رغبة إلى الله تعالى

 

 إنَّ صوت الحق يهتف في كل مكان ليهتدي الحائرون ويتجدَّد البالون.

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فَيُعْطى؟ هل من داعٍ فيُستجاب له؟ هل من مستغفرٍ فيُغفر له؟ حتى ينفجر الفجر) رواه مسلم.

 وفى رواية: (أقربُ ما يكون العبد من الرب في جوف الليل) رواه الترمذي فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعات فكن...!)

إنها لحظة إدبار الليل وإقبال النهار، وعلى أطلال الماضي القريب أو البعيد يمكنك أن تنهض لتبني مستقبلك.

 تأمل في هذه الأبيات التي أضعها بين يديك تهيب بالغافي أن يصحو، وأن يدع دفء الفراش، وأن يتخلص من استرخاء البدن، وأن يدلف إلى بيت الله ليقف في محرابه مناجيا يؤمل الخير ويرجو الرشاد.

 قال الشاعر: 

قم في الدجى يا أيها المتعبد= حتى متى فوق الأسرة ترقدُ؟ 

قم وادع مولاك الذي خلق الدجى= والصبح، وامض فقد دعاك المسجدُ 

واستغفر الله العظيم بذلة= واطلب رضاه فإنه لا يحقد

واندم على ما فات، واندب ما مضى= بالأمس، واذكر ما يجئ به الغدُ

واضرع، وقل: يا رب عفوك إنني= من دون عفوك ليس ما يعضد

أسفا على عمرى الذي ضيعته= تحت الذنوب، وأنت فوقى ترصد!

يا رب لم أحسب مرارة مصدر= عن زلة قد طاب منها المورد

يا رب قد ثقلت على كبائر= بإزاء عينى لم تزل تتردد!

يا رب إن أبعدت عنك فان لي= طمعا برحمتك التي لا تبعد

يا رب ما لي غير لطفك ملجأ= ولعلنى عن بابه لا أطرد! 

يا رب هب لي توبة أقضى بها= دَيْناً عليَّ، به جلالك يشهد

أنت الخبير بحال عبدك إنه= ـ بسلاسل الوزر الثقيل ـ مقيَّد 

أنت المجيب لكل داع يلتجى= أنت المجيرُ لكل من يستنجد

من أي بحر غير بحرك نستقى؟= ولأى باب غير بابك نقصد؟ 

ولا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر ما بالى الله عز وجل بالتعفية عليها إن أنت اتَّجهت إليه قصداً وانطلقت إليه ركضاً.

إن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقاً أمام أوبة صادقة [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ] {الزُّمر:53-54} 

 وفى حديث قدسي عن الله عز وجل: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي.

 وهذا الحديث وأمثاله جرعة تحيي الأمل في الإرادة المخدرة، وتنهض العزيمة الغافية وهي خجلى لتستأنف السير إلى الله تعالى، ولتجدد حياتها بعد ماضٍ ملتوٍ مستكين.

 لا أدرى لماذا لا يطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة؟.

 إنَّ الجهل بالله، وبدينه، هو علة هذا الشعور البارد أو هذا الشعور النافر ـ بالتعبير الصحيح ـ مع أن البشر لن يجدوا أبرَّ بهم ولا أحنى عليم من الله عز وجل.

وبرُّه وحنوه غير مشوبين بغرض ما، بل هما آثار كماله الأعلى، وذاته المنزهة.

 وقصة الإنسان تشير إلى أن الله سبحانه خلقه ليكرمه لا ليهينه، وليسوده في العالمين لا ليؤخر منزلته أو يضع مقداره [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ] {الأعراف:10-11}.

 ووظيفة الدين بين الناس أن يضبط مسالكهم وعلائقهم على أسس من الحق والقسط حتى يَحْيَوا في هذه الدنيا حياة لا جَوْر فيها ولا جهل...

 فالدينُ للإنسان ـ كالغذاء لبدنه ـ ضرورة لوجوده ومتعة لحواسه.

 والله عز وجل ـ بشريعته ـ مع الوالد ضدَّ عقوق الولد، ومع المظلوم ضدَّ سطوة الظالم، ومع أي امرئ ضد أن يصاب في عرضه أو ماله أو دمه!.

 فهل في هذه التعاليم قسوة على البشر ونكال بهم؟ أليست محض الرحمة والخير؟.

 وإذا كلَّف الله تعالى أبناء آدم بعد ذلك ببعض العبادات اليسيرة، ليحمدوا فيها آلاءه ويذكروا له حقه، فهل هذه العبادات المفروضة هي التي يتألم الناس من أدائها، ويتبرمون من إيجابها؟.

الحق أنَّ الله تعالى لم يرد للناس قاطبة إلا اليسر والسماحة والكرامة، ولكن الناس أبوا أن يستجيبوا لله وأن يسيروا وفق ما رسم لهم فزاغت بهم الأهواء في كل فج وطفحت الأقطار بتظالمهم وتناكرهم.

 ومع هذا الضلال الذي خبطوا فيه، فإن منادى الإيمان ما يزال يهتف بهم أن عودوا إلى بارئكم.

إن فرحته بعودتكم إليه فوق كل وصف.

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (للهُ أفرَحُ بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ نزل في أرض دَويَّة مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته؟ فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت..!!  فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته) رواه البخاري.

 ألا يُبهرك هذا الترحاب الغامر؟ أترى سروراً يعدل هذه البهجة الخالصة؟.

إنَّ أنبل الناس عرقاً، وأطهرهم نفساً، قلَّما يجد فؤاداً يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين، فكيف بخطَّاء أسرف على نفسه، وأساء إلى غيره؟ إنه لو وجد استقبالاً يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان المبذول ليستريح ويشكر.

أما أن يفاجأ بهذه الفرحة، وذلك الاستبشار، فذاك ما يثير الدهشة.

 لكنَّ الله تعالى أبَرَّ بالناس وأسَرَّ بأوبة العائدين إليه مما يظن القاصرون!!.

وطبيعي أن تكون هذه التوبة نقلة كاملة من حياة إلى حياة، وفاصلاً قائماً بين عهدين متمايزين كما يفصل الصبح بين الظلام والضياء.

فليست هذه العودة زَوْرة خاطفة، يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف.

 وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم، وقوة التحمل، وطول الجلد، كلا، كلا، إنَّ هذه العودة الظافرة التي يفرح الله بها، هي انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول، وسحقه لجراثيم الوضاعة والمعصية، وانطلاقه من قيود الهوى والجحود، ثم استقراره في مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان والنضج والاهتداء.

 هذه هي العودة التي يقول الله في صاحبها: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] {طه:82}.

إنها حياة تجدَّدت بعد بلى، ونقلة حاسمة غيرت معالم النفس كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه والمخصبات.

إنَّ تجديد الحياة لا يعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة، والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلاً حميداً ولا مسلكاً مجيداً.

بل إنه لا يدل على كمال أو قبول، فمان القلوب المتحجرة قد ترشح بالخير، والأصابع الكزة قد تتحرك بالعطاء.

 والله عز وجل يصف بعض المطرودين من ساحته فيقول: [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ(43) ]. {الحاقَّة}.

 فالأشرار قد تمر بضمائرهم فترات صحو قليل، ثم تعود بعد ذلك إلى سباتها.

 ولا يسمى ذلك اهتداء، إنَّ الاهتداء هو الطور الأخير للتوبة النصوح!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين