سورة لقمان ـ 9 ـ

 

قال الله تعالى:[وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] {لقمان:19}. 

كانت الآية السابقة في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن ا لمنكر، والصبر على ما يلقاه الآمر الناهي من مصائب هو متعرض لها ولابد، وفي بيان أن الأمر والنهي المذكورين من عزم الأمور، أي: الأمور المصممة التي لا هوادة فيها ولا تراخي، ومعلوم ما يشعر به الآمر الناهي من العزة وعلو النفس إذ يرى نفسه مرشداً مربياً مؤدباً، فيشعر لنفسه بحقوق الزعامة والرياسة، وأنه ينبغي أن تدين له النفوس وتخضع، إذ كانت ناقصة فأكملها، معوجة فقوَّمها، ضالة فهداها وأرشدها، وهنا لابد أن ينفخ الشيطان في منخريه نفخة العزة والكبرياء فيلحقه من الصلف والتيه ما يقلب عليه الحال، ويصيره أولى بأن يوعظ وينبِّه إلى ما وقع فيه أو شارف الوقوع، فكان بمسيس الحاجة إلى هذا التنبيه، فجاءت الآية الكريمة في وقت الحاجة الشديدة إليها، حتى تنقذه من زلة هو بشرف التردي فيها، فقال عز من قائل: [وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18}.

ومعنى التصعير: الميل المشرب بالإعراض كما هي سحنة المتكبرين. وأصله من الصعر وهو داء يعتري البعير فيلوي له عنقه، استعير لهيئة المتكبر لمشاركته له في الشكل مع التلميح بالاستنكار لهذا الشكل، فإن أبغض الهيئات المتكبرين، فلا بدع أن يختاروا لها من الأشباه ما يستند إلى المرض البغيض، قال الشاعر:

وكنا إذا الجبار صعَّر خده=أقمنا له من ميله فتقوما

وإن ذم الكبر والتنفير منه غير محتاج إلى إطالة القول، فنكتفي بكلمتين وجيزتين فيه: إحداهما: تنسب لعلي كرم الله وجهه، وهي: (وما لابن آدم والكبر وإنما أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذر ة، وهو بين ذلك يحمل العذره) وقريب منها قول بعضهم: كيف يتكبر من يعلم أنه خرج إلى الدنيا بعدما مر من مجرى البول مرتين، ويمس القذر في نفسه كل يوم مرتين أو أكثر من مرتين)!.

والثانية: قول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (لو أن الرجل كان عالماً جواداً ثم كان متكبراً لمقته الناس وأبغضوه، يقولون نستغني عن علمه بعلم غيره، ويرزقنا الله بلا حاجة إليه، ولو كان جاهلاً بخيلاً ثم كان متواضعاً لأحبه الناس ومالوا إليه، فناهيك بفضيلة غطت على رذيلتين، ورذيلة غمطت فضيلتين)! أعاذنا الله من شر الكبرياء والمتكبرين.

وحسبك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد: (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون).

واللام في قوله: للناس ) لام الأجل، أي: لا تمله من أجل الناس استخفافاً بهم وإعراضاً عنهم، وكبرياء عليهم، فليس معناها مثل ما في قولك: أملت جانبي له، بمعنى عطفت أو حنوت عليه، وإنما معناها الصلف والإعراض، فهي كقولهم: قلب لهم ظهر المجن، وكقول العامة: قلب لي صفحة وجهه، أي أشاح وأعرض، وبعضهم يقول:[وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ] {لقمان:18}. أي: لا تذل وتخضع. وهو إذا صح في نفسه فليس بمتسق مع السياق.

[وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا].

في المرح معنى الفرح والخفة والنزق وكلها ينبو عنه الوقار والسكينة والرزانة التي هي شعار المؤمن، ولاسيما من نصب نفسه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن النفوس لا يطيب لها الإذعان لمن كان بعيداً عن سمت الوقار والسكينة وضبط النفس، وهذان النهيان:[وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا].وإن كانا مطلوبين من كل إنسان فهما من الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد طلباً.

[إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18}.

تعليل للنهي السابق، كأنه قيل: ولماذا نهينا عن هذين، فكان الجواب ما ترى، والمختال من الخيلاء، وهي مشية فيها تبختر ومباهاة، كأنها تنشأ عن تخيل المرء في نفسه ميزة ليست في غيره، والفخور: الكثير الفخر، وهو تعداد ما أوتي من نعم بقصد الاستعلاء على غيره.

وقد قالوا إن في هذا التعليل لفاً على ترتيب النشر، فإن الخيلاء تناسب المشيء مرحاً، والفخر يناسب التكبر وتصعير الخد، وسلك هذا المسلك وهو عكس الترتيب الأول مراعاة للفاصلة، وأرى أن المعنيين متقاربان، فلا يمشي مشية المرح إلا الفخور غالباً، كأنه لا يبالي بمقادير من أمامه، وكذلك من شأن المتكبر المصعر خده للناس أن يختال في مشيته، فمجموع الوصفين والخلقين متناسبان.

بقي أن مثل هذا التركيب يكثر في التنزيل الكريم، وهو تقديم أداة النفي في قوله [لَا يُحِبُّ] {لقمان:18}. على أداة العموم وهي لفظ كل وقد اشتهر بينهم أن هذا يفيد نفي العموم، أي: أن محبة الجميع غير حاصلة فلا ينافي أنه قد يحب البعض، فتكلف بعضهم جريان هذا المعنى هنا وقال: إن الله لا يحب جميع المختالين وإن كان يحب بعضهم الاختيال في صفوف القتال إظهاراً للقوة أمام العدو، وكالافتخار بنعمة الإيمان والتوفيق مثلاً، والذي أراه ما عليه الجمهور من صرف هذا التركيب إلى معنى استغراق نفي المحبة لجميع أفراد المختالين الفخورين، وكأنه قيل: وكل مختال فخور لا يحبه الله، فإن المقام مقام التنفير من هاتين الصفتين الذميمتين، وليس يحسن في مثله أن يقال لهذا التعليل إن الله يبغض بعض المختالين، ولا يبغض الآخرين، فذلك مما يأباه مقام الزجر والتنفير، وما ذكروه من المثالين يؤخذ استثناؤه من دليل آخر بحيث لا يمس المقصود من السياق.

هذا وإن السر في أن المختال الفخور لا يحبه الله أن اختياله و فخره نتيجة شعوره بكمال نفسه، ومن ملكه هذا الشعور قلما يلتفت لتدارك نقصه، أو تنمية كمالاته، فق قالوا أول درجات الشروع في الكمال الشعور بالنقص.فمن لم يشرع بجهة نقصه لا ينتظر أن يسعى في مراتب الكمال، والكمالات الإنسانية لا تقف عند حد، فما من كمال إلا وعند الله أكمل منه أعد له النفس الإنسانية، وناهيك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليران على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة).

وفي التعبير بفخور خروج عما يتوهم من معارضة قوله  تعالى:[وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ] {الضُّحى:11} . فالفخور الكثير الفخر، أما تعداد النعمة بدون تلك الكثرة فلا حرج فيه، بل إذا قصد بذلك إظهارها ليكون ذلك أدعى لشكرها وحث الغير على النظر لنعمة ربه ليقبل عليه شاكراً فهو مقصد حسن يصلح أن يكون مأموراً به لا منهياً عنه.

[وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] {لقمان:19}.

القصد في المشي: التوسط والاعتدال فيه. لما نهى عن المشي مرحاً كان ذلك مظنة أن الهوادة الشديدة بل المشي مشي المتماوتين مطلوب شرعاً، فجاء الأمر في هذه الآية الكريمة منبهاً على الاحتراز من ذلك أيضاً، فالقصد والاعتدال في كل شيء هو الحسن المطلوب والإفراط أو التفريط كلاهما  مذموم:

فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد=كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يمشي مشية المتاوت، فقال له: لا تمت علينا ديننا! ورأى رجلاً مطأطئاً رأسه فقال: ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمريض! ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت متخافتاً، فقالت: ما لهذا ؟ فقيل إنه من القراء، فقالت: لقد كان عمر رضي الله عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع ! وظاهر أن المراد بالإسراع ما فوق مشية المتاوتين.

[وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ] {لقمان:19} :

الغض من الشيء نقصه والتقصير فيه، يقال غض بصره أي كفه نوعاً ما، لم يحبسه تماماً ولم يرسله ممتداً، وكذلك الأمر هنا: طلب ألا يطلق الصوت على جهارته المزعجة، وألا يحبسه همساً، وفي قوله: [مِنْ صَوْتِكَ] {لقمان:19}.إشارة إلى هذا، فكأنه يقال: انقص بعض صوتك ولا ترسله بجهارة مزعجة، وهذا يدل على التوسط فيه على نسق ما فهم في أمر المشي وقوله:[ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] {لقمان:19} . مفيد للتعليل مثل ماس بق في قوله تعالى:[ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {لقمان:18}. 

وأنكر الأصوات أقبحها، من نكر كقبح وزناً ومعنى، وفيه زيادة على القبح معنى الصعوبة والشدة المؤدية إلى الاشمئزاز. والحمير تضرب مثلاً في الذم من جهات عديدة: كالبلادة، وإزعاج الصوت، وذلة التسخير، ولذلك أكثر ما يستعمل مكنياً عنه، إلا في مقام الذم، فإنه يصرح به لأنه أجلى في التقبيح مثل ما هنا وما في قوله عزَّ وجل:[ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا] {الجمعة:5}. ففي التصريح باسمه عون على التنفير والتقبيح، وهو المقصود في مقام الذم.

هذا وإن بعض الناس يحملهم الصلف والغطرسة على إطلاق صوتهم اغتراراً واعتزازاً حتى كان بعضهم يمدح بذلك، كما في قول الشاعر:

جهير الكلام جهير العطاس=جهير الرواء جهير النعم

ولكن ما من شك في أن ضبط النفس والغض من الصوت والرزانة أدعى إلى الاصغاء وحسن الاستماع، بل ربما كانت أوجب للمهابة، على أن الجهارة قد تخلو من فظاعة الصخب الممقوت فلا يوجب ذلك المدح برفع الصوت رفعاً فضيعاً، ولكن الخروج عن تخافت المتماوتين.

هذا وإنك لتجد في أسلوب القرآن الكريم في الإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والتربية الحسنة من الأمر والنهي معللين بعلمهما المؤثرة في النفوس، مالا تجده في التقسيمات الفلسفية التي يطوح بها المتشدقون، إذ يقسمون القوي النفسية ويشرحون لها أحوالاً نظرية لا تترك في النفس أثراً عملياً، وإنما تعين على بسط القول واتساع الكلام، فأما الإنتاج الفعلي فلا تكاد تجده إلا في الذكر الحكيم، فاللهم اهدنا إليك الصراط المستقيم؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الحلقة السابقة هنا

المصدر: مجلة الأزهر مجلد 8 شعبان، 1356هـ جزء 9.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين