روح الإسلام والمذاهب الفلسفيَّة

 

(وإذا كانت هذه الشرائع حقاً وداعية إلى النظر المؤدِّي إلى معرفة الحق، فإنَّا معشر المسلمين نعلم على القطع أنَّه لا يؤدى النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنَّ الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له) (الفيلسوف ابن يشاء).

(وليس في المعارف الحقَّة الصحيحة المستقرَّة شيء يمكن أن يُناقض أصول الدين ويهدمها) (الأستاذ المراغي).

***

بلغ الفكر الإنساني طوراً سامياً من أطواره في الكشف عن حقائق الوجود، ولا ندَّعي أنَّه مُنتهى شوطه، بل لا يمكن لإنسان أن يَزعم أنَّ النشاط الفكري نهاية؛ لأنَّ النهاية إنَّما تكون للمحدود، ومجال الفكر لا يَعرف التحديد. 

وقد كانت هذه الحقيقة قبل الإسلام سبباً في النُّفْرة بين الدين والفِكْر، وأحرى أن يُقال: بين المتدينين والمفكرين؛ لأنَّ الدين نبَّه على حقائق، وندب القلوب إلى اعتقادها، فاستعصى سبر غورها على العقول، وأبى الفكر الحرُّ أن يقف أمامها ساهماً واجماً، فمشى إليها في ثقة قوية ليكشف عنها، فانتهض المتدينون للذود عن مقامه، بحجَّة أنَّ الدين من وحي الله تعالى، فهو سرٌّ من أسرارِ الله سبحانه ليس للفكر فيه مجال، فنجم حينئذ ذلك التدافع الدامي في تاريخ الإنسانيَّة.

فلما جاء الإسلام قرَّر في أولى حقائقه أنَّه إذا كان الدين من وحي الله تعالى فالفكر من فَيْضِ الله سبحانه، وبهذا وضع الإسلام قاعدةَ التآخي بين الفكر والدين، فتصافحا في ظِلِّه، وأخذا في سبيل هداية الإنسانيَّة مُتعاونين على قيادة الوجود إلى سعادة الخلود.

ومن ثَمَّ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون الدين بفطرة نقيَّة، وفكر مُهذَّب، فلم تَعُوقهم عقباتُ الجدل الأجوف عن العمل الصادق في نشر الدين في أقطار الأرض، ففتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، ولكن هذه الفطرة أصابتها الحياة بالصدأ بعد إذ بَعُدَ العهدُ بنور الوحي، فاحتاجت في أخذها الدين وفهم حقائقه إلى أداةٍ من البحث، وكانت علوم الأوائل قد وَصلت إلى أيدى المسلمين، فلم يحجموا عن النظر فيها والاستعانة بها؛ لأنَّهم وجدوا من الإسلام ديناً آخى بين الفكر والدين، وهذه المؤاخاة هي روح الإسلام الخالدة.

وإذا كانت الفلسفةُ آيةً من آيات الفكر الإنساني، فهي من صميم الإسلام؛ لأنَّ الفلسفة ليست شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، وتعرُّف صلتها بالخالق، وإبراز خصائصها. وهذا المعنى هو الحكمة في لسان العرب، والحكمة جعلها الله تعالى من أعظم مِنَنه على أخصاء عباده فقال تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] {البقرة:269}.

تناول مُفكرو المسلمين علوم الغابرين ومذاهبهم الفلسفية بالنظر، وخاضوا خِضَمَّها، ودرسوا مذاهبها في الإلهيات والطبيعيات، والفلكيات، وعلوم النبات والحيوان بعقول راجحة، لا تردُّ الحق، ولا تقبل الباطل، قال الفيلسوف ابن رشد: وينبغي لنا أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم (الأوائل) فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه).

نعم لم يسلم فلاسفة الإسلام من النقد والتحامل في فترة قصيرة من الزمن، فشنَّ بعضهم الغارة على أمراء الفكر، وقادة الرأي، ورمَوهم بالزندقة، ولكن ما لبثت هذه السحب أن تقشَّعت، فخلَّف المفكرون لنا ثروة علميَّة، وذخيرة أدبيَّة يدوم لنا فخرها مادام أمر الفكر الإنساني نافذاً في الوجود.

عرضوا لأدقِّ النظريَّات الفلسفيَّة فبحثوها، وأثبتوا لهم فيها رأياً قوياً تكنفه الحجَّة الصادقة، ويحوطه البرهان البيِّن. فابن سينا لم يترك نظريَّةً إلا درسها وكتب فيها محققاً ناقداً، والفارابي لُقِّبَ لعظمته في البحث بالمعلم الثاني، و ابن رشد قالوا عنه: إنَّ كتب أرسطو ما كانت لتصلَ إلى أيدى الناس لولاه، وأبو حامد الغزالي الملقَّب بحجة الإسلام سبق (ديكارت) بتقرير نظريَّة الشك عند البحث حتى لا يسيطر التقليدُ على الذهن، فقال في كتاب (ميزان العمل): (ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى بذلك نفعاً، فإنَّ من لم يشكَّ لم ينظرْ، ومن لم ينظرْ لم يُبصرْ، ومن لم يبصر بَقِيَ في العَمَى والحَيْرة». 

هذا حال علماء الإسلام الأقدمين في فَهْم روح الإسلام، وإقبالهم على دراسة المذاهب الفلسفيَّة على اختلاف اتجاهاتها، وبلوغهم فيها درجة جعلتهم أعلام الدنيا، فما شأننا نحن؟ وكيف فهمنا روح الإسلام؟ وما موقفنا من دراسة ما جدَّ في الحياة من مَذَاهب فلسفيَّة قامت عليها حضارة العالم؟ وكم في عداد المسلمين الآن من فيلسوف؟.

بل كم فيهم من مُطَّلع على الفلسفة اطلاع الفكر الحرِّ؟ إنَّ الجواب على ذلك مؤلم مؤسف، ولكن علينا أن نجابه الحقيقة العريانة لنفهم أنفسنا، ونفهم مكاننا الصحيح من ديننا وتاريخنا، فذلك أجدى علينا من المراوغة والمداورة. 

منذ خمدت الحركة الفلسفيَّة الإسلاميَّة في الأندلس، وانتقلت إلى أوروبا، سارت مُتراسمة خطواتنا حيناً من الدهر، ثم ارتقت فابتكرت مَذاهب جديدة صمدت بها إلى ذروة المجد، وبقينا نحن مُتخلِّفين، بل بقينا مُنكرين ساخطين، فتأخَّر تفكيرنا وجمدت قرائحنا وأصابنا العُقم، فما ننتج شيئاً فيه ريحنا، وعليه طابع ديننا. 

جدَّت مذاهب في بعضها هداية نحن أحقُّ بالسبق إليها، وفي بعضها إلحاد وزيغ نحن أحق بفهمها لننقدها ونزيف باطلها، وجدَّت مذاهب في الطبيعة استخدمت بها أوروبا مرافق الوجود في السماء والأرض. 

من الذي درس من المسلمين مذهب (دارون) في النشوء والارتقاء وطابق بينه وبين ما يقوله القرآن الكريم في أصل الإنسان؟ ومن الذي بحث نظرية الجاذبية التي كشفها (نيوتن) وعرف صلتها بقول الله تعالى: [إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا] {فاطر:41}، والله جلَّ شأنه لا يمسك السماء والأرض كما يتصوَّر الجاهلون، وإنَّما يمسكهما بناموس الارتباط العامِّ بين ذرَّات العالم أجمع؟ 

ومن الذي درس من علماء الإسلام مذهب استحضار الأرواح وعرف صدقه من كذبه، وقد ملأ دويُّه الدنيا، وقلب كثيراً من الحقائق كان يَدين بها الماديون. 

ومن الذي درس مذهب (ديكارت) وعرف فرق ما بينه وبين مذهب الغزالي؟ ومن الذي درس نظرية النسبيَّة التي وضعها (انشتاين) وعرف قيمتها؟.

أنا لا أنكر أفراداً من أذكياء المسلمين مُنتشرين هنا وهناك وجَّهوا أفكارهم هذا الاتجاه الصالح، فدرسوا واطَّلعوا، ولكنهم قليلون، وهم مع قلتهم لم يبلغوا أن تكون لهم آراء تقوم إلى جانب آراء فلاسفة الغرب كما كان لأسلافنا من الاستقلال الفكري، ونحن نريد أن نقف من الحياة موقف المتفرِّج، ولا موقف المقلد؛ لأنَّ ديننا وتاريخنا يأبيان علينا ذلك الجمـود، ويحثاننا على النظر والدرس: [أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ] {الأعراف:185}.

إنَّ الأزهر، وهو أعظم معاهد الإسلام يجب عليه أن يمدَّ يده إلى هذه المذاهب الحديثة ويدرسها ليخرج فيها فلاسفة يَقُودون الأمَّة إلى مراقي الفلاح، وإنَّه لا فلاح لأمَّة جامدة التفكير. 

يقول الفيلسوف ابن رشد: (يجب علينا إن لقينا لمن تقدَّمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجودات، واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها مُوافقاً للحقِّ قبلناه منهم وسُرِرْنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير مُوافق للحق نبَّهنا عليه وحذَّرنا منه وعذرناهم). 

بهذا النحو من التفكير تقدَّم ابن رشد على الناس: [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ] {فصِّلت:53}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد السادس، محرم 1354 - الجزء 6 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين