سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الغني الزاهد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد فقد وردت الأسئلة التالية من الإخوة في سويسرا:

هل مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو غني؟

وهل أسس النبي صلى الله عليه وسلم سوقا جديدة أوسع من سابقاتها في المدينة؟

وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع رواتب للصحابة المحاربين؟

وأن أجرة الفارس كانت أكبر من أجرة الراجل؟

ولذا كثرت أعداد الخيل، والفرسان في الغزوات؟

وهذه هي الصيغة التي أرسلوها:

السؤال:

تقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان فقيرا، زاهدا، فكيف مات غنيا؟

و انه كانت توجد في المدينة حين وصلها الرسول (ص) اربعة اسواق فأقام الرسول سوقا جديدة اوسع من سابقاتها !

وأنه صلى الله عليه وسلم منع اخذ الضريبة من التعاملات في هذا السوق!

 ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع رواتب للصحابة المحاربين في الغزوات المختلفة!

 وان اجرة الفارس كانت اكبر بثلاث مرات من اجرة الراجل ولذلك كانت فرق الخيل في غزوات الرسول اكبر من فرق اعدائه فاستطاع ان يتغلب عليهم

قبل البدء في الإجابة لابد من البيان أن المولى سبحانه وتعالى يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم :

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

فهو أسوة لكل مؤمن مهما تعددت أوصاف المؤمنين وأحوالهم وأعمارهم.

أسوة للفقير، وأسوة للغني، أسوة للحاكم، أسوة للمحكوم، أسوة لكل حال من أحوال المؤمنين.

 ومن كمال أوصافه وكمال سيرته أنه صلى الله عليه وسلم مر في كل هذه المراحل ليكون أسوة ومشرعاً.

لذا تعددت أدوار النبي صلى الله عليه وسلم .

فكان فقيرا في فترة من حياته ليكون أسوة للفقير؛ فرعى الغنم، وقام بالعمل في التجارة.

يقول المولى سبحانه وتعالى: ووجدك عائلا فأغنى.

وقال: ولسوف يعطيك ربك فترضى.

وكان في مرحلة من مراحل حياته غنياً، عنده أموال ، ليكون أسوة للغني صلى الله عليه وسلم.

ولبيان ذلك لابد من تقسيم هذا الجانب إلى فترات: 

الفترة الأولى: من البعثة حتى السنة الثالثة من الهجرة ، كان فقيراً، كما ورد في روايات كثيرة، ولذا ذكر من فضائل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: وواستني في مالها إذ حرمني الناس.

وورد في روايات أخرى أنه صلى الله عليه وسلم اقترض من أبي بكر رضي الله عنه ثمن الناقة التي هاجر عليها. 

واقترض منه بعد ذلك ثمن الأرض التي بنى عليها المسجد عشرة دنانير.

ولما عرض عليه أن يتزوج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بين أنه بحاجة إلى المال والنفقة فتأخر زواجها منها إلى بعد غزوة بدر، في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة.

والمواقف كثيرة التي تبين أنه كان يقترض، فدل على أنه لم يكن غنيا.

ولكن بدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة الغنى بعد السنة الثانية من الهجرة وهي على مرحلتين أيضا:

المرحلة الأولى: عندما شرع المولى سبحانه وتعالى خمس الخمس من الغنائم، وجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى? وَالْيَتَامَى? وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ? وَاللَّهُ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

 

فكانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، أربعة أخماسها لمن قاتل، إذ لم يكن للمقاتلين عطاء أي راتب كبقية الجيوش في العالم، فكانوا يتحملون نفقاتهم، ومؤنة أمورهم، فكان ينفق عليهم من الغنائم.

والخمس الخامس للرسول صلى الله عليه وسلم ينفقه على أمور المسلمين: فيعطي منه ذوي القربى إذ أن الصدقة لاتحل لهم، فأعطاهم مكانها من خمس الخمس.

واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.

وكان ينفق من هذا الخمس على عامة المسلمين كما ورد في الرواية: 

عند مسلم: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ ، وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالاً فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ .

وفي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ؛ مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَيّ . رواه مسلم.

 

المرحلة الثانية: 

 في السنة الثالثة، وبالتحديد بعد شهر شوال، تبرع له مخيريق، بسبعة بساتين، جعلها للنبي صلى الله عليه وسلم.

فأوصى بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم وهي سبع حوائط أي بساتين: وهي: الميثب، والصائفة، والدلال وحسنى وبرقة والأعواف ومشربة أم إبراهيم.

وهذه البساتين السبعة كلها في منطقة العالية.

 فمن يومها كان للنبي صلى الله عليه وسلم أصول وأموال.

فكان غنيا، عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان ينفق على المسلمين كله ماله، ولم يدخر مالا.

أمر آخر يدل على زهده رغم غناه:

 فقد ورد في حجرته، وصفة بيته، روايات تبين رغم هذا الغنى أنه الغاية في الزهد.

يقول السمهودي مبينا أبعاد الحجرة طولا وعرضا بالذراع: 

بلغت طولا من الشرق للغرب جهة القبلة عشرة أذرع وثلثي ذراع. (4.8م)

وجهة الشام عشرة أذرع وربع ذراع وسدس ذراع 4.79م.

وعرضا من الشمال للجنوب جهة الشرق والغرب سبعة أذرع ونصف ذراع وثمن ذراع بذراع اليد 3.43م.

وكان البيت مبنيا باللبن وجريد النخل، وليس لأبوابه حلق، بل يقرع باليد.

هذا بيت سيد الخلق عليه الصلاة والسلام.

وقد يقول قائل هذه هي الصفة السائدة لبيوت المدينة، فهذا غير صحيح، فقد وردت روايات تبين أن بيوت كثير من الصحابة تتسع لعشرات من الناس، فقد ورد في وصف بعض البيوت أنها تتسع للوفود، وعندما تحدثوا في كتب السير عن عام الوفود ذكروا عدد كل وفد، وأين نزل هذا الوفد.

أما بيته صلى الله عليه وسلم فكان صغيرا لذا كان يستقبل الضيوف في المسجد، حتى عرف مكان استقبالهم، وحدد بأسطوان بارز، يعرفه ويراه كل من يأتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسطوان الوفود.

بل كان يولم للأضياف  في المسجد.

 ومما يدل على زهده رغم غناه ماورد في وصف أثاث الحجرة النبوية: حصير، ووسادة، وقصعة، وكأس، وطيب، ومشط، ومرآة، ومكحلة.

فلو كان يريد الدنيا لتوسع في معاشه، لوسع بيته ، وتوسع في أثاث بيته.

وحق له ذلك فهو واجهة الدولة ، وسيد الأمة، ومكان وصول الوفود، ومع ذلك آثر أن يكون بهذه البساطة، مثالا للزهد صلى الله عليه وسلم.

.أما حياته : مأكلا ومشربا وملبسا فكانت أيضا في غاية الزهد.

ولما جاءته الأموال والخدم، تطلعت ابنته فاطمة رضي الله عنها لخادم، فلم يجبها، وبين لها حاجة الفقراء إلى ذلك، وعلمها بدلاً من ذلك الاستعانة بالله والتسبيح.

وكذا لما طلبت منه نساءه أن يوسع عليهن، أمره الله سبحانه وتعالى أن يخيرهن، فخيرهن، فاخترن الله ورسوله، فسمين بأمهات المؤمنين ثوابا لهن.

 

 

وهل أسس النبي صلى الله عليه وسلم سوقا جديدة أوسع من سابقاتها في المدينة؟

يبدو أن حال المشركين واحد في كل مكان وزمان في الفهم، فكيف يكون للنبي سوق: 

وَقَالُوا مَالِ هَ?ذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ? لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا

نعم، أسس سوقاً، رغم وجود عدة أسواق بالمدينة، لكن هذه السوق تدل على حكمته صلى الله عليه وسلم، وتدل على سعة خلقه، وتدل على زهده.

أما حكمته: فلكل نبي شرعة ومنهاج، والأسواق التي كانت قائمة في المدينة كان لها نظامها، ولها قانونها، فما زاحم أحدا في سوقه، ولاطلب من المسلمين أن يقاطعوا هذه الأسواق، أو أن يغيروا منهاجها.

ولو طلب من أصحاب الأسواق أن يغيروا أو يتغيروا لحصل ماحصل.

ولكن من حكمته أنه أضاف إلى المدينة، وبنى في المدينة، ولم يكن عالة على أهلها، بل أثراها وساهم في بنائها من كل النواحي صلى الله عليه وسلم .

ومما يدل على سعة خلقه وزهده في ذلك:

أنه لما ضرب للمسلمين قبة ليتبايعوا فيها، جاء كعب بن الأشرف كما ورد في الرواية وكسر قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتعرضوا له.

ثم جاء بعد حين إلى بني ساعدة وتشاور معهم في إقامة السوق ، وجعل له نظاما عاما، ليستفيد منه الكل

فنهى عن البناء فيه، ليكون عاما.

ونهى عن أخذ الخراج فيه، أي الضرائب، ليكون سوقا حرا للجميع.

 ولو أنه أراد المال، والغنى وأراد الدنيا، لفرض الضرائب فيه، أو فرض الأجور فيه، أو طلب الحصص، أو المشاركة، فلم يفعل أي شيء من ذلك، وجعله مشاعاً عاماً للجميع.

بل كان يراقب الأسواق فيه، حفاظاً على الجودة، وحفاظاً على قيم التعامل في البيع والشراء.

وليعم هذا النفع في كل الأزمنة جعل هذا السوق وقفاً، فهو قائم إلى يومنا هذا، ومكانه معروف، محدد، وله أوقاف، ولجان تشرف عليه.

 

وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع رواتب للصحابة المحاربين؟

وأن أجرة الفارس كانت أكبر من أجرة الراجل؟

ولذا كثرت أعداد الخيل، والفرسان في الغزوات؟

وهذه النقاط الثلاث واضحة، جلية:

فم يكن يدفع للصحابة أي رواتب مقابل خروجهم للجهاد، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الغنائم ، ولو كان حريصاً على الغنائم لاستعان برجال من غير جنوده، فلم يفعل ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صاحب رسالة.

وأما أجرة الفارس فلعدة أسباب: 

الأول: أن الغنم بالغرم، فربما غرم صاحب الفرس فرسه، وخسره، بسبب إصابة أو مرض أو غير ذلك، فجعل له أجراً يزيد عن سهم الراجل.

والثاني: أن للفرس مؤونة، وكلفة، من علف ورعاية وغير ذلك، فأعطاه مايعوضه.

والثالث: أن للفرس دوراً كبيراً في الأداء، لذا لزم أن يكافئه على جهده.

ومع ذلك فلم تكن أعداد الأفراس كثيرة، في أي غزوة من المغازي

ففي بدر كان عدد الأفراس مع المسلمين : فرسين. بينما كان مع المشركين 200 فرس.

أي مائة ضعف.

وفي أحد كان مع المسلمين أي فرسان.

وكان مع المشركين أيضا 200 فرس، و700 دارع.

أي مئات أضعاف مامع المسلمين.

وربما تغير الحال في الغزوات الأخيرة، وخاصة بعد السنة السابعة، فلذلك أسباب أخرى.

اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين