شمولية الإسلام تضبط الحضارة الإنسانية ولا تصنعها -2-

 

في الجزء الأول من هذا المقال بينا أن مفهوم شمولية الإسلام حمل على غير وجهه في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، وقبلها في ثقافة العصور المتأخرة، ولاسيما من قبل من قال بأن في الإسلام طريقة لكل شيء، وتفصيلا لكل مسألة، سواء قال ذلك صراحة أم بحكم السلوك الاجتهادي، في صدام صريح مع ظواهر النصوص وبدهيات الواقع، مما أعطى ذريعة إضافية للقول العبثي بضرورة المصير إلى أن الإسلام -مثل سائر الأديان- لا حظ فيه إلا للعبادة والأخلاق والعقيدة، كما ينادي به العلمانيون.

وبعدما خلصنا إلى نتيجة مفادها أن الوحي جاء ليهذب السلوك المنبعث عن الفطرة والغريزة لدى الإنسان، ويوجهه إلى الطريق الأقوم لا ليقترح عليه تفصيل الأفعال والتصرفات التي تصلح أحواله، إلا في العبادات وما كان على شاكلتها أو قاربها في الثبات والديمومة، انتقلنا إلى السؤال عن علاقة الإسلام بالحضارة، فهل يدعو الإسلام إلى التحضر؟ وهل في تشريعاته ما هو كفيل بمفرده بإحداث النقلة الحضارية والتقدم الشامل بشتى صوره؟

يعرف علماء الاجتماع والتاريخ الحضارة بمفهومها “الخام” بأنها نقيض البداوة، حيث تبدأ بالاستيطان الجماعي والاستقرار والزراعة، ومؤخرا؛ بات مصطلح الحضارة يطلق على ما ينتج عن الاستقرار والزراعة من علاقات تبادلية تجارية، وما ينشأ عن ذلك كله من عادات اجتماعية وأنظمة خاصة، بل على كل ما يترتب على ذلك من تطورات في إطار التفاعل الثقافي الجمعي والنظام السياسي والتوسع الجغرافي والبناء العمراني والشعور الأخلاقي والهوية المكونة من ذلك كله، وهنا يتحدد السؤال أكثر، ما هو موقف الإسلام من الحضارة بمفهومها البسيط أولا، وما هو موقفه من أشكالها المتطورة ومفرزاتها في شتى النواحي؟

في إجابة أولية؛ نجد أن القرآن الكريم صرح بأن من مهمات الإنسان على الأرض عمارتها، ولكنه تصريح مجمل “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” [هود:61]، كما أخبر بأن الكون بما فيه مسخر له وطوع استخدامه، ولكنه في صيغة الإخبار لا التشريع، فقد جاء الخبر في معرض الامتنان غالبا، مثل قوله تعالى: “ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة” [لقمان: 20]، وقوله: “الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون” [الجاثية: 12]، وفي معرض الحث على التفكر والتدبر أحيانا، مثل قوله تعالى: “وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر.. والنجوم مسخرات بأمره، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” [النحل: 12]، كما نجد أن الهدي النبوي ينفر من “التعرب” أي العودة إلى البداوة بعد التحضر وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي: “من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن”؛ فالبداوة سبب للغلظة والقسوة والجهل كما قال شراح الحديث في تعليقهم على “جفا”.

إذن؛ فالنصوص الشرعية تصرح بأن من غايات وجود الإنسان على الأرض عمارته ولكن بصورة مجملة، بعيدة عن التفصيل، وعلى سبيل الوصف والإخبار، لا الحض والتشريع، والمعنى في ذلك في ضوء ما قررناه في الجزء الأول من هذا المقال أن ما كان من طبيعة الأشياء فالتشريع الإسلامي معني بتقويمه لا بالحض عليه في المقام الأول، سواء كان إيجابيا أم سلبيا، فالرغبة بالتحضر أي الخروج من نمط البداوة إلى الاستيطان نزعة جمعية لدى البشر، ولذلك لم يرد التوجيه النبوي في الحض عليه، ولكنه صرح بالنهي عن العودة إليه، وهنا تتجلى صورة القاعدة التي خلصنا إليها من أن الوحي يهدف أولا إلى تهذيب السلوك الغريزي لا إلى الأمر به.

بناء على المثال السابق، نستنتج أن موقف الإسلام من الحضارة بمفهومها البسيط هو ليس الأمر بها، فالبنية النفسية والبيولوجية للإنسان كفيلة بدفعه إليها من حيث الجملة، ولكن ما يحتاجه فعل التحضر حقا وما يأمر به الإسلام نصا هو المداومة في الحضارة بعدم الرجوع عنها من جهة، ومتابعة مسار نموها وتعهده بالضبط والتقنين حفاظا على مثاليتها بقدر ما يمكّنُ لها من جهة أخرى، وهذا يتناول المفهوم الجديد للحضارة والذي يتجسد بأشكالها ومفرزاتها المختلفة في شتى النواحي، ولكي نكون أكثر تحديدا في هذا الصدد ونجيب على الشطر الثاني من السؤال المطروح في مطلع المقال، لا بد من استعراض تجربة الحضارات البشرية المتتالية بصورة مجردة عن الأسماء والمسميات وأحكام القيمة وبصورة مختصرة أيضا.

فمن الملاحظ تاريخيا أنه لم تقم حضارة إلا على أنقاض حضارة سابقة أو حضارات، بمعنى أن التراكم المعرفي والتقني كان عاملا مهما من عوامل نشوء أية حضارة، أي إن الحضارات الإنسانية جمعاء متصلة فيما بينها بوجه من الوجوه، ومن هنا يطلق العلماء مصطلح “الحضارة الإنسانية” على عصارة الحضارات البشرية المتتالية بما تضمنته من تجارب غنية أورثتها لمن بعدها؛ فالحضارة الإنسانية بهذا المعنى من إنتاج بني آدم جميعا، مصداقا لقوله تعالى: “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم” [الأنعام: 165]، خلائف الأرض؛ أي جعلكم تعمرون الأرض جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، وخلفا بعد سلف، كما قال أهل التفسير.

والمفارقة تكمن في أن الحضارة البشرية إنما هي مثل الإنسان تماما، تولد ثم تنمو وتُعمّر ثم تصير إلى نهايتها المحتومة، فكل مجتمع يدخل في حيز الاستقرار الريفي البسيط مهيأ للتطور إلى مدنية معقدة مع ما يوازي ذلك من انبثاق كيان سياسي ونظام اقتصادي وثقافة عامة عن هذا التطور، وما ينتج عنه في بعض الحالات من توسع جغرافي واندماج قهري أو اختياري مع المجتمعات المحيطة، وتتنامى هذه الحضارة كلما توفرت لها ظروف مواتية وأمدت بثروات وافية حتى تبلغ ذروة حيويتها، ثم تؤول بعدئذ إلى حال من الضعف، إلى أن تنتهي بجمود وركود لا مفر منه، ولكنه قابل للحياة من جديد.

هذه السيرورة الحتمية لأية حضارة بشرية على وجه الأرض تتضمن بطبيعتها عوامل ضعفها وتخفي في طياتها بذور انهيارها، وهذا وغيره ما سنوضحه في الجزء الثالث من هذا المقال، والذي سنجيب فيه أيضا على سؤال؛ هل في تشريعات الإسلام ما يكفي لبناء الحضارة بكل معانيها؟

 

للاطلاع على الجزء الأول من المقال الرجاء اضغط هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين