شمولية الإسلام تضبط الحضارة الإنسانية ولا تصنعها -1-

 

لعل أكثر المبادئ الإسلامية التي تحظى باتفاق المسلمين عبر العصور ومازالت تسهم في تشكيل الوعي العام والعقل الجمعي وبناء التصورات الكلية والجزئية والمواقف المجملة هو مبدأ شمولية الإسلام، ولكن هذا المبدأ بقي بعيدا عن التفصيل والتدقيق “العميق” على مستوى المفهوم، فهل الشمولية تلك تعني نصا شرعيا في كل واقعة أم مسألة أم نصا في بعض الوقائع دون أخرى؟ الجواب ببساطة هو الثاني، وهو ما أجاب به العلماء المتقدمون منهم والمتأخرون، ولكن ما تفصيل ذلك؟

في الحقيقة، ثمة نظام محدد لهذه الشمولية يصنف المسائل تحت أصناف شتى ثم يسلك مع كل صنف منها مسلكا مختلفا، بحيث نجد أن بعض مجالات الحياة البشرية تكاثرت النصوص الشرعية فيها ولامست أغلب تفاصيلها ولم تترك مساحة واسعة للقياس وإعمال العقل، ولكننا نجد بعضا آخر من تلك المجالات كانت بمنأى عن ذلك؛ فالنصوص التي جاءت بصددها تقرر في الغالب مبادئ وعموميات، وربما نصت على نماذج وأمثلة حية ليقاس عليها ويترك للعقل مجالا فيها للاجتهاد، أو ترسلها “وفقا لعبارة الأصوليين” وتسكت عنها مع انتظامها تحت مبدأ “أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله”.

إن الإقرار بأن الإسلام نظام شامل لمناحي الحياة العامة والخاصة المختلفة يستلزم الإقرار أيضا بأن الشمولية هنا ليست على مستوى واحد في تلك المناحي جميعها، ففي حين نجد أن التشريعات الإسلامية تدخل في تحديد أدق التفاصيل على صعيد “العبادات والشعائر” الفردية منها أو الجماعية، وكذلك على صعيد “الروابط الأسرية” والأحكام الضابطة لها، فإننا لا نلمح هذا القدر من الدقة في التحديد والغوص في التفاصيل على صعيد المعاملات المالية والاقتصادية والسياسية ومجالات السلوك العام كلها مما تتبدل كثير من تفاصيله وأساليبه بتبدل مستويات نضج الحضارة، بل نقف عوضا عن ذلك على مبادئ عامة وقواعد مطردة وأمثلة عملية محدودة ليقاس عليها أشباهها أمرا أو نهيا.

لا يخفى أن شمولية الإسلام بمعناها الخاص تتيح للمسلمين مرونة قصوى في المجالات التي تتسم بسمة التبدل والتحول، ولا “تقرر” لهم فيها أحكاما بقدر ما “تربي” في وجدانهم قيما أخلاقية تحكم سلوكهم فيها من دون أن تختص بمجالات دون غيرها، من مثل العدل والإنصاف والصدق والأمانة، وتتجلى هذه المرونة في أصول وقواعد مهمة نوقشت في علم “أصول الفقه” والذي يعرف بمصادر التشريع الإسلامي الرئيسية ويفصل النقاش حولها، كما يعرف بمشروعية اعتبارات عدة، من مثل العرف والاستحسان والمصالح المرسلة والذرائع في عملية الإفتاء والاجتهاد، ويفصل النقاش فيها أيضا، ويرى علماء الأصول أن هذه الاعتبارات هي مصادر تشريع بحد ذاتها ما دامت تكمل المصادر الرئيسية ولا تصطدم معها، ومن ثم قال من قال إن في الإسلام حكما شرعيا لكل شيء مهما اتسعت دائرة المباحات أو المسكوت عنه، ولكن هذه الدائرة على أية حال تشير إلى حقيقة أن في الحياة من الأشياء ما سكت عنه الشرع لا غفلة من المشرع بل حكمة ورحمة، كما جاء في الحديث.

ولكن ما الحكمة من السكوت عن أشياء تارة، والاكتفاء بالتأكيد على قيم عليا بخصوص تلك الأشياء تارة أخرى؟ وما وجه الرحمة في ذلك؟

لا شك أن الإنسان مجبول على نوازع ورغبات وميول وعواطف معينة أودعها الخالق في أصل خلقته، وأطلق عليها اسم “الفطرة”، وجعل من هذه “الفطرة” كفيلة بدفع الإنسان باتجاه الفعل والسلوك بغض النظر عن تقويمه، وقد امتدح القرآن الكريم “فطرة الناس” ووصفها بالدين القيم؛ أي المستقيم في قوله تعالى: “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لاتبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم” [الروم: 30]. وحيث إن الفطرة تمثل “طاقة” تنطلق أو تتفجر بذاتها، بمثل الرغبة بالإعمار والامتلاك، والنزعة إلى التقنين والتنظيم والاجتماع، والميل إلى استثمار الوقت والمادة، فإن هذه الطاقة في الواقع ليست بحاجة إلى محرك، فهي فاعلة بذاتها، ومن ثم لم ينزل الوحي ليحركها، وإن نوهت نصوصه بأهميتها وأخبرت عنها، بل جاء الوحي ليضبط فعلها وانفعالها من جهة، ويحميها من الانحراف أو الشطط من جهة أخرى.

لعل ما سبق بيانه يفسر، بوجه من الوجوه، سبب تفاوت مفهوم شمولية الإسلام في بعض مناحي الحياة، ويؤكد حقيقة أنها شمولية مباشرة في بعضها وغير مباشرة في بعض آخر، ومزيج منهما في بعض ثالث، على أن المقام يضيق عن مزيد من التفصيل، ولكنه يحيلنا حتما على سؤال ردده باحثون ومفكرون معاصرون، هل الإسلام يأمر بالتحضر؟ وهل في تشريعاته ما هو كفيل بمفرده بإحداث النقلة الحضارية والتقدم الشامل بشتى صوره؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه على ما تقدم شرحه في الجزء الثاني من هذا المقال.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين