صناعة المفسر

كيف تحترف أعمال التفسير؟

يسأل كثير من المقبلين على درس التفسير عن الطريق الأمثل لإتقان صنعة التفسير، يحاولون تلمس مسار ممتاز للوصول إلى تجويد العمل التفسيري والتمكن من إنتاجه، خصوصًا مع زخم الدراسات العلمية فيه، ومقترحات صناعته، ومناهج المفسرين، وطرق التفسير واتجاهاته، وتحصيل ملكته، واستيعاب معارفه وعلومه، وكثرة مدوناته.

وأقرب الطرق الأولى إلى هذا الإمكان العلمي ليس في القراءات التثقيفية العامة التي تضع القارئ على سطوح التفسير، ولا تمكنه من الغوص في مضامينه وتحصيل مكنوناته ومدخراته.

والخطوة الأولى في تقديري لإتقان العمل التفسيري والإمساك بتلابيبه، هو التمكن من الآلة الأصولية واللغوية بفروعها من صرف ونحو وبلاغة، والعكوف الصامد لاستكشاف آلاتها، والتحكم في إدارة اللفظ العربي وفق تلك القوانين.

الصبر والمصابرة للسيطرة على تلك القوانين، واحتراف استعمالها، وليس التعاطي الخداج الذي يغادره الدارس وكثير من فراغات العلم لا تزال خارج إمكانه، وتندُّ عنه قواعدها كلما حاول الاجتلاب والتطبيق، وليس معه من التحصيل سوى بعض التأصيل دون ملكة التنزيل.

إن المادة اللغوية والقوانين الأصولية تمكن الباحث في التفسير من فهم الصنعة التفسيرية وسبر أعمال المفسرين، واكتشاف مواضع الخطأ في التفسير، وغربلة أقوال المفسرين غربلة علمية تجعله يقف على خط سير صناعتهم ومحاكمة أقوالهم إلى تلك القواعد والقوانين، وتكوين معيارية دقيقة في الحكم على منتجات التفسير.

إن كثيرًا من المصطلحات الصرفية والنحوية والبلاغية والأصولية المستخدمة ضمن أعمال المفسرين لا تفهم في كتب التفسير إلا بالإقبال على الدراسات اللغوية والأصولية، إذ تمكن الباحث من نقد أعمال المفسرين، وتعرفه طرق نحت اللفظ القرآني، والتنقيب عن معانيه، وسبر الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم.

فالصرف على سبيل المثال: ميزان العربية ومولد إنتاج معانيها، يكشف للمفسر كثيرًا من الأوجه التفسيرية، ويعرّفه علل الأقوال الخطأ في التفسير، ويضعه وجها لوجه أمام إعجاز اللفظ القرآني وأولويات انتقاء ألفاظه، ويرى برهان الدين الزركشي(ت:794) أن علم الصرف من أهم أدوات المفسر في الكشف عن اللفظ القرآني، وهو عنده أهم من علم النحو «لأن التصريف نظر في ذات الكلمة والنحو نظر في عوراضها» الزركشي، «البرهان»، (1/197).

فكيف يفهم قراء التفسير وناقدوه مصطلحات المفسرين دون ترجمتها؟

كيف يميزون بين (واو) الحال، و(واو) المعية، و(واو) العطف، و(واو) الاستئناف، مالم يدركوا استعمالات تلك المتشابهات في الجملة العربية؟

 كيف يفرقون بين نون الوقاية والتوكيد والنسوة والعوض؟

كيف يفقهون المجاز المرسل، والكناية والاستعارة، والنشر؟ وما توحي به روائح التراكيب من تقريب وتقليل وتكثير وتوكيد؟

كيف يسقط الحمولة الدلالية دون فهم دلالات الخطاب الأصولي منطوقه، ومفهومه ولحنه وفحواه...؟

كمية كبيرة من المصطلحات الدقيقة تحتشد عند بوابات النص القرآني وتجتمع في ضواحي التفسير تحاول الكشف عن أسرار اللفظ القرآني، وتحصيل أكبر قدر من معانيه ومدخراته، تحتاج إلى خبرة وبصيرة وإدراك.

وما ضعفت كثير من تفاسير المعاصرين إلا لاعتمادها على النقل المجرد دون إعادة تطبيق للقواعد والقوانين نتيجة ضعف البنية التحتية التأسيسية للمفسر.

رصد صلاح الدين الصفدي(ت:764) في «نصرة الثائر» مركزية القوة التي أهلت الزمخشري(ت:538) للريادة في علم التفسير بأنه: «باقتداره على الإعراب والنظر في أسرار العربية وتعليل أحكامها أورد تلك الإشكالات، وأجاب عنها بتلك الأجوبة المُرقِصَة، وبالنحو استطال ومهر وتبحر». الصفدي، «نصرة الثائر»، ص (282).

وكان أبو حيان(ت:745) قد اقترح على المفسر أن يعكف على «كتاب» سيبويه(ت:180) ففي محتوياته تحليل ممتلكات العرب من مستعملاتهم في الكلام وأدواتهم في فهم تراكيب الجملة العربية قال: «فجدير لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير، وترقت إلى التحقيق فيه والتحرير، أن يعتكف على كتاب سيبويه، فهو في هذا الفن المُعوَّل عليه، والمستند في حل المشكلات إليه» أبو حيان «البحر المحيط»، (1/11)

وإضافة لما اقترحه أبو حيان، فإن مارد العربية في القرن الثامن الهجري ابن هشام الأنصاري (ت: 761) ذكر أنه وضع كتابه «مغني اللبيب» لإفادة «متعاطي التفسير» ابن هشام، «مغني اللبيب»، ص (153).

والكتابان: «الكتاب» و«المغني» يدرسهما الطالب في مراحل النحو الأخيرة، عند استتباب ملكته النحوية، واستيعابه لما سبق من عناوين النحو وفرشته الأساسية، وهو دليل على المواصفات العالية التي نحتاجها لصناعة مفسر القرآن.

فالإعراب بتعبير الزمخشري: «ميزان أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة المواضع وقسطاسها». «الأساس»، (1/16).

فأنصح المختصين بالدراسات التفسيرية أن يعطوا مزيدًا من الوقت لهزيمة القاعدة اللغوية، وأخذ زمامها، وتطويع مضامينها، والتدرب على الآلة الأصولية والمهارة في استعمال أنظمتها، والتحكم بكامل نتائجها. وما عدا ذلك ليس إلا أعمالا توسعية محيطة بصلب العمل التفسيري، ومكملات تسبح بالقرب من سواحله.

القيام الصابر باصطحاب ملكتي الفهم والحفظ كفيل بإنجاز المهمة.

والله الموفق.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين