سورة الفلق

 

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ(4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5). { الفلق.

من محاسن ترتيب سور القرآن بهذا الترتيب الذي نقرأ به، أنَّ أول سورة وهي فاتحة الكتاب، فيها إرشاد المسلم إلى أن يسأل ربَّه أن يهديَه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وآخر سورة وهما المعوذتان فيهما إرشاد المسلم إلى أن يتعوَّذ بربِّه من شر ما خلق، ومن شر الوسواس الخناس.

وفي هذا إرشاد المسلم إلى أن يطلبَ من ربه هدايته، ويطلب منه وقايته وحمايته من الشرور والوساوس التي قد تزيغه وتضله وبهذا يظل في نعمة الهداية، ويأمن سبل الغواية، وشر ما يُبتلى به المؤمن أن يزيغ بعد أن اهتدى، وأن يتخبَّط في الظلمات بعد أن استضاء بالنور: [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:8}.

وسورة الفلق سورة مكية، وعدد آياتها خمس، وفي الآيتين الأولى والثانية منها أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وكل فرد من أمته أن يتعوَّذ ويتحصَّن بربِّ الفلق، من شرِّ ما خلق، وفي الآيات الثلاث التالية خصَّ اللهُ تعالى بالذكر ثلاثة أنواع مما خلق جديرة بأن تخصَّ بالتعوُّذ منها، لكثرة شَرِّها، وعجز الإنسان في الغالب عن اتقاء ضررها.

[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ] {الفلق:1} 

أعوذ: أي أتحصَّن وأحتمي، ومثلها أتعوَّذ وأستعيذ، والفلق هو الصبح، وسمي الصبح بالفلق لأنه يفلق أي: يشق ظلام الليل، ورب الفلق أي: مُدبِّره ومسيِّره على نظام واحد ثابت مُتَّسق [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ] {يس:40}.

أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرُه لرسوله أمر لكل مسلم أن يتعوَّذ برب الفلق، أي: يحتمي ويتحصَّن برب هذه الآية الكونيَّة العجيبة، وهي آية الصبح الذي يشقُّ ظلام الليل، ويحوِّل الكون من ظلام دامس إلى نُور ساطع، وربُّ هذه الآية العجيبة قادر على أن يحميَ المستعيذ به من كل شر، وحقيق بأن يُستعاذ به وحدَه، ولا يستعاذ بأحد سواه.

[مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ

كل ما خلقه الله تعالى من حيوان ونبات وجماد في الأرض وفي السماء، وفي الماء وفي الهواء، فيه خير وفيه شر، أي: فيه منافع ومصالح، وفيه مضارُّ ومفاسد، والأصل الخير، والشر عارض يَعْرِض، بسبب ما يحيطُ بالكائن من مُلابسات ومُؤثِّرات، والكائن الواحد قد يكون في الوقت الواحد خيراً لبعض الأفراد، وشراً لبعضهم.

فالله سبحانه أمر رسوله وكل مسلم أن يتعوَّذ ويحتمي به من الشرور التي تصدر عما خلق، فتصيب من نالته بأنواع الأذى والضرر، ومن وقاه الله وحصَّنه من شر خلقه، يتمتع بما في خلق الله من خير، ويوقى ما فيهم من شر، ونظرة في خلق الله تعالى تري الإنسان أنَّ كل كائن فيه خير وفيه شر. 

هذا الماء هو حياة كل كائن حي، ولكنه قد يطغى فيغرق ويهلك الحرث والنسل.

وهذه الشمس مضيئة الكون ومنظمة الزرع ومصلحة كل شيء قد تضرب الرؤوس وتحرق الزروع والثمار.

وهذا الإنسان مصدر التفكير والتدبير، والاستكشافات والاختراعات بعقله وحواسه، قد تتغلب عليه أنانيَّته وحرصه، فيبغي ويظلم، ويشعل الحروب ويسفك الدماء، ويفسد في الأرض.

وذكر الفلق في هذا المقام مناسبته واضحة؛ لأنَّ الفلق هو الصبح، والصبح أول النهار، وفي النهار تنشط الخلائق، ويتصلُ الناس بعضهم ببعض، ويتعاملون ويَتَنافسون ويَتَخَاصمون، وعن هذه تتولَّد الشرور، فالمسلم يَستعيذ من شرِّ الخلق برب الوقت، الذي تكون فيه حركتهم ومصدر شرهم.

[وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ

الغسق هو الظلام في أول الليل، قال تعالى: [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ] {الإسراء:78}. والغاسق هو الليل المظلم، ووقب أي: دخل واشتدَّ ظلامه، والمراد: ومن شرِّ ليل مُظلم إذا اشتدَّ ظلامه.

وهذا أول الأنواع الثلاثة التي خصَّها الله بالذكر، وهي داخلة في عموم ما خلق في قوله تعالى: [مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] {الفلق:2}، وشرور الظلام والليل المظلم لا تخفى على أحد، وخاصَّة سكان الصحاري والقرى، ففي الظلام لا يَهتدي السائرُ إلى طريقه، وفي الظلام تدبُّ الهوام لامتصاص دم الإنسان، وكم اغتنمت اللصوص فرصة الظلام للسرقة، وكم رُوع الإنسان في الظلام من أعدائه وخصومه، وكم أحدث الظلام في النفس وحشة، وفي الصدر انقباضاً. 

والمثل السائر: الليل مجمع الويل، من أجل هذا كان الليل المظلم إذا اشتدَّ ظلامُه جديراً بأن يخصَّ بالاستعاذة بالله من شره، لأنَّه سبحانه هو القادر على دفع شروره عن الإنسان.

والإنسان في الغالب يكون في ظلام الليل نائماً غير مُستعدٍّ للدفاع عن نفسه، وفي أشدِّ الحاجة إلى أن يحميه الله تعالى ويُعيذه من الشر، وقديماً كانت بعض الفِرَق تدين بأنَّ الظلام هو إله الشر.

[وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ] {الفلق:4}

النَّفْثُ في العُقَد: النفخ الخفيف فيها أو مع شيء من الريق، والنفاثات صفة للنفوس، سواء أكانت من الرجال أو النساء، أي: ومن شرِّ النفوس التي تنفث في العقد لتفكَّ روابط الناس. والله سبحانه أرشد المسلم إلى أن يَستعيذ به من شر من ينفثون فيما بين الناس من روابط ليقطعوها، وهذان فريقان:

أحدهما: المشتغلون بالسحر والشعوذة والدجل، فهؤلاء السحرة المشعوذون الدجالون أكثر جهودهم تتجه إلى الضرر والأذى، فيتوسَّلون بوسائلهم الخفيَّة على التفريق بين المرء وزوجه، وإلى التأثير في أعصاب بعض الناس، وإلى المنع من الخير: [وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ] {البقرة:102}، وشرورهم خفيَّة، ووسائلها خفيَّة، فما أحوج الإنسان إلى أن يعيذه الله تعالى منها ويكفيه شرهم.

وثانيهما: النمَّامون المشَّاءون بين الناس بافتراء الأقاويل، ونقل الأباطيل، لتغيير القلوب، وقطع الروابط، وتحويل الصديقين إلى عدوين، وأولي الأرحام أخصاماً.

والنمَّام يذكر عنك لصاحبك في غفلتك ما لا علم لك به، ويذكر لصاحبه عنك كذلك ويموه ويروج بوسائل تشبه الشعوذة فما أحوج الإنسان على أن يعيذه الله تعالى من شره.

ومن هنا يتبين أنَّ النميمة والسحر كل منهما يؤدي إلى قطع الروابط، وإيقاع الأذى والشرر بوسائل خفيَّة، وكل منهما يستخدم فيه التمويه والدجل، وكل يحاول حلَّ عُقْدة المحبَّة بين الناس، ولهذا عبَّر الله تعالى عن نفوسهم بأنها نفوس نفاثات في العقد.

والعقدة إذا كانت محكماً عقدها وأريد حلها ينفخ فيها النفخ الخفيف مع شيء من الريق لتلين ويسهل حلُّها، فالله سبحانه كنَّى عن السحرة والنمَّامين بأنَّهم نفَّاثون في العقد لحلها وفكها، والسحرة يفعلون ذلك غالباً للإيهام والتأثير، والنمَّامون على التشبيه بهم.

قال الأستاذ الإمام محمد عبده عليه رحمة الله تعالى: (وقد رَوَوا ههنا أحاديث في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سحره لَبيد ابنُ الأعصم، وأثَّر سحره فيه حتى كان يخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً وهو لا يأتيه، وأنَّ الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي مما كان نزل به ونزلت سورة الفلق.

وقال: إنَّ إثبات السحر بهذا الوصف ماس بالعقل، آخذ بالروح، يصدق قول المشركين فيه: [إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا] {الإسراء:47}، ولا ينبغي أن يُترك ما يدلُّ عليه القرآن القطعي من أنَّه ليس مسحوراً، إلى ما جاء به حديث آحاد ظني لا يتفق وما تقتضيه عصمة الأنبياء، ولا يتفق وما تقتضيه سُنن الله تعالى في الكون من أنَّ النفوس الطاهرة والعالية لا تؤثر فيها النفوس الخبيثة السافلة (1).

[وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ

الحاسد: هو من يتمنَّى زوال النعمة عن غيره، والغامط هو من يتمنى لنفسه من النعم مثل ما لغيره، والحسد رذيلة ممقوتة، والغبطة فضيلة محمودة.

وهذا ثالث الأنواع التي خصَّها الله سبحانه بالذكر مع دخولها في عموم: [مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] {الفلق:2}؛ لأنَّ الحاسد شرُّه مُسْتطير، ووسائله خُبث نفسه، وموت ضميره، وإفراطه في كُرْه الخير للناس، فما أحوج الإنسان إلى أن يُعيذه الله تعالى من شَرِّه.

شر الحاسد شران: شر لنفسه، وشر لمن يحسده، فأما شره لنفسه، فهو أن حسده ينمُّ عن عدم رضاه بما قسم الله تعالى وبما قدَّر، فهو يتمنَّى أن تزول النعمة عمن أنعم الله عليه، وحسده ينغِّص عيشَه، لأنَّه دائماً ساخط على كل ذي نعمة، مُتمنٍّ زوالها، وهذا يملأ قلبه غيظاً وحقداً، وينكِّد عيشه، وحسده يأكل حسناتِه، ويحبطُ ثواب أعماله، وقد جاء في الحديث: (إنَّ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). 

وأما شر الحاسد لمن يحسده، فللعلماء في بيانه مذهبان: 

أحدهما: أنَّ شر الحاسد لمن يحسده هو ما يُدبِّره له من المكايد، وما يُصيبه به من الأذى، وما يتقوَّله عليه من الأقاويل التي يقصد بها تغيير قلوبِ الناس منه وحرمانه من معونتهم وحدهم، فيؤدي هذا إلى زوال النعمة عنه، فشر الحاسد هو أفعاله وأقواله التي تلحق الأذى والضرر بمن يحسده.

وثانيهما: أنَّ شر الحاسد هو أثر نفسه الخبيثة فيمن يحسده، فالحاسد لخبث نفسه وقوة شره ينفُثُ سموماً تصيب المحسود فتؤذيه في بدنه، أو في ماله، أو في أي شيء يعزُّ عليه، وكما أنَّ النفوس الطاهرة الخيِّرة تؤثر في غيرها، وأثرها هدى وخير، فالنفوس الخبيثة الشريرة تؤثر في غيرها وأثرها أذى وضرر.

والمشاهدات من وقائع الناس وتجاربهم تؤيد أنَّ شر الحاسد لمن يحسده هو من الناحيتين، فهو مؤذيه بأفعاله وأقواله، وهو يتسلَّط عليه بنفسه الخبيثة الشرِّيرة، وينفث فيه سُمَّه، فما تقع عليه عينه يُصاب، وما تَلمسه يده يُصاب، وهذا شر جدير بأن يُتحصَّن منه بالله تعالى، ولا دافع له إلا الله سبحانه.

وإنما قال سبحانه: [إِذَا حَسَدَ] للإشارة إلى أنَّ هذا الخلق الذميم، وهو خلق الحسد، إنما تتولَّد عنه شروره إذا أطاع الحاسد داعي الشر، وأخذ في العمل على الإيذاء، ونفَّذ ما يقتضيه حسده، وأما إذا جاهد الحاسدُ نفسَه، وكفَّها عن تنفيذ ما يَقْتضيه الحسد من ضرر وأذى، فحسده لا شر له، وربما أدَّى الجهاد والكفاح إلى شفاء النفس منه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع، المجلد التاسع، ذي الحجة 1374 أغسطس 1955 ).

 

(1) الأحاديث التي ذُكر فيها سحر النبي صلى الله عليه وسلم اتفق على إخراجها البخاري ومسلم، ورواها غيرهما من أصحاب كتب الحديث كالإمام أحمد وابن ماجه وغيرهم،

روى البخاري و مسلم واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - وهو عندي ، لكنه دعا ودعا ، ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليَّ ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب ، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلع نخلة ذكر ، قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه ، فجاء فقال : يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء ، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين ، قلت : يا رسول الله ، أفلا استخرجته ؟ فقال : قد عافاني الله ، فكرهت أن أثوِّر على الناس فيه شراً ، فأمر بها فدفنت " .

وقد نقل ابن حجر (في فتح الباري) عن المازري قوله: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء قال المازري وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين