دعاء أم ادّعاء

قرأت دعاء أحد المثقفين فاستهجنته وأنكرته، لبعض ما فيه من مفاهيم جدلية! وبعض كلماته الفضفاضة غير المنضبطة التي تسع الحق والباطل معا!

نعم في الدعاء الذي قرأته كلمات نديّة، تنشرح لها النفس، لأنها أقرب لتحقيق العبودية التي يتحقق بها كمال الحب والخوف والرجاء، لولا ان به أيضا عبارات تخرج عن هذه السكة قليلا، فتؤدي لضد المقصود، خاصة حين تبدو كأنها رد على بعض أفكار مخالفين! إذ مقام الدعاء لا يتناسب مع الجدل والاخذ والردّ ونزاع البشر والهمز واللمز، وهذا ما جعلني أصف الدعاء بالمضطرب! 

فهناك خلل في فهم السنن، وحكمة الخلق، ومفهوم العبودية ببعضه! 

الله سبحانه خلقنا مختلفين، وأمرنا بالوحدة، جعلنا مؤمنا وكافرا، وأمرنا بالإيمان، نهانا أن نكون شيعا متفرقة بالدين، وأمرنا أن نعتصم بحبله المتين، ونتفرق عن الكافرين.. 

أمر الله الكوني هو مطلق إرادته وحكمته التي لا ندركها، ولسنا متعبدين به ولا مكلفين، فنفوضه لربنا سبحانه. أما أمره الشرعي فنجتهد فيه، ونأتي منه ما استطعنا..

فإن مضينا في أمره الشرعي لا نكون معتدين، ومن ظن ذلك فعليه أن يصحح مفهومه للقضاء والقدر قبل أن يتقوّل على الله بأوهامه!

قد يقال أن الأخ يطرح رأيا، ومن حقّه، ففيم تنكرون، وأقول: لا ينبغي تشجيع العامّة على الجرأة في الافتئات على دين الله بمثل هذه المفاهيم الكلية وفي المقاصد العليا بدعوى الاجتهاد وحرية الرأي! فليس راي كرأي، وليس كل فهم مقبول، ولا كل اجتهاد ماجور، ولا كل شخص يملك أن يقول ما شاء كيف شاء متى شاء، ثم بعجب أن يشتدّ الناس عليه بالتصحيح!  فهناك من اجتهد في عصر النبوة كذي الشجّة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقتل: (قتلوه قتلهم الله ألم يكن شفاء العي السؤال لو تيمم بالصعيد) .

وهي قاعدة في كل عييّ أن يسال أهل الذكر، وهم الذين يُذكرون في كل فن من فنون العلم، وتذكر أهليتهم وتُعرف، من الذين نفروا ليتفقهوا في الدين مثلا، وممن اجتهدوا وسعهم في تلقي العلم من مظانّه، واستنباط الأحكام… 

ولكن اجتهاد هؤلاء مضبوط بضابطين بعد ضوابط الاجتهاد المعروفة وهما: 

1-ان يكون اجتهادهما في إطار مقاصد الشريعة لا متعديا لها. 

2- أن يتعضد برأي جمهرة من العلماء الثقات، خاصة إن كانوا من الصحابة وعلماء السلف، كما قال أعلم الامة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه: (وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قال قلت لمعاذ ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا).

فإذا دخلنا لصلب الدعاء المذكور، نجد أن الأخ الكريم يزعم تعريضا أنه فهم سنن الله وعلم مشيئته وعرف قضاءه، غير أنّ من يتابع دعاءه سيجد خللا بيّنا في هذا الفهم والمعرفة!

فهو يقول: (ما رحمنا بَعضنَا وتفرقنا شيعاً ينبذ بَعضُنَا بعضاً لمجرد مخالفة في فكر او فكرة ، رأي أو معتقد ، مذهب أو طائفة ، ملة أو دين ، وانت الذي قلت و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم ).

فالمخالفة بالفكرة عنده قد تكون بالعقيدة بل والدين… 

يعني يخالفني في الدين فأقول له انا معك بعضنا من بعض، لأنه مشمول بما رحمنا بعضنا، وينبذ بعضنا بعضا، وبالتالي فلا ينبغي أن أنبذ هذا المخالف بالفكرة مطلق النبذ! 

يعني أسمعهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها فأقعد معهم وهم في مخاضهم بذات الحديث حتى لا أنبذهم! 

أسمع كفرهم وإلحادهم وسائر منكراتهم، فلا أنهى عن منكر فعلوه، ولا قول زعموه، ثم لا يمنعني هذا من ان أكون جليسهم وأكيلهم حتى لا اجرحهم ويشعرون بنبذي لمنكرهم! 

لي سلطان الأمة في أن أحافظ على هوية مجتمعي فلا أسمح بصالات قمار، ولا شواطئ عراة، وأندية إلحاد لها صحافة تنشر الكفر الصراح، ثم لا امنعها بسلطان القانون و العرف المستمدين من هويتي وشريعتي، مخافة ان أتهم بنبذ هؤلاء المروجين والمضللين! 

فإن دعوت الله أن يزيح الأمة من طاغية فرض فكرا هداما وأضلّ جبّلا كثيرا من الناس، فأنا كافر بما أخبر الله وقدّر! 

طبعا إن تجرأت ان أقرأ بعدُ سورة الكافرين بمفاصلتها الحادة، أكون والعياذ بالله مثلهم، كلانا في كفره بسنن الله سواء!!!!! 

فكيف يفهم أخونا القضاء؟!!

إن دعونا الله بتغيير حال فنحن نجهل قضاء الله الذي أراده، إن دعونا الله ان يخلصنا من الطغاة والمضللين فنحن ترتكب خطيئتين: 

1- يضجّ الجهل منا أننا لم نفقه أنهم. جاؤوا بإرادة الله، وقضائه في كونه! 

2- نطلب منه ان يقتلهم نيابة عنا ونحن قاعدون!

فهمه للدعاء مشوش أيضا، فهو يرى ان الطلب الجازم في الدعاء غير مؤدب، لأنه بتعبيره: طلب الأمر

لا أدري هل المطلوب بعدها ان ندعو بدعاء السيسي، فنقول: يا رب لو سمحت؟!!

وهل كان دعاء أنبياء الله عليهم سلام الله طلب أمر غير مؤدب أيضا حين كانوا يقولون: ربنا اطمس على ابصارهم واشدد على قلوبهم، لا تذر على الارض من الكافرين ديّارا؟

وفي ما ساقه خلل بمفهوم دعاء النصر أيضا! 

(منتظرون انتصارك انت الذي ستعود به إلينا وحدنا دون سائر خلقك)… 

الأخ لا يميز بين الاخذ بالأسباب التي لا تحابي، وبين الدعاء… وأن الله سبحانه أوجب على نفسه: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.. (

فهل طلب النصر من الله مع الأخذ بالأسباب، وإعداد ما استطعنا من قوة، هو جهل واعتداء بالدعاء؟! 

كلمات تشوش على الدعاء الجميل، ولا أرى طرح ما فيها من جدل واستشكال في مقام دعاء!

في الدعاء الجدلي يفترض أخونا أن الدعاء لمن قصّر في الأسباب أو قصر مبلغه، تجاوز، وينسى أنه حين يدعو المضطر ربّه بعد أن استنفذ وسعه، إنما يدعوه في الغالب بما لا يعلم له في الأسباب المادية الحاضرة سبيلا، فيقدر الله له من غيبه ما لا يطلعه على خفي ألطافه، فينجيه مما ألمّ به فوق الأسباب بسبب من عنده قد نعلمه ثمة أو نجهله..

دعاؤنا الله سبب من الاسباب، وقدر من الأقدار، ينبغي ان يكونا حاضرين في يقيننا وطلبنا الجازم، فلا يرد القدر إلا الدعاء، وفوق كل الأسباب من امره بين الكاف والنون، وهو من جملة الاسباب التي ينبغي التعلق بها حين نقنط ونستنفذ ما بوسعنا…

الدعاء قرين العمل في الأحوال الطبيعية، لكن ليس معنى هذا ألا ندعو إن عجزنا أو قصّرنا عن بعض العمل، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وهنا تأتي معاني البركة والكرامة واللطف الخفي، وهي معاني غيبية يؤمن بها المسلم جازما كما يؤمن بالأسباب الظاهرة، وهذا سر أمله المتواصل دون تواكل وتقاعس.

وأما مغالبة السنن الكونية، فإن كان مقتضى الدعاء الاعتراض على قضاء الله، وعدم التسليم به، فهذا اعتداء في الدعاء لا مرية، لكن إذا كان الدعاء مدافعة لقدر بقدر، فهذا محض الإيمان… 

فلا ينبغي الدعاء بما لم يأذن الله، كالدعاء بهلاك الكافرين على الأرض، وعدم ابتلاء المؤمنين، إلا بمعنى مجازي خاص.. لأن هذا عدوان على سنة الله الكونية… 

تحديد أفعال بعينها لطلبها في الدعاء، وتعليل الطلب بها من جملة طرق الدعاء المشروعة، مع تفويض الأمر لله، وهو تعالى يكتب لنا الخير حيث كان، مثل: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).

وهذا لا يفهم على انه إملاء على الله سبحانه كما ظنّ أخونا في جدليته الدُعائية، تعالى الله! 

ولكنه منتهى التذلل مع استنفاذ الأسباب والتضعّف والخضوع وعرض الحال! والله أعلم

أكرر أن الجدال الذي في الدعاء المشكل لا يتناسب ومقام الدعاء، فقد أمرنا الله سبحانه أن نتجنّبه في شعائره التي تورث التقوى، فما بالك بأصل العبادة؟ أليس الدعاء هو العبادة؟

 

انظر مقالة فضيلة الشيخ إبراهيم منصور  : 

نظرات في دعاء فيه تصورات باطلة وأفكار منحرفة هـــنـــا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين