سؤال الخلق ذل

سؤال الخلق ذل

محمد محمد الأسطل

 

تأمل ابن القيم ذخيرة أسرار المسألة، وفي لحظات صفاء جادت قريحته بكلم نادر ذهبي ثمين، وهاك هو:        

اعلم أخا الإسلام أن مسألة الناس في أَصْلِهَا حَرامٌ، وإنما أُبِيحت لِحَاجةِ الأنام؛ ذلك أنها ظُلمٌ في حَقِّ الربوبية، وظلمٌ في حَقِّ السائل، وَظُلْمٌ في حَقِّ المسؤول ! وإليك البيان:

 

أولًا: ظُلمٌ في حق الربوبية:         

ذلك أن سؤال العبد لغيره ذُلٌّ، وافتقاره لغير الله فيهِ نوعُ عبودية، ومعلومٌ أن العبودية لا تكون إلا لله، فلما وَضَعَ السائل مسألته في غير موضعها، وأنزلها بِغَير أهلها؛ ظَلَمَ توحيده، وإخلاصَه، وفقرَه إلى الله، وتوكلَّه عليه، ورضاه بقسمه، بل إنه استغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، ولا يَخفَى على لبيب أن كل هذا مما يَهضِمُ حقَّ التوحيدِ في قلبه، ويُطفِئُ نوره، ويُضعف قوته !

 

ثانيًا: ظلم للسائل نفسه:

ذلك أن السائل أراقَ ماء وجهه، وَذَلَّهُ لِغَيرِ خَالقِه، وأَنزلَ نفسَهُ أدنى المنزلتين، وَرَضِيَ لهَا أَبخَسَ الحَالين، فذهب عِزُّه وشرفُه، وباعَ صبره ورضاه وتوكله وقناعته، فَصَغَّرَ نفسَه وَحَقَّرَهَا، وجعلها تحت نَفسِ المسئول، ويده تحت يده، وفي هذا مَذلَّة ونوع عبودية حقًا ! ولولا الضرورة لم يُبح ذلك في الشرع! ولذا أجاز الفقهاء للمسلم الصلاة عاريًا إن كان في استعارته ثوب أحد مِنَّةٌ عليه، بل قال أبو حنيفة: إن المسافر لا يسأل رفيقه الماء، ولو تيمم قبل الطلب أجزأه؛ ذلك أن السؤال ذل، وربما لا يعطيه ! انظر: شرح أبي داود للعيني (6/393).

كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول في دعائه: اللهم كما صُنتَ وَجهي عن السجود لغيرك؛ فَصُنْهُ عن المَسألةِ لِغَيرك! [ابن القيم / حادي الأرواح ص (63)]

 

ثالثًا: ظلمٌ للمسؤول:

ذلك أن العبد سأله ما ليس له عنده، فأوجب له بسؤاله حقًا عليه لم يكن له عليه، وَعَرَّضَهُ لِمَشقةِ البَذلِ، أو لَومِ المنع، فَيُعطيه على كراهة، ويَمنَعُهُ على استحياء، اللهم إلا إن سَأَلَهُ حقًا ثابتًا له، فليس هذا من الظلم في شيء! [ابن القيم / مدارج السالكين (2/232)]

 

الاستغناء نوعان: متعذر، وممكن !

أما المُتَعذِّر؛ كَتَحَصُّلِكَ على رغيف الخبز، فإن ثمةَ من ابتاع الأرض، وهذبها، وسقاها، وزرع البذرة فيها، وعَنِيَ بها، وحصدها، ونقلَها، وطَحَنَهَا، وعجنَهَا، وخبزَهَا، فيتعذر الاستغناء عن كل من سخره الله لك !

 أما الشاق الممكن؛ كألَّا تلتمس المعونة من أحد، ولا تستدين، ولا تشكو أمرك، وتلجأ لربك فقط في مُصَابِكَ، فهذا عِزٌ بَاهِر، وفضلٌ زَاخِر، وإلا وَكَلَكَ الله لمن توجهت له! ودليل ذلك ما أخرجه الحاكم في مستدركه بسند حسن من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ". الحاكم / المستدرك على الصحيحين (4/326).

مَسَّ الحَزَنُ يعقوبَ فلم يفزع إلا لله وهتف قائلًا: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقد قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، فَصَيَّرهَا نصيحةً أهداها لابن عباس م بقوله: "إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ"، ولأبي ذر رضي الله عنه "لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا" ! [الترغيب والترهيب للمنذري].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين