شمولية الإسلام تضبط الحضارة الإنسانية ولا تصنعها -3-

 

ختمنا الجزء الثاني من هذا المقال باستعراض بعض الحقائق فيما يتعلق بنشوء الحضارات وأفولها، فهي بمثل الإنسان تماما، تولد ثم تنمو وتعمر ثم تصير إلى نهايتها المحتومة، وذكرنا أن الحضارة تتنامى إذا توفرت لها ظروف مواتية وثروات وافية.

الثروة أحد أهم عناصر نمو أية حضارة واستمرارها، ونجد فيها مثالا حيا قريبا يتيح لنا القول بأن السيرورة الطبيعية للحضارة تتضمن عوامل ضعفها بذاتها وتحمل بين طياتها بذور انهيارها.

فالثروة المادية الهائلة التي تحتاجها الحضارة إنما تجنيها من خلال ضم كثير من المجتمعات المجاورة، بغض النظر عن شكل هذا الضم، مما قد يلحق على الأرجح الظلم أو شيئا منه بهذه المجتمعات، بسبب المركزية التي تقوم عليها عملية الإشعاع الحضاري، ويرافق ذلك أيضا ارتفاع طبقات في المجتمع الواحد على حساب طبقات أخرى أوسع منها، مما يعني من حيث النتيجة، ولادة صراعات كفيلة على المدى البعيد بتفجير المجتمع من داخله وتحويله إلى جزر متضادة.

وفي هذا المثال، تتجلى عظمة الهدي النبوي والوحي الذي وجه إلى علاج بذور الانهيار قبل تجذرها، لاسيما حينما أجاب الأنصار الذين وجدوا في أنفسهم من توزيع النبي صلى الله عليه وسلم غنائم “بني النضير” على الفقراء من المهاجرين دون الأنصار من أهل المدينة المنورة قائلا: “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” [الحشر]، أي إنه من حكمة هذا التوزيع الذي اقتصر على الفقراء ولم يصب الأغنياء منكم ألا يبقى المال – وهو معيار ثروة المجتمع – متداولا بين شريحة اجتماعية واحدة فقط، وههنا نتذكر مجددا القاعدة التي أصلنا لها في الجزأين السابقين، التي تقول إن الوحي نزل على بني آدم ليقوم سلوكهم وينفي عنهم الانحراف والشطط في المواطن التي لا غنى لهم بها عن الوحي، لا ليصنع تحضرهم.

ونحن إذ نؤكد على تلك القاعدة لا نسعى إلى تغيير منهج الاستدلال في الشريعة الإسلامية، الذي يقضي بضرورة أن يكون الكتاب والسنة حاكمين على سلوك المسلمين بشتى نواحيه ومرجعهم الأول والأخير، ولكننا نسعى إلى تغيير التصور القائم على أن هذه المرجعية كفيلة بصناعة التفوق المادي بمعزل عن السنن الكونية والقوانين الطبيعية، فمن اتبع هذه السنن واهتدى بالقوانين فالأرجح أنه سيجد طريقه إلى التحضر، والعكس بالعكس، كما أننا نريد أن نثبت أن الحضارة البشرية ليست قيمة في حد ذاتها بل تكمن القيمة في مستوى رشادها وقابليتها للتصحيح الذاتي والوقاية الذاتية من الانحراف وتحقيق معنى العدل بتجلياته كلها، ومن ثم فإن مهمة الإسلام فيما يتعلق بالحضارة هو ترشيدها بالمقام الأول.

وتكمن أهمية الغاية من تغيير تلك التصورات في أنها كانت، ومازالت على الأغلب، مرجحات ضمنية في فتاوى خاطئة لكثير من المفتين واجتهادات متعسفة لبعض المجتهدين، بل وتفسيراتنا العامة والخاصة غير المقنعة لبعض التساؤلات الجادة.

فسؤال: لماذا تخلفنا وتقدم غير المسلمين؟ أجيب عليه تارة بالقول إن حضارتهم مزيفة وحضارتنا حقيقة، وفي هذا الجواب دليل على التصور الخاطئ لمعنى الحضارة وحصرها في الجانب الروحي، على الرغم من تخلفنا النسبي في هذا الجانب أيضا، وأجيب عليه تارة أخرى بأن حضارتهم إنما هي امتداد للحضارة الإسلامية، ولولا وصول الإسلام إليهم ما تقدموا، وهذا الجواب يشي عن تصور خاطئ آخر عن الحضارة والاعتقاد بأنها جزء لا يتجزأ من الإسلام، والحال أنها سيرورة طبيعية لأي مجتمع إذا توفرت فيه شروطها، ولكن القيمة فيما بعد إنما تكون في مستوى رشادها. كما يشير الجواب الأخير إلى عدم إدراك أهمية الاستفادة من تجارب الأمم جميعا بوصفها زبدة الحضارة البشرية جمعاء.

وهكذا، يمكن لنظرية التغاير بين الحضارة والإسلام بالمعنى التفصيلي لشموليته، التي طرحها مفكرون معاصرون بصورة مجملة أن تسهم في حسم جدليات كبرى أخذت حيزا واسعا في اهتمام النخب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية طيلة القرن الماضي ومازالت، وفي مقدمتها مفهوم الدولة وعلاقتها بالوحي عموما والإسلام على وجه الخصوص، على أن ذلك سيستدعي دراسات موسعة عن أسباب نشوء الدولة مفهوما وتطبيقا ودور الدين منذ “آدم” عليه السلام في تشكلها وتطور وظائفها.

للاطلاع على الجزء الثاني من المقال الرجاء اضغط هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين