسجام بين الإسلام والديمقراطية، في ظل المحاولات المشبوهة لتشويه صورة الإسلام، ولصق تهمة الإرهاب العالمي بأبنائه، وإشاعة أن حركات الإسلام السياسي لا تروم سوى الوصول إلى سلطة الحكم ثم تتخلى عن برامجها وشعاراتها تحت ضغط النفوذ والسلطة، فحزب العدالة والتنمية التركي لم يتخل عن برامجه وأهدافه ولم يتراجع أمام هجمات الخصوم الداخليين والخارجيين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين