دليل مصدر القرآن

تحدثت عدة مرات إلى شاب من أسرة مسلمة، نشأ في الغرب، وتأثر بما يتأثر به الشاب في مجتمعه. كان دائما يقول إنه لا يستطيع أن يقبل مسألة الوحي، بل الأولى أن يقال إن القرآن من تأليف النبي محمد صلى الله عليه وسلم. (وواضح أنه لم يصف الرسول بالنبوة، ولا أضاف الصلاة والسلام عليه). وكثيرا ما كان يذكر في كلامه: كيف نسلم لشخص من القرن السابع الميلادي بأمور حياتنا ينظمها لنا، ونقبل تشريعاته على أنها أمر مقدس. ويطالبني بالدليل على كل هذا. قلت له يوما إن الدليل على أن القرآن من عند الله نأخذه من القرآن نفسه. وأعطيته الأدلة التالية:

 

قلت له أولا إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدّعِ يوما أنه كتب أو ألف القرآن، بل نسبه إلى الله تعالى. وهذا بحد ذاته دليل كاف. لو أنك قلت لشاعر إنك معجب بقصيدته التي يقول فيها كذا وكذا، فقال لك إنها ليست من شعره، لاكتفيت بنفيه وذهبت تبحث عن الشاعر الذي كتبها. ولو أن كاتبا معروفا ومشهورا قال إنه لم يكتب الرواية الفلانية أو الكتاب الذي ينتشر في الأسواق، لاكتفى الناس بنفيه عن نفسه. فلماذا يصر البعض على نسبة القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه نفى أن يكون قد قال حرفا أو آية واحدة من القرآن؟

 

ثم إنك تصدق ذلك الشاعر أو الكاتب في نفيه تأليف القصيدة أو الكتاب رغم أنك تعلم أنه يكذب في بعض الأحيان، وربما لا يخجل في أن يروي كيف تخلص يوما من موقف محرج بكذبة قالها، وما إلى ذلك. فكيف لا تصدق محمدا صلى الله عليه وسلم وقد شهد له أعداؤه بالصدق في كل ما يقول؟ لم يتهمه أحد يوما بالكذب في أي أمر، إلى أن بدأ يقول إنه رسول الله. هل تراه يربأ بنفسه عن الكذب على الناس، ثم يكذب على الله؟

 

الأمر الثاني إن أحدا لا يذكر عن شيء يكتبه، سواء كان رأيا خاصا، أو وجهة نظر في مسألة ما، أو نظرية علمية، أو حقيقة طبيعية، أو مسألة تاريخية، إن كلامه صحيح مئة في المئة، ولا يمكن لأحد أن يأتي في أي يوم من الأيام بشيء يخالفه. ولو قال أي عالم متخصص في أي فرع علمي مثل هذا الكلام لكان زملاؤه في اختصاصه أول من ينكر عليه، لأنهم يعرفون أن العلم التجريبي أو علوم الطبيعة تنقض اليوم ما كان علماء الأمس يؤمنون به، ويعرفون أن من الممكن أن يأتي غدا من ينقض ما يقولون به اليوم. كذلك ما يسلم به الناس على أنه حقيقة تاريخية، يمكن أن نكتشف شيئا جديدا ينقضها، كأن نعثر على آثار أو مخطوطات قديمة لم نكن نعرفها.

 

غير أننا نجد في القرآن هذا الوصف للقرآن ذاته: "وإنه لكتابٌ عزيزٌ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". وهذا الكلام يعني أنه كتاب متين راسخ لا يتزعزع لشيء، ولا يمكن أن يتطرق إليه شيء غير صحيح من أي زاوية أو جهة مهما كانت. وهذا الكلام ينطبق على كل العصور والأجيال من يوم بدء تنزل القرآن، إلى انتهاء الحياة البشرية على الأرض. هذا الكلام لا يمكن لبشر أن يقوله، ولو كان هذا الانسان لا يبالي ما يقوله الناس عنه بعد موته. ثم إن هذا الكلام قد تحقق فعلا، فلم يستطع أحد أن ينقض شيئا يقوله القرآن على مدى أربعة عشر قرنا، ونقول نحن المؤمنين إن هذا الكلام سيظل حقيقة ناصعة إذا استمرت الحياة أربعة عشر ألف قرن أخرى أو أكثر من ذلك.

 

يابني، خذ بعد ذلك موقف القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، تجده يعاتب النبي على مواقف اتخذها في بعض الأحيان رغم أنه ليس فيها بالمقياس البشري ما يؤخذ عليه. وترى العتاب يكون شديدا في بعض الأحيان. فمثلا حكاية الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب أن يتعلم شيئا من القرآن، وكان النبي مشغولا يتحدث عن الاسلام إلى بعض كبراء قريش، يأمل أن يؤمنوا، فإذا آمنوا اتبعهم ناس كثيرون. يعني أنه كان مشغولا بأمور الدعوة، وفي أمر يعلق عليه أملا كبيرا، فعندما قاطعه الأعمى وهو لا يعرف أنه مشغول امتعض الرسول وبان في وجهه أنه كره هذه المقاطعة، ولكنه لم يقل شيئا للأعمى، وأكمل كلامه مع وجهاء قريش. وطبيعي أن الأعمى في هذه الحالة لم يعرف أن النبي كره منه مقاطعته له. وكان الأمر يمكن أن يسير ولا يشعر به أحد، ولكن القرآن عاتب النبي على موقفه، واسمع هذه الآيات: "عبس وتولى، أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكّى أو يذّكّر فتنفعه الذكرى؟ أما من استغنى، فأنت له تصدّىّ! وما عليك ألا يزّكّى؟ كلا. إنها تذكرة".

 

انظر يابني إلى هذا العتاب. لم يفعل النبي إلا أن ظهر في وجهه أنه كره المقاطعة والتفت يكمل حديثه. لكن هذا بالذات ما أخذه عليه القرآن. هذا الأعمى رجل من عامة الناس، جاء يطلب تعلم القرآن، فحقه أهم بكثير من حق أولئك الوجهاء والأشراف المعرضين عنه. لذلك قالت الآيات للنبي: "وما يدريك لعله يزكى؟" لعله يؤمن ويزداد إيمانا. هذا يامحمد ما يجب أن تلفت إليه. أما الآخرون فليسوا أهم منه. "وما عليك ألا يزكى؟" أي: لماذا تهتم إن آمنوا أو لم يؤمنوا. ذلك ليس من شأنك. ثم تأتي الكلمة الشديدة: "كلا"، ومعناها الزجر والأمر بأن لا يفعل هذا مرة أخرى.

 

هذه الآيات تضع أساسا للقيم الانسانية، يختلف عما يتواضع عليه الناس، فالذي يطلب الهداية أهم ألف مرة من الذي يعرض عنها، حتى وإن كنا نرجو منه أن يكون قدوة لكثيرين آخرين يؤمنون عندما يعلمون أن هذا الشخص قد آمن.

 

ثم إنها تبين دور النبي، في أن كل مهمته تنحصر في تبليغ الدعوة والرسالة إلى الناس. ولذلك عندما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بجراح في غزوة أحد، وقال وهو في ألم: "كيف يفلح قوم يفعلون هذا بنبيهم؟" جاءه رد القرآن شديدا واضحا: "ليس لك من الأمر شيء، أو يتوبَ عليهم، أو يعذبَهم فإنهم ظالمون". وحدد له القرآن دوره، ودور دعاة الاسلام من بعده: "إن عليك إلا البلاغ" (بالمناسبة: إن هنا تعني "ما" يعني: ما عليك إلا تبليغ الرسالة)، ولذلك قال الله تعالى له: "ليس لك من الأمر شيء". أمرهم متروك إلى الله، قد يتوب عليهم ويؤمنون ويصبحون من عباده المخلصين، وقد يستمرون في ضلالهم، فالأمر ليس إليك.

 

ثم انظر يا بني كيف أن القرآن ينفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤلفه: يبدأ أولا بتعريف مصدر القرآن فيقول: "إنه لقول رسول كريم" والرسول هنا تشير إلى جبريل عليه السلام، الذي كان يأتي بالوحي إلى النبي. "إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون. ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكّرون. تنزيل من رب العالمين". هذه الآيات تنفي كل ما كان المشركون يقولون عن القرآن، فهو كلام يأتي به ملك كريم، وليس بكلام شاعر ولا كاهن، بل هو تنزيل من رب العالمين. ثم تتبع ذلك الآيات التالية: "تنزيل من رب العالمين. ولو تقوّلَ علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين". وهذا الكلام يعني لو أن محمدا صلى الله عليه وسلم ادعى على الله شيئا غير صحيح، ونسب إليه شيئا لم يقله، لضربه الله تعالى بيمينه، ثم لقطع منه الوتين أي شريان العنق، ولا يمكن لأحد أن يدافع عنه.

 

بالله عليك يا بني، هل تتصور شخصا يفتري على الله وينسب إليه شيئا لم يقله يمكن أن يقول هذا عن نفسه وينسبه إلى الله؟

 

ثم يابني، لننظر فيما يقوله بعض الذين يريدون أن يتعلقوا بأي شيء يبررون بهم إعراضهم عن الايمان. فهم يقولون لعل ما كان النبي يتصوره أنه وحي من الله إنما هو حالة نفسية تأتيه فينطق بكلام يعتبره من عند الله، وإنما هو كلامه ينطق به بسبب هذه الحالة. لكن هؤلاء لا يعرّفون لنا هذه الحالة، ولا يعطوننا مثالا آخر لها. ثم كيف تستمر هذه الحالة ثلاثا وعشرين سنة، ولم يكن شيء منها قبل ذلك؟ عاش محمد صلى الله عليه وسلم أربعين سنة في قومه لم يذكر لهم شيئا منها، وكان يتمتع عندهم بكل الاحترام الذي تستحقه أخلاقه الكريمة من الصدق والأمانة والشجاعة والتزام الحق. هل يمكن أن نتصور أن هذه الحالة النفسية الغريبة تأتيه فجأة، وتستمر ثلاثا وعشرين سنة، ولا يستغربها أحد ممن هم حوله، سواء من أصحابه أو من أعدائه؟ من يدعي هذا عليه أن يأتي ببرهان.

 

ولننظر أخيرا في جانب آخر. كان النبي يقول أحاديثه، وهي مدونة محققة وثابتة. أسلوبها في قمة الأسلوب الأدبي الإنساني، والنبي يقول عن نفسه: "أوتيت جوامع الكلم"، يعني الكلام المختصر الواسع المعنى. ولكن أسلوب الحديث يختلف كثيرا عن أسلوب القرآن. فالقرآن أعلى منه بما لا يقاس. والسؤال: كيف يمكن لشخص واحد أن يتحدث في موضوع واحد بأسلوبين مختلفين متباينين، كلاهما فصيح، ولكن الاختلاف بينهما كبير جدا؟ وكيف يمكن له أن يستمر في ذلك ثلاثا وعشرين سنة؟ قد يختلف أسلوب الأديب في مراحل عمره، لكن أساسياته تبقى واحدة. أما أن يختلف كما يختلف الحديث عن القرآن فذلك غير معروف في اساليب البشر، في أي لغة من اللغات.

 

وأخيرا أسأل الله لك يا بني الهداية، فليس في حياة الإنسان نعمة أكبر من نعمة الإيمان بالله سبحانه.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين