صفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة


الشيخ طه محمد الساكت
 
نعتُه - صلى الله عليه وسلم - في الأمم السابقة:
فمن ذلك ذكْره - صلى الله عليه وسلم - في الأمم السابقة، والتنويه به قبل مبعثه، بل قبل موته بأجيال، وقد تواتَر أن أهل الكتاب كانوا يتناقلون خبرَ بعثته - صلوات الله وسلامه عليه - ويتذاكرون البِشارات به من كُتبهم، وربما أشار إلى عراقة ذِكْره، وقِدَم تاريخه قبل اليهود والنصارى - قولُه تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾ [آل عمران: 81].
 
أخذ الميثاق على النبيين:
قال علي وابن عباس - رضي الله عنهم -: ما بَعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث الله محمدًا وهو حي، ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمَّتِه: لئن بُعِث محمدٌ وهم أحياء، ليؤمننَّ به ولينصرنَّه.
 
ولعل حكمة هذا الميثاق مع عِلمه تعالى بأنه لن يبعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في حياة أحد منهم، هي الحَفاوة به، والعناية برِفعة ذِكره، وتعظيم قدْره - صلوات الله وسلامه عليه.
 
وقال طاوس والحسن وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يُصدِّق بعضهم بعضًا، وهذا كما قال ابن كثير: "لا يضاد الأول ولا يُنافيه، بل يستلزِمه ويقتضيه"[2].
 
وإنما اقتَصر القرآن الكريم في بيان صفته - صلى الله عليه وسلم - على التوراة والإنجيل؛ لأنهما أقرب الكتب إليه، وهو مصدِّقٌ لما بين يديه، ولأنهما قد نسَخا ما سَبَقهما، كما أن القرآن نسَخَهما؛ وإلا فقد جاء وصفُه - صلى الله عليه وسلم - في الزبور وسائر الكتب السماوية؛ كما قال المفسِّرون والمؤرخون.
 
ويُؤثَر عن بعض السلف أنهم كانوا يُطلِقون التوراة على ما عدا القرآن، فتشمل - على هذا - الكتب السماوية السابقة جميعًا.
 
دفع شبهة:
وقد يَخطُر بالبال أنَّ هذا النعت إنما كان في التوراة قبل البعثة المحمدية، أما بعد البعثة، فلا أثر له، ولكنك لا تزال ترى دلائل نبوَّته - صلى الله عليه وسلم - في الكتابين باهرة، وأعلام رسالته بين سطورهما ظاهرة، على الرغم من اختلاف الترجمات، وتَعاقُب الدهور والأوقات، ومهما يؤوِّل أوصافَه أهل الكتابين، فلن تزال ألسنتهم تَنطِق بمعجزاته، وكتبهم تشهد بآياته؛ ﴿ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
وفي "إظهار الحق"[3] و"قَصص الأنبياء"[4] من الأخبار التي تَنطبِق عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى البلد الذي يخرج منه، ما يُغني عن مصادر كثيرة، ومؤلَّفات جمة، ولولا محاولة تأدُّبنا بأدبه - صلوات الله وسلامه عليه - في جمع الكَلِم، لأوردنا الكثير من الشواهد.
 
النظر في الكتب القديمة:
ودلَّ الحديث على إباحة النظر في الكتب القديمة، وإن بدَّلها أهلُّها وحرَّفوها، بل على طلب ذلك ممن يُحِق الحقَّ ويدعو إليه، ويُبْطل الباطل ويُحذِّر منه.
 
وقد وقع هذا في العهد النبوي والذي بعده، دون إنكار ولا نهي، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النظر في تلك الكتب والأخذ عن أهلها قبل اسْتِتباب الأحكام، واستقرار الإسلام؛ خَشية الفتن، فلما انقشعت، أُذِن لهم في الاطلاع والبحث؛ لِما فيه من جليل الفائدة، وجزيل العائدة.
 
نعم مَن خُشي عليه التباس الحق بالباطل، أو إضاعة وقته فيها من غير طائل، فقد حُقَّ عليه أن يَعدِل عن ما يضره إلى ما ينفعه.
 
دخول الأسواق والحِسبة فيها:
وأشار الحديث إلى أن دخول الأسواق والمشي فيها لا يُعارِض جلال النبوَّة، ولا يؤثِّر في وَقار المروءة، وإن كانت - كما جاء في الصحيح - أبغض البلاد إلى الله[5].
 
ولا ريب أن دخوله - صلى الله عليه وسلم - في السوق إنما هو لتَفقُّد أهلها، ونهيهم عن مُنكَرات التجارة، وإرشادهم إلى كَرَم المعاملة، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من احتسب[6] في الأسواق، لا عمر - رضي الله عنه - كما قال أكثر من كَتَب في (الحِسْبة).
 
رعاية الأمة وتفقد شؤونها:
وإذا كان مشيه - صلوات الله عليه - في الأسواق عُنوانَ العظمة في التواضع، فهو إلى ذلك مثل رائع للولاة والحكام في رعاية الأمة، وتفقُّد شؤونها في أحوالها ومعاملاتها، كتفقُّد شؤونها في عبادتها وتربيتها، وقديمًا سخِر الكفار: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 7]، فقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20].
 
من أدب الخطاب:
وفي العدول عن الخطاب إلى الغَيبة في قوله: ((ليس بفظٍّ))، مما يُسمَّى في علوم البلاغة بالالتفات - تأديبٌ كريم، وتعليم قويم؛ إذ لم يُجابِه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بما يكره وإن كان منفيًّا، ولعل في هذا الإجلالِ عِبرةً لقوم لا يتأدَّبون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأدبُ معه - صلوات الله وسلامه عليه - بعضُ ما فرَض الله له من التشريف والتكريم.
 
وعدٌ كريم:
وفي ختام هذا الحديث وعْد كريم بأنه تعالى لن يقبض خاتم النبيين إليه قبل أن يُعيد به ملَّة أبيه إبراهيم - عليهما السلام - بعد أن اندرستْ، ويُقيمها به بعد أن تعوَّجت.
 
وذلك أن بعض العرب كانوا على الرغم مما زعموا أنهم على ملة أبيهم إبراهيم - يتخبَّطون في ضلالة الشِّرك، ويتَّخذون من دون الله آلهةً، ولم يبقَ على دين الخليل إلا نفرٌ قليل.
 
ولا حاجة هنا للإفاضة في هجرة إسماعيل وأبويه، ونِسبة العرب المستعرِبة إليه؛ فقد صحَّت فيهما الآثار، وتواترتْ بهما الأخبار، وأشار إليهما الكتاب العزيز.
 
أهمية التعرف على سيرته - صلى الله عليه وسلم -:
وبعد، فإن ذنبًا لا يُغْفر، ووصمة لا تُمحى، أن يعرف الأجانبُ من سيرة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وكريم شمائله، أكثرَ مما نعرف، وكان حقًّا على أتباعه، وبخاصة أُولو العِلم منهم، أن يُحيطوا بسيرته عِلمًا، وألا يألوها دراسةً وفَهْمًا؛ فهي وسيلةُ الاهتداء بهديه والاقْتداء به؛ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
 
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي
 
[1] مجلة الأزهر، العدد الرابع، المجلد الخامس عشر، ربيع الثاني (1363 - 1944).
[2] تفسير ابن كثير 2: 728.
[3] 2: 362 - 432 للعلامة المجاهد محمد رحمة الله الهندي، المتوفى سنة 1308.
[4] ص 449 - 451 للعلامة المؤرخ عبدالوهاب النجار، المتوفى سنة 1360.
[5] رواه مسلم (671)، ولفظه من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
[6] احتسب فلان على فلان: أنكر عليه قبيحَ عمله (طه).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين