دعائم الكمال النفسي 3-4

جهاد النفس:

السمةُ الملحوظة لأهل زماننا أنَّهم راضون عن أنفسهم مُسارعون في أهوائها، وهم يَرون أنَّ رغباتهم الماديَّة والمعنويَّة يَنبغي أن تُجاب، وأن تُزال من أمامها العوائق، وعلى ضَوء هذا الرأي يُرسلون أحكامهم على الأشخاص والأشياء، وتتكوَّن مَذَاهبهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة. وقد أسهمتْ بحوث علم النفس في سَوق الجماهير إلى هذا الاتجاه خشية ما يسمونه (بالعُقَد)، فشاعَ تَدليل الطفولة في مَيدان التربية، وشاعَ بعد ذلك تركُ الغرائز المختلفة تتلمَّس طَريقها في الحياة دون حَرجٍ أو دون رَهْبة، ولانت الشرائعُ أمامَ هذا السلوك المقتحم الماضي في طريقه لا يلوي على شيء! وتغيَّرت مفاهيم الأدب، وضوابط الخُلُق في أرجاء شتى كي تتجاوب مع لون هذه الحياة الجديدة.

ولسنا بصدد البحث عن أسباب هذا الاضطراب العام، وكل ما نبغي هنا أن نجدِّد حدودَ الحق التي دَرَست ونقف الناس عندها، نُريد تحسينَ الحَسَن وتقبيح القبيح وفق مَنطق الدين وهدي الوحي، ثم نَسُوس النفوس لتألفَ ما هو حسن وتَذَرَ ما هو قَبيح، وتعلم أنَّ اكتمالها ومرضاة الله عنها في التزام هذا وحدَه. 

في مقدمة ما يَكفل للنفوس صلاحها أداء العبادات التي افترضَ اللهُ عَليها مَهْما شَقَّت، فالصلاةُ مثلاً عملٌ رَتيب مَوصول مُتجدِّد ما بقي الليلُ والنهار، وهو عملٌ يَنبغي له قهرُ كلِّ عُذْرٍ، وتركُ كلِّ شُغْلٍ.

وهذا يَثْقُل على أحلاس اللهو وعُشَّاق الحياة؛ فإنَّ الصلاةَ بين الحين والحين تَنزعهم انتزاعاً مما يَأنسون إليه من مَتاعٍ ومَرَحٍ؟ أو مما يَغْرَقون فيه من كدح واحتراف، ولذلك قال الله تعالى في وصفها: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:45-46}.

ومجاهدةُ النفس لأداءِ هذه الصلوات الموقوتة أساسٌ مَتين للكمالِ المنشود وكذلك القيام بجميع الطاعات التي أمرَ الإسلامُ بها، فإنَّ هذه الطاعات مدارجُ الكمال المنشود، ومَراحل الطريق إلى سموِّ الروح، ورضوان الله.

حاجة النفس الإنسانيَّة إلى التهذيب والتزكية مثل أو أشد من حاجة العقل إلى الصقل والتثقيف، ونحن في هذا العصر نُنَظِّم مراحلَ التعليم فنقدِّر سِنِيَّ الدراسة من عشرة إلى عشرين سنة كي نحصلَ على عقلٍ مُستنير مزوَّد بقدرٍ مُحترم من المعارفِ التي تجعله يحسنُ الإدراك والحكم.

أفتظنُّ النفس تفتقر إلى أقلَّ من هذا الأمد كي تستقيمَ طباعُها وتعتدل مُيولها، وتَنضبط شهواتها وتتكوَّن لديها القدرة على التسامي ومحبة الفضيلة والشَّرف؟. 

إنَّ تغليب العفَّة على الشَّرَه يحتاج إلى جهاد طويل، فإذا كان المرادُ أن تبلغ النفسُ درجةً تحبُّ فيها الخير وتستلذُّه، وتكره فيها الشر وتزدريه فالأمر بحاجةٍ إلى مِرانٍ أطول، مِرانٍ يلتقي فيه كفاحُ الإنسان نحو الكمال، والتوفيق الإلهي لبلوغ الشأو المقصود.

وبذلك يكون الإنسان ممن عَنتهم الآية الكريمة: [وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {الحجرات:7-8}.

 ونحن نلحظ في كثيرٍ من الأحيان أنَّ بعضَ الناس تَفسدُ نفسُه فساداً لا تَستطيع معه أن تستبينَ الحقَّ، بل أن تَتبعه، وربما استمرأت العيش في الأباطيل والجهالات كما يستمرئ جامعو القُمامة العيش بين الفَضَلات والأقذار ما تزكمهم روائحها ولا تؤذيهم مقابحها!. 

وهذا الانتكاس قاتل للضمائر والأخلاق، مُوغِلٌ بأصحابه في ليلٍ ليس له فجر.

وكم يدعو المرء ـ وهو يرقب هؤلاء الشاردين في بيداء الحياة: اللهم أرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. والشهوات التي تحتاجُ إلى رقابة وضبط زمام كثيرة، وهي مُتفاوتة الحدَّة في آحاد الناس، ولكن أصولها ناشبة في حياتهم على العموم. 

هناك حُبُّ النفس، وحُبُّ النساء، وحُبُّ المال، وحُبُّ الظهور، هذه مثلاً غرائز ما يخلو البشر من مَبَاديها، وقد تجدُ البعض في حُبِّه لنفسه لا يبصر غَيرها، ولا يتحرَّك إلا بهواجس الأَثَرة وحدَها، وقد تجد آخرَ مَفتوناً بالثراء، يدأبُ ليلَه ونهارَه في جمعِ المال، يَعشقه لذاتِه دونَ رغبةٍ في بَذله مهما تطلَّبت الحقوق.

وقد تجد امرءًا على حاجته إلى المال يبذله كي يذكرَ اسمُه ويَذيعَ صِيتُه، أو هو في سبيل سُمعته يتسلَّق الوَعْر ويتوسَّد الجَمْر.

ومن الناس من يهيم وراء الغيد كأنه ظمآن لا يجد الري أبداً، وعلى مبادئ هذه الغرائز تعتمد الحياة الإنسانية في بقائها ونشاطها، ومن طيش هذه الغرائز تفسد الأرض، وينتشر الهرج والمرج، وتصاب الأعراض، وتسفك الدماء.

ألا تَرى القليلَ من الماء يَتناوله الإنسانُ فيذهبُ الظمأ وتبتلُّ العروق، فإذا صارَ لجَّة ووقع الإنسان في مدها كتمت أنفاسه، وزحمت أمعاءَه، وأزهقت روحه؟.

وعلى طول الخطِّ الطويل الممتدِّ من المهدِ إلى اللَّحْد يواجهُ الإنسانُ أموراً شتى تحتاج إلى فؤادٍ صاحٍ وبصيرة نَيِّرة، فإنَّ اشتباك النفس بهموم الرزق، وفُتون الناس، وتَلقيها ألوانَ الوساوس، وتأرجحها بين جواذب اليمين واليسار، وفَقْرِها إلى استجماعِ قُوى كثيرة كي تحقق الخير، وكي تصدَّ الشرَّ، ذلك كله يَستدعي جهاداً مُتَّصل الحلقات، ولن ينجحَ الإنسانُ في هذا الجهاد إلا إذا مَرُنَ على عصيانِ هواه ومَضَى قُدُماً على الصراط المستقيم جَلْداً مُثَابراً لا يُقعده إعياء ولا يَردُّه استرخاء.

وقد حذَّرَ اللهُ خيرةَ خلقه من الهوى، وبَيَّن أنَّ اتباعه حجابٌ عن الله، ومَزْلقة عن الحق، انظر ما قال لداود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ) سورة ص.

 ويقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: [وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ] {البقرة:120}. ويقول: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الجاثية:18}. ويقول: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ] {المائدة:48}.

ويصف الكافرين بأنَّ أهواءَهم هي التي سوَّلت لهم الزور وزيَّنت لهم الجهل: [بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ] {الرُّوم:29}.

بل يكشف أنَّ كثيراً من الناس يَرينُ على قلوبهم الهوى، ويكمن وراءَ أقوالهم وأعمالهم وأحكامهم، ويَنسجُ على حَواسِّهم غشاوة مُحكمة فلا يَرون ولا يَسمعون إلا ما يَنبع من طَواياهم، أي: أنَّهم لا يَرون الحياة الخارجيَّة على حَقيقتها، بل يَرونها من خِلال تَفْكيرهم الخاص، كما ترى الجوَّ أزرق من خلال زجاجة زرقاء: [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:43-44}

إنَّ البهيميَّة مذهب معروف عند كثيرٍ من الخلق، وهو أقصرُ طريق إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إنَّه لا يُكلِّف أصحابَه إلا حبَّ الراحة، وطلب اللذَّة، والاحتفاء بالنزوات العابرة والاهتياج مع الشهوات الفائرة، وإبداء الرأي دون عَقْل، وإرسال الحكم دون عدل، وتفضيل عاجلٍ رَخيص على آجلٍ غَالٍ.

وقد حدَّدَ القرآنُ مَصير هذا السلوك بجلاء: [فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى(40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى(41)]. {النَّازعات}.

وتقويم جهاد ما لا ينظر فيه إلى مقدار ما يُبذل من تَعب، وإنما يُنظر فيه قبلَ كلِّ شيء إلى نيَّة المقارنة والغاية المقصودة.

فإنَّ اللصَّ يَسْهَرُ الليلَ ليختلَ النائمين، والشرطيَّ يسهرُ الليل يحرسُ الأمنَ لقاءَ راتبٍ مَعْهود، والمتهجِّد يهجر فراشه ويدعُ لذيذَ الرُّقاد لا لشيء إلا ليعبدَ ربَّه في هُدوء وصفاء، ويتدبَّر آياته في خُشُوع ورجاء، مُرتقبا في الآخرة ثمارَ ما يَغرس في الدنيا: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {السجدة:16-17}.

إنَّ سهر هؤلاء الثلاثة واحد والفرق بينهم شاسع. فأما الأول: فمجرمٌ يَستحقُّ العقوبة بما بيَّت من إثم. وأمَّا الثاني: فأجيرٌ يؤدِّي واجبه بثمنٍ لو تأخَّر عنه قليلاً لسَخِطَ وتَركَ ما كُلِّف به. وأما الأخير: فرجلٌ مؤمنٌ بالغيب والشهادة، يعرف ما يَعمل، ولمن يعمل؟.

ومن هنا فنحن لا نكترث لكلِّ جهادٍ نفسي، ولا لكل عَناء يتجشَّمُه البشر، مالم يكن جِهاداً رشيداً محكوماً بإطار من هدي السماء وصحَّة الأداء.

إنَّك تسمع عن فقراء الهنود، وعن سَاستهم، قصص الصيام الطويل المضني، وهذا من غير شكٍّ إرهاق للبدن تسانده عَزيمة شديدةٌ، وإرادةٌ غَالبة، ومع تقديرنا المجرَّد لقوَّة العزم وتماسك الإرادة لا نرى في هذا المسلك ما يستحقُّ التنويه والحمد، ولو أنَّ أحدهم دفنَ نفسه في الرُّغَام شُهوراً ـ كما يروون ـ ما أبهنا كثيراً ولا قليلاً لهذه الحكايات. وهي عندنا تساوي استعراض العضلات الذي يَقوم به فتيانُ الرياضة البدنيَّة غاية ما هنالك من فرق أنَّ هذا بالزائد، وذاك بالناقص، هذا استعراضُ شِبَع، وذاك استعراض جُوع، وفى كلا الفريقين استعدادٌ طبيعي لما برعَ فيه، وهذا وذاك ليسا الجهاد النفسي الذي أقرَّه الإسلام.

ومن الرهبان من يَحيا آماداً طويلة وهو محروم من طيبات الحياة، ومن يجاهدُ نفسَه جِهَاداً شَاقاً وهو يحملها على ما تَكره، ولكن ضلالَه عن الحق، وجهله بالله الصمد الذي لم يَلد ولم يُولد ولم يكن له كفواً أحد، يجعل كل مَتَاعبه تذهبُ سدى، ولن يزيدَ فيما يُعاني، عن فقراء الهنود الذين شَرحنا حالتهم آنفاً.

ولكي يكون الجهاد النفسيُّ صادقاً لابدَّ أن يجيءَ تَنفيذاً لخطَّة رسَمتها الشريعة، وبيَّنت مَعَالمها بوضوح.

ومن هنا فالجهادُ المقبول لا مَوضع له إلا إذا كان انتهاءً عن حرامٍ أو انتهاضاً إلى واجب. 

الجهاد المقبول هو الذي يسبك النفس في بَوْتقته لتصفو من دَرَنِها ثم تُصاغ وفق القالبِ الذي أراده الله لها. 

الجهاد المقبول هو الذي يَستهدفُ وجهَ الله في كلِّ حَركَة ويتحرَّى حُكمه في كلِّ وجه. وكلُّ جِهادٍ يُنهي صلته بالله فهو مَردود على أصحابه.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين