سورة لقمان ـ 7ـ

 

 

[وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلى ثُمَّ إلى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّمَاوَاتِ أَوفِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16} 

قد ابتداء جل جلاله الوصايا التي أوصى بها لقمان ابنه بالنهي عن الشرك بالله، وبيان أن‏ الشرك ظلم عظيم. ولقمان هو الذي آتاه الله الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. ولا يخفي مقدار التنويه العظيم بشأن هذه الوصية المستفاد من بيان أن آتاه الله الحكمة،  وبيان أن الوصية صادرة منه لابنه، والابن أعز المخلوقات على الأب، فالوصية له أثمن وأغلي‏ ما يملكه ويبذله المرء، إذ كانت بذلا لأعز الخلق عليه. وبين أن هذه الوصية صدرت منه‏ وهو يعظه، وفي هذا تنويه جديد بشأنها، فقد يوصي المرء شخصا في أثناء حديث للتفكهه أو المداعبة أو السمر، فلا يكون لها من جمع الذهن واختيار الأهم ما يكون لها وقد سيقت‏ في مقام الوعظ والإرشاد. 

ثم أردف حق الله عليه، وهو ألا يشرك به شيئا، حق أبويه، إذ كانا الطريق الذي برز منه للوجود، وكانا أعظم من تولي تنشئته وتربيته، يقاسيان في ذلك أمر الصعوبات، ولاسيما أمه حملته وهنا على وهن، وغدته من دمها، فلم يتم فصاله إلا بعد عامين، وفي هذا من تأكيد حقهما عليه ما لا يخفي، وقد سبق تفسيره ثم استطرد من حقهما راجعا إلى الحق الذي بدأ به، وهو التحاشي عن الشرك مهما قويت‏ دواعيه والداعي إليه، فقال [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ...] {لقمان:15}. فكأن الآية هكذا:  هذا حق أبويك عليك يؤكده ربك، ويشرح لك ما قاسياه في سبيل تربيتك، وما بذلا من‏ راحة وضحيا من صحة في سبيل هناءتك، ولا سيما أمك، ومع ذلك فإذا بذل كلاهما الجهد ليحملاك على الشرك، وطال الجهاد بينك وبينهما في ذلك، فلا تطعهما، إلا أن ذلك لا يمنعك‏ أن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف، وأن تكرمهما ما استطعت، على ألا تخل بحق ربك عليك.  أما هذا الحق المقدس فاتَّبع فيه سبيل من أناب إليَّ، ثم بعد ذلك سترجعون جميعاً إليَّ أنت‏ ووالداك ومن أناب إليَّ ومن زاغ عن سبيلي فستنبئون جميعا بما عملتم، يوم لا تغني نفس عن نفس‏ شيئا، بل من يعمل مثقال ذرة خير يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. 

والجهاد في الأصل بذل كل من المتلاقيين جهده في سبيل تحويل من يقابله عما هو عليه‏ إلى رأيه وموافقته. ولما كان في المقاتلة في سبيل الدين بذل أقصى الجهد في سبيل تحقيق‏ أنفس الأغراض وأنبلها وهو الدين الذي هو أساس كل سعادة، غلب لفظ الجهاد على التقال‏ في سبيل الدين وإعلاء كلمة الله. ولما كان الغرض من الجهاد هو الحمل على أمر خاص ليحققه‏ عدى بعلى كما يعدى(حمل)بعلى، فقال: [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي...] {لقمان:15} .

ولعلك تلمح في التعبير بتشرك الإشارة إلى ما فطرت عليه النفوس من الإذعان إلى القوة القاهرة، قوة مالك الملك، قدرة خالق الخلق، التي أشار إليها عز وجل في قوله:  [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ] {الزُّخرف:87}  

فكأن الآية تدلنا على أن الاعتراف بالخالق القادر على كل شي‏ء سبحانه لا تقوي نفس على إنكاره،  وكل ما تتورط فيه النفوس الجاهلة هو الاغترار ببعض المظاهر الكاذبة، فيقصر نظرها عن‏ إدراك مكونها وخالقها، فتنسب إليها بعض ما أجراه الله عن طريقها، أو ما توهمته صادراً عنها،  فتشركها مع الله في حقوق العبادة والتعظيم، وتطلب منها ما لا يقدر عليه إلا القوي العزيز،  فقد تستنصر بما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وقد تطلب العون ممن ليس له من الأمر شي‏ء. 

وقوله [ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...] {لقمان:15}  عبَّر فيه بما التي هي لما لا يعقل: إمَّا تهوينا لأمرها وإظهاراً إلى أنها في هذا الباب سواء أعقلت أم لم تعقل هي بمثابة من لا عقل له، وإن كان في بعض‏ المعبودات من يعقل كالملائكة وأفراد من الأناسي، وإما لأن القصد فيه إلى الوصف، أي أن‏ هذه المعبودات لم ينظر إلى أنواعها أمن العقلاء أم من غيرهم؟وإنما القصد إلى أنها تجتمع في‏ وصف شامل لها جميعا، وهي أنها لم ينبئ عنها علم، ولم تتكشف بها معرفة. 

وقوله [فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ] {لقمان:15}  ترتب‏ في الإرشاد في منتهي الحكمة والسداد، فقد أمره أولا بتخليص نفسه من إغوائهما، ثم حذره من أن يطغى في مخالفته لهما إلى حد اهانتهما أو إيذائهما أو الإضرار بهما إذا لم تكن المخالفة مقتضية لذلك حتماً، ثم أرشده إلى السبيل الذي يتبعه بعد أن خلصه من السبيل الذي يتجنبه. 

وبعد أن استوفى هذا البيان وجه نظره إلى ما ينتظره، وهو هذا الموقف الخطير، موقفهم‏ بين يدي ربهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فقال:  ‏ [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {لقمان:15} وكأن في إنبائهم بما كانوا يعملون أبلغ أنواع الزجر، لأن ذلك سيعود به إلى استقراء ما صدر منه ومحاسبة نفسه عليه، حتى يبدأ هو بالحكم على نفسه بما تستحقه،  فلا يجد له مخلصاً إلا بالتنحي عن الطريق المعوج وسلوك الصراط المستقيم. وغير خاف عليك‏ ما يفيده لفظ«ثم»من أن الهول فيما يليها يستدعي إبعاد النظر في التأمل والذكري. على هذا النحو من تدبر آيات الذكر الحكيم، بل التأمل في كلماته ومفرداته، تقرأ من أسرار التنزيل‏ ما يملأ قلبك إيمانا بأنه تنزيل من حكيم حميد. 

هذا وقد روي أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إذ أسلم وكان براً بأمه، فقالت له: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بيَّ‏ فيقال يا قاتل أمه! قلت لا تفعلي يا أمه فاني لا أدع ديني هذا لشي‏ء! فمكثت يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها،  فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا ما تركت ديني‏ هذا لشي‏ء، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي!فلما رأت ذلك أكلت. فنزلت الآية. 

ويري بعض المفسرين أن إسلامه كان على يد أبي بكر رضي الله عنه، وفسِّر من أناب إلي بأبي بكر رضي الله عنه ، قال: ولذا أرجع الضمير مفرداً ولم يقل من أنابوا إليَّ. ولا أرى في هذا دلالة،  فالآية مسوقة على العموم، ونزولها في سبب خاص لا يوجب قصر معناها عليه. فالظاهر العموم،  وإفراد الضمير مراعاة للفظ من. 

[يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16} 

هذا متصل بقوله: [فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {العنكبوت:8} ، وكأنه يقول: لا تغتروا بأنكم بين آبائكم‏ تخالطونهم وتعاشرونهم ويعلم كل منكم ما عند صاحبه فتظنوا أن الله غائب عنكم فكيف ينبئكم؟ فاعلموا أن الله محيط بكم وبذات صدروكم، ومحيط بكل ما قلَّ وجلَّ، لا تخفى عليه خافية، فهو قمن أن ينبئكم بما كنتم تعملون. وسوقه بطريقة استئناف موعظة جديدة مبدوءة بخطابه لابنه‏ لا يمنع مزيد اتصاله بما قبله، فإن أجزاء الكلام المتصلة أتم اتصال كثيرا ما يعمد إلى إفرادها بالعناية تنبيها على أن لها من القيمة في ذاتها ما يجعلها جديرة بالعمد إليها بالنظر والاتجاه إليها بالقصد.  

وقوله: [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ] {لقمان:16} ضمير إنها راجع إلى الخصلة التي يعملها المرء، كما هو ظاهر من السياق.  وقيل إن الضمير راجع إلى ما سأل عنه ابن لقمان إذ قال: أرأيت يا أبت لو كانت حبة صغيرة تقع في مغاص البحر: أيعلمها الله؟ فأجابه بهذا. والأوَّل أظهر. وقيل إن الضمير للقصة كما تقول:  إن المسألة بما فيها: إن تك مثقال حبة من خردل الخ. والأول أظهر وأقرب.

وقد ذكرت عوامل‏ الخفاء التي تتوهم كلها، فأولا: الصغر المتناهي في قوله [ إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] {لقمان:16}  وهذا متعارف‏ مثلاً في الصغر. 

وثانياً: الاحتجاب عن الأعين، وذلك بقوله [فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ] {لقمان:16} فإن الصخرة بسبب كثافتها وعدم استطراقها للدق ونحوه بحيث يبين ما في داخلها كالمعادن، تعتبر من أكشف‏ الحجب. 

وثالثا: في بعد الأقطار واتساع المجاهل، وهذا في قوله: [أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ] {لقمان:16} أي: ضلت في تلك الأرجاء المتنائية، فمهما يكن شي‏ء من ذلك فإنها لا تغيب عن‏ علم الله [إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] {لقمان:16}. 

وقوله [يَأْتِ بِهَا اللهُ] {لقمان:16} أبلغ في العلم والإحاطة من: يعلمها الله فإن من يقدر على الإتيان بشي‏ء يكون بالضرورة مهتدياً إليه، بخلاف من يعلمه فحسب، فربما كان عاجزا عن الوصول إليه. ولعلهم‏ من هنا يستعملون كثيرا لفظ يدرك مكان يعلم. 

ووصفه جل شأنه باللطف مع وصفه بالخبرة، إما أن يكونا راجعين إلى صفة العلم، ويكون‏ معني اللطف العلم بالدقائق والخفايا، وهو ما بناسب [وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] {الأنبياء:47} و«في صخرة»، ومعنى‏ الخبرة الإحاطة بالمتشعبات الشاسعة، وهو ما يناسب«أوفي السموات أوفي الأرض». وإما أن يرجع الوصف باللطيف إلى صفة القدرة، والوصف بالخبير إلى صفة العلم، ويكون قوله:  لطيف مناسبها ليأت بها الله. وفي الحق أن المعنيين يحضران في الذهن عند تلاوة الآية الكريمة. 

نسأل الله تعالى أن يحيطنا بلطفه، ويمنحنا توفيقه، إنه سميع الدعاء.

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

المصدر مجلة الأزهر المجد الثامن ، جمادى الثانية 1356هـ ، الجزء السادس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين