رضا الوالدين

 

روى الإمام أحمد عن عمر بن مُرَّة الجُهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخَمْس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضانَ – مالي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا – ونصب أصبعيه – ما لم يَعُقَّ والديه).

أفضل ما يدَّخره الإنسان للنجاح والتوفيق في هذه الحياة، والفوز برضا الله ورحمته في الحياة الآخرة – رضا الوالدين.

وأسوأ ما يشقى به الإنسان في هذه الحياة ويستحق عليه سخط الله وعذابه في الحياة الآخرة – غضب الوالدين.

وبِرُّ الوالدين: الإحسان بهما، والقيامُ بحقوقهما، وتكريُمهما، والتزامُ طاعتهما، واجتنابُ كل ما فيه إساءة لهما، وفعل ما يرضيهما، فمن قام بهذا استحقَّ رضا الله عليه، ومعونته، وتوفيقه.

وعقوق الوالدين: إهمالُ حقوقهما والخروجُ عن طاعتهما، وفعلُ ما لا يرضيهما، وإيذاؤهما ولو بكلمة مُرَّة، أو نظرة شزرة، فمن فعل شيئاً من هذا استحقَّ سخط الله، وحُرِم معونتَه، وارتكب إثماً من أكبر الكبائر في الإسلام، وأضاع ثواب ما عمله من حسنات.

هذا رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنَّه قام بأركان الإسلام لأنه آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي له من الأجر على ما عمل، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، ما لم يعقَّ والديه)، فهذا يدلُّ على أنَّ من عقَّ والديه لا ينال هذه المكانة عند الله تعالى؛ لأنَّه خلط عمله الصالح بأسوأ السيئات في الإسلام، وهو عقوقه والديه. 

ويدلُّ على أنَّ من عقَّ والديه قد خسر خسارتين: ارتكب أكبر الكبائر من الآثام، وأضاع ثواب ما عمله من الحسنات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف) [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن ربيعة، ضعيف جدا].

ذلك لأن من عقَّ أباه أو أمَّه، وأهان أحدهما ولو بكلمة، قد أساء إلى أحقِّ الناس منه بالإحسان، وأهان أولى الناس منه بالتكريم والتقدير، وجازى الخير بالشر، والنعمة بالنقمة، وعامل بالقسوة أشدَّ الناس به رحمة، وجاهر بالعداوة أكثر الناس له محبة؛ وهذا عنوان غلظة القلب، وخُبث النفس، وغضب الله عليه. 

فأبوه كم كدَّ وتعب، وكم سعى وقاسى ليربِّيَه ويقوم بشؤونه حتى يبلغ أشدَّه، وكم آثره على نفسه، وحاطه برعايته وعنايته، وعطفه ورحمته وكم احتمل المتاعب لراحته وذاق مرَّ المذلَّة في سبيله. 

وأمه كم عانت من الأهوال والمتاعب في حمله، وتعرَّضت للأخطار في وضعه، واحتملت الآلام والمكاره في رضاعه وفطامه، وحضانته وتربيته، وكل سهرت لينام وتعبت ليستريح، ومرضت ليشفى، وشقيت ليسعد. 

فمكافأتهما على هذا بعقوقهما وإهمال حقوقهما، وإيذائهما والإساءة إليهما، من أشنع الظلم والجحود، ومن أفظع الغِلْظة والقسوة، ومن أقوى الأدلَّة على فساد الطويَّة ونقص الإنسانيَّة، ومن لا خيرَ فيه لوالديه - وهما أحق الناس بخيره – فلا خير فيه لأحد: ومن ضيَّع حقَّ أعز الناس عليه لا يؤمن على حقِّ أحد.

ولهذا وصَّى الله تعالى الإنسان بوالديه وذكَّره بما قاسته أمُّه، فقال عزَّ شأنه: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا] {الأحقاف:15}.

وقال عزَّ شأنه: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ] {لقمان:14}.

وقَرنَ الله تعالى عبادته وتوحيده ببرِّ الوالدين والإحسان بهما، فقال جلَّ ثناؤه: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] {الإسراء:23-24}.

وقرن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشركَ بالله بعقوق الوالدين وإيذائهما، عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرة، عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثاً – قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الإشراك بالله، وعقوقُ الوالدين – وكان متكئاً فجلس وقال -: ألاَ وقولُ الزورِ، وشهادة الزور) [أخرجه البخاري، ومسلم].

وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم برَّ الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).

عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد» [أخرجه الحاكم، وصحَّحه، وقال الذهبي: على شرط مسلم].

وروى أبو داود أنه جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبويّ شيء أبَرُّهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما).

وفي هذا الحديث إرشاد نبوي كريم إلى أنَّ بر الوالدين كما يجب لهما على أولادهما في حياتهما، يجب لهما على أولادهما بعد موتهما، وإلى أنَّ من فاته أن يبرَّ والديه في حياتهما فلا ييأس؛ لأنَّ له سبيلاً إلى أن يبرَّهما بعد موتهما.

فمن دعا لوالديه بالرحمة والمغفرة فقد بَرَّهما، ولهذا قال الله جلَّ ثناؤه: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] {الإسراء:24}. عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" [أخرجه مسلم]، فالولد الصالح الذي يدعو لوالديه بالخير هو من عملهما الصالح، وينالان الثواب من الله بصلاحه ودعائه، ودعاؤه لهما برٌّ بهما، ويجزى عليه هو أيضاً خيرَ الجزاء.

ومن أنفذ عهدَ والديه وما وصَّيَاه به من خيرٍ وبرٍّ، فقد برَّ والديه؛ لأنَّه أطاعهما، ونفَّذ رغبتهما وحقَّق لهما ما يرجو به مثوبة الله تعالى.

ومن وصل أقاربه الذين يتصلون به، بأبيه وأمه، أو بأحدهما، كإخوته وأخواته، وعماته وخالاته، وأجداده وجداته، فقد برَّ والديه؛ لأنَّ والديه هما سبب الصلة بهؤلاء الأقارب، فالإحسان إليهم تقدير للصلة، وتذكير بسببها، والأخت التي يصلها أخوها ويحسن إليها تترحَّم على والديها اللذَيْن أثمرا هذه الأخُوَّة، والخالة التي ينالها الخير من ابن أختها تترحَّم على أختها التي كانت سبباً لهذا الخير، وكل قريب أسدِيَ إليه معروف من قريبه، ذَكَرَ أصلَ القرابة بالخير، ولهج لسانُه بالدعاء.

ومن أكرم صديق والديه فقد برَّ والديه؛ لأنَّ هذا الإكرام يذكِّر الصديق بالوالدين، وينطق لسانه بالدعاء لهما، وفيه تقدير لحقِّ الوالدين حتى بعد موتهما، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ» [أخرجه مسلم].

ومن شرِّ العقوق: اعتداد الولد على أمِّه، واستغلال ضعفها ورحمتها لإيذائها وإهمال حقوقها؛ لأنَّ هذا فوق أنَّه كفر بالنعمة، وقسوة في أحق مَواطن الرحمة فيه جُبنٌ ونَذَالة، واستغلالُ ضعف الضعيف، ولهذا روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال ثم من؟ قال: أمُّك قال: ثم من؟ قال: أبوك).

ومن شرِّ العقوق: أن يجلب الولدُ اللعْنَ لأبويه، بأن يَلعن أبوي الناس فيلعنوا أبويه، وهذا من أسوأ المساوئ، التي اعتادها الشباب الآن، ففي مزاحهم وأحاديثهم، ولسبب ولغير سبب، يتبادلون شتم آبائهم وأمهاتهم ويجعلون أعراضهم مُضْغةً في أفواههم، روى البخاري عن عبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعنَ الرجل والديه) قيل: يا رسول الله وكيف يلعنُ الرجلُ والديه؟ قال: (يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبُّ أباه وأمَّه).

فيا معشر الشباب من بنات و بنين! إن أردتم النجاح في دنياكم، ورضا الله تعالى ورحمته في أُخْراكم، فبروا والدَيْكم، وأدُّوا حقوقَهما، وكرِّمُوهما، واجتنبوا ما يُغضبهما، واحذروا عقوقَهما وسخطهما؛ فإنَّ عاقَّ والديه لا ينجح في دنياه، ولا ينالُ رحمة الله في الآخرة، وأكثر الذنوب جزاؤها أخروي، أما عقوق الوالدين فجزاؤه أخروي ودنيوي.

ولو بحثتم في سرِّ نجاح أكثر الناجحين لتبيَّن لكم أنَّه رضا الوالدين، ولو بحثتم في سر خيبة أكثر الخائبين لتبيَّن لكم أنَّه غضب الوالدين، واعلموا أنَّه كما يدين المرءُ يُدان، وبالكيل الذي يَكيل به يُكال له، ومن بَرَّ والديه بَرَّه أولادُه، ومن عقَّ والديه عَقَّه أولادُه، عن جابر، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم" [أخرجه الحاكم في مُستدركه].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثامن، السنة الأول، ربيع الثاني1367 فبراير 1948).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين