عباد الرحمن

 

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63} .

في هذه الآية الكريمة ترى التواضع مقدمة وطليعة لصفات المؤمنين وفضائل المُتقين من عباد الرحمن، الذين يَمْشُون على الأرض هَوْناً.

والتواضع الرفيع الكريم، مقدمة كل خير، وطليعة كل فضل في هذه الحياة الدنيا، ولا يراد من التواضع أن يكون ذلة واستكانة، واستسلاماً واعترافاً بالهزيمة في معركة الحياة، وتقاعداً مخجلاً عن طلاب المجد والرفعة!

إنما يراد بالتواضع: أن يعرف الإنسان قدر نفسه، وأن يدنو القريب من القريب، والجار من الجار، والمؤمن من المؤمن، والمواطن من المواطن، فإن الناس إذا تواضعوا تعارفوا وإذا تعارفوا تآلفوا، فالتقت على الخير مواهبهم، وأشرقت بالإيمان قلوبهم، وأصبح التعامل هيناً، والتسامح ممكناً.

والناس ـ في الوطن الكبير ـ أمة واحدة كالأسرة الواحدة في منزلها الهنيء السعيد ـ مع الاحتفاظ بكرامة النفس، والاعتصام بفضيلتها دون ترفع واستعلاء بمزية يستطيل بها إنسان على إنسان، وكلاهما معاً ـ إخوان جمعتهما العبودية للرحمن، فأنت ـ على هذا النحو ـ إذا نجوت بصحتك من مكان تخشى فيه الخطر من عدوى الأمراض. وإذا تساميت بنفسك عن موطن لا يليق بالكريم ـ فليس ذلك عجباً منك ولا استكباراً.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً... قال صلى الله عليه وسلم: وإن الله جميل يحب الجمال.

الكبر: بطر الحق وغمط الناس. المؤمن للمؤمن، وأخ لكل مؤمن يعيش له كما يعيش لنفسه، ويحب له من الخير ما يحبه لنفسه.

كالشجرة العالية التي تميل بها كثرة ثمارها.

أو كالشمس البعيدة في مكانتها وهي قريبة بأنوارها.

ففي السنة النبوية، من حديث الترمذي، قوله صلى الله عليه وسلم: حرمت النار على كل هين لين سهل، قريب من الناس.

وكيف يتقارب الناس بمنافعهم إذا تباعدوا بأخلاقهم، وذهب كل بنفسه مذهب التيه والتنكر والرياء.

واستهدف معين الحياة الصافي لأكدار العداوة والبغضاء.

إن أدب التواضع، يبوئ صاحبه أعلى المكانات وأرفع الدرجات. والتعاظم يهدى به إلى الحضيض الأوهد من الشقاء والانهيار...

فالمتكبر كالقائم على قمة جبل: يرى الناس صغاراً في عينه وهم ـ أيضاً ـ يرونه في أعينهم صغيراً.

وتواضع العظيم: بركة في نعمته، ومزيداً في عظمته، بل إن تواضعه مع شرفه، أشرف من شرفه، فلو وضع سراجاً قريباً من الأرض، فإنه سينير قريباً من السماء.

وقد صدق حكيم في إحدى اللغات الإسلامية، حين قال: لما تواضع المطر في نيسان للبحر العظيم، حول الله ـ في الأصداف ـ قطراته المتواضعة إلى جواهر لامعة، ولما تواضع للأرض السحاب أثبت الله به الأشجار في الصخور والهضاب!!

وهذا قمر الوجود وقائد الأبرار إلى جنات الخلود محمد سراج النبيين، وتاج المرسلين، ارتقى به معراجه الأسمى إلى ما فوق السماء ذات البروج، من سدرة المنتهى، وجنة المأوى، فلما عاد إلى كرة الأرض، لم  يستكبر على سكانها. بل أقام في بيته بشراً من البشر يخدم أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه صلى الله عليه وسلم وعاش في مجتمع إنسان الإنسانية، جميل العشرة، خافض الجناح، متواضعاً عن رفعة، زاهداً عن قدرة، منصفاً عن قوة، يبر اليتيم والمسكين، ويمشي مع الأرملة والجارية في حاجتهما، ويقبل عذر المعتذر، ويكل سريرته إلى الله تعالى بل إنه ليميل للهرة الإناء حتى تنال نصيبها من الماء !!

وعلى سنته السنية جرى أصحابه المقربون، والسلف الصالحون، يتواضع أحدهم للكبير ويقول: سبقني إلى الإسلام وبتواضع للصغير ويقول: ربما سبقته إلى ذنب، ويتواضع لمن هو مثله قائلاً: رب اغفر لي ولأخي!

لقد علمهم دينهم أنه لو بنى جبل على جبل لدك الباغي منهما! وأرشدهم قول نبيهم:يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال: يغشاهم الذل في كل مكان يساقون إلى جهنم !!.

ركب زيد بن ثابت يوماً، فأقبل ابن عباس رضي الله عنه يريد أن يأخذ بركابه فقال: مه  يا ابن عم رسول الله. فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك فأخرج يده إليه، فقبلها. وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعلى النقيض من هذا. رأى أحد المؤمنين رجلاً يطوف بالكعبة مستكبراً، ثم رآه بعد ذلك حول قصور بغداد، سائلاً متسولاً فسأله عن شأنه فقال: لقد استكبرت في مكان يتواضع فيه الناس، فابتلاني الله بالذل في مكان يتعاظم فيه الناس!

إن الكبر يجعل صاحبه مغتراً بنفسه بل جاهلاً بحقيقتها ويحمله على أن يجعل الحق تابعاً لهواه بدلاً من أن يكون هواه تابعاً للحق .. لقد كان الكبر أول معصية أضلت إبليس، وأسدلت على بصيرته الحجاب، واستعظم بعنصره الناري على التراب، وجهل أن الله يخرج من التراب نوراً ونواراً ومعادن ونضاراً، وجنات وأنهاراً!...

ولقد أصر إبليس على العناد واستكبر، فلحقته ناره إلى المحشر، وأكل آدم من الشجرة ثم تواضع بالمتاب واستغفر :[فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] {البقرة:37}.

إن الكبير بموهبة الله ليس في حاجة إلى أن يصعر خده للناس ويمشي في الأرض مرحاً، فهو غني بربه، وله من السجود معراج سماوي لقلبه.

ألا وإن طلب الندى من الجمر، والتماس الماء من الصخر، أيسر من طلب العزة عن طريق الكبر، فإن الكبر جرعة مسمومة من الشيطان لتنويم الفكر فلا يستيقظ إلا على عتبات القبر!!

أخرج الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره... طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد 7 السنة 30 -1976م 1396هـ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين