أسئلة بيانية (38) سر الترتيب في ذكر الأنبياء عليهم السلام

قال تعالى في سورة الأنعام:﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 83-86].

سؤال:

ما سرّ ترتيب الأنبياء في هذه الآيات؟

الجواب:

ربنا أعلم بسر ترتيب كلامه ولكن هناك أكثر من ظاهرة في ترتيب هؤلاء الأنبياء سلام الله عليهم، فنحن نلاحظ نسقاً منتظماً في هذا الترتيب وهو أنه يذكر ثلاثة أنبياء ثم يعود إلى مَن هو أقدم من المذكورين.

ثم يذكر ثلاثة أنبياء آخرين ويعود بعدهم إلى مَن هو أقدم، وهذا هو الأمر الظاهر في هذا الترتيب.

1 فقد ذكر إبراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام، ثم ذكر بعدهم مَن هو أقدم منهم جميعاً، وهو نوح عليه السلام.

2 ثم ذكر بعد ذلك: داود وسليمان وأيوب عليهم السلام، ثم ذكر بعدهم مَن هم أقدم منهم وهم: يوسف وموسى وهارون عليهم السلام.

3 ثم ذكر بعد ذلك: زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ثم ذكر بعدهم: إلياس عليه السلام وهو أقدم منهم.

4 ثم ذكر إسماعيل واليسع ويونس عليهم السلام، ثم ذكر بعدهم: لوطاً عليه السلام وهو أقدم منهم.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أن هناك علاقة ما تربط بين المذكورين إضافة إلى علاقة النبوة التي تجمع بين الجميع، وإيضاح ذلك:

1 أن إبراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام تربط بينهم علاقة البنوة فإسحاق ابن إبراهيم، ويعقوب ابن إسحاق.

2 وأن داود وسليمان تربط بينهما علاقة البنوة والملك، فسليمان ابن داود وكانا ملكين.

3 وأن سليمان وأيوب كلاهما قال الله تعالى فيه: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30، 44] أولهما الغني الشاكر وهو سليمان عليه السلام، وثانيهما: الفقير الصابر، وهو أيوب عليه السلام، والشكر والصبر جِماع الايمان كما قيل. فإن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وقد جمع بينهما في سورة ص.

4 أيوب ويوسف عليهم السلام: كلاهما أنعم عليه بعد الابتلاء وأصابه الرخاء بعد الشدة.

5 يوسف وموسى عليهم السلام: كلاهما رسول ولم يذكر القرآن بينهما اسم رسول فيما أعلم. وقد قال موسى:﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر: 34].

6 موسى وهارون عليهم السلام يجمع بينهما الأخوة والرسالة.

7 زكريا ويحيى عليهم السلام: يجمع بينهما البنوة فيحيى ابن زكريا.

8 يحيى وعيسى عليهم السلام: كلاهما مستغرب الولادة.

الأول: من أبوين لا ينجبان أحدهما شيخ فان، والآخر أم عاقر، وعيسى من أم بلا أب.

9 أن عيسى عليه السلام خاتمة النسب من ولد إسحاق إذ ليس له أب، والمذكورون بعد عيسى سلسلة أخرى ومن ذرية أخرى ليست من ذرية إسحاق، فكان عيسى عليه السلام الحد الفاصل بين السلسلتين.

10 فقد ذكر أن إلياس عليه السلام من ولد إسماعيل وليس من ذرية إسحاق.

11 وإسماعيل عليه السلام أخو إسحاق وهو ابن إبراهيم من هاجر، عليهم السلام.

12- اليسع صاحب إلياس عليهم السلام وحيث ورد ذكر اليسع في القرآن يسبقه بذكر إسماعيل.

13 يونس ولوط عليهم السلام كلاهما ليس من ذرية إبراهيم، وكلاهما خرج يحمل همَّ الدعوة إلى الله تعالى.

فإن يونس خرج مُغاضباً قومه، وظنَّ أن لن يضيق الله عليه فخرج يحمل همَّ الدعوة إلى الله تعالى.

وإن لوطاً خرج مهاجراً إلى ربه كما قال تعالى في:﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [العنكبوت: 26].

وجميع بينهما في سورة الصافات.

فبدأت زمر الأنبياء بالذاهب إلى ربه وهو سيدنا إبراهيم، ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، وخُتمت بالمهاجر إلى ربه سيدنا لوط عليه السلام.

قد تقول: لِمَ بدأ بسيدنا إبراهيم ولم يبدأ بسيدنا نوح عليه السلام؟

الجواب:

إن الكلام والسياق في سيدنا إبراهيم فإن الآيات تبدأ بقوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً... * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ....* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا.... * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي.... * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ [الأنعام: 74-78].

ويستمر الكلام على سيدنا إبراهيم من الآية 74 إلى الآية 83 فكان ذلك هو المناسب.

وقد أُثير سؤال آخر في هذا السياق، وهو أنه قال تعالى:﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ [الأنعام: 87]، فَلِمَ لَم يقل: (وأزواجهم)؟

والجواب:

إن السياق في ذكر الأنبياء، والنساء لسن كذلك فلا يناسب ذكر الأزواج.

***

في الآيات السابقة وهي قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 83-86].

سؤال:

لماذا ختم الآيات بما ختم فقال في مجموعة من الأنبياء: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: 84]، وقال في قسم آخر: ﴿كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنعام: 85]، وقال في الآخرين: ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 86].

الجواب:

إن خاتمة كل آية مناسبة لمن ذكر فيها من الأنبياء، وإن كانت كل فاصلة تصح على جميع الأنبياء.

فقوله تعالى:﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: 84]، ذكر فيه إسحاق ويعقوب عليهم السلام، وقد أنعم الله عليهما بالهداية، فقال: ﴿كُلًّا هَدَيْنَا﴾ ويعقوب أنعم الله عليه بلقب (إسرائيل) وقيل معناه في لسانهم صفوة الله تعالى، وقيل: عبد الله، وقيل: رجل الله، وقيل غير ذلك [انظر الكشاف (1/212)، البحر المحيط (1/173)، روح المعاني (1/241)].

وأنعم عليه بعد فقد ولده بأنه أعاد إليه ولده وجعله عزيز مصر، ورفعه ابنه على العرش، وجعل أولاده أنبياء وهم الأسباط، وذريته من بعده ينتسبون إليه اعتزازاً به فيقال: (بنو إسرائيل).

وداود عليه السلام صار قائداً وصار ملكاً، وسليمان عليه السلام ملك وهب الله له مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأيوب عليه السلام أغناه الله تعالى بعد ابتلاء وآتاه أهله ومثلهم معهم وآتاه مالاً وفيراً، وموسى وهارون أكرمهما الله بالرسالة والآيات العظيمة، والنصر على فرعون الذي أغرقه الله تعالى وجنوده في اليم في آية عظيمة من آيات الله سبحانه.

فكلاًّ جزاه بإحسانه عن فناسب ذلك قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

وأما قوله:﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، فإن زكريا عليه السلام قتل بعد قتل ولده، ويحيى قتل، وعيسى أُريد قتله فرفعه الله تعالى إليه، فلا يناسب ذلك أن يقول فيهم ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، لأن معناه أنه يجازي المحسنين بالقتل والخوف ومحاولة القتل!.

وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوط عليهم السلام فقد أكرمهم الله تعالى بالرسالة والتفضيل على عالمي زمانهم، ولم يعطهم ما أعطى الأولين من الملك ونحوه.

ولم يصبهم ما أصاب مَن ذكرهم بعد الأولين من القتل والخوف، فذكر أنه فضلهم على العالمين، وهو أعلى وسام.

  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين